البابا إذ يجدد الحلف المسيحي الشيعي

ساطع نور الدين

لم يكن مشهداً لائقاً بالعراق ولا بضيفه الكبير، أن يتدافع رجال دين وتعلو وجوههم علامات الغضب والاستعداد للتضارب، لكي يحتلوا الحيز الأقرب الى البابا فرنسيس، ولكي يظهروا في وسط الصورة التاريخية. للوهلة الاولى، لم تكن الجبب ولا العمامات البيضاء والسوداء دليلاً واضحاً على الهوية الطائفية لأولئك المتسابقين على دخول الصورة، وعلى الالتحاق بالتاريخ، الذي لن يذكر أحداً منهم.

كان اللقاء في مدينة أور، مهد مؤسس فكرة التوحيد ونبيّها الأول، فرصة ربما لأول إجتماع من نوعه في عراق ما بعد الطغيان. إستعادة الفيديو والتدقيق في الصور والاسماء، سمحت بتبين ملامح الخلل الطائفي، والتثبت من الحضور الشيعي الطاغي في الإحتفاء بالبابا فرنسيس، والغياب السني الفادح، عن الزيارة البابوية الاستثنائية، الهادفة الى تمكين مسيحيي العراق من البقاء في بلادهم وتشجيع المهجرين منهم على العودة إلى منازلهم وكنائسهم المُعاد ترميمها بتمويل فاتيكاني مباشر، لا سيما في الموصل، التي إستحقت في يوم مضى إسم “فاتيكان العراق”.

لكن هذا الحج البابوي التاريخي الى العراق، لا يمكن أن يبقى خارج السياسة ورموزها ودلالاتها، كأي رحلة حج دينية، الى أي مزار أو مقام أو عتبة، حتى ولو إقتصرت المهمة على قيام رأس الكنيسة الكاثوليكية بنفسه  بالتواجد والتفاعل مع كاثوليك العراق، الذين كانوا في ما مضى أغلبية مسيحييه… وهم يقفون اليوم، أكثر من أي أقلية مسيحية عربية، على حافة الاندثار الفعلي من بلاد الرافدين، في واحدٍ من أسوأ وأخطر مظاهر الانحطاط العربي.

المهمة جليلة بلا أدنى شك، وهي تكسب الزيارة البابوية طابعها التاريخي بكل ما تعنيه الكلمة، مضافاً إليه تفصيل غير بسيط، هو أن بابا الفاتيكان قصد شيعة العراق، او العراق الشيعي الغلبة، لكي يعبر عن حرصه الشديد على مسيحيي العراق، ولكي يطلب من السلطة الشيعية القائمة ان تحميهم وتحافظ على وجودهم.. من “المخاطر السنية” التي كانت مصدر تهديدهم بالاقتلاع التام في العقدين الماضيين.

وبهذا المعنى، كانت الزيارة أول لقاء مسيحي شيعي من نوعه. لم يتعامل البابا مع العراق، كما هو أو كما كان، كدولة أقليات شديدة التنوع والتعدد، أكثر من أي دولة أخرى في العالم. ولم يوسع هامش الرسالة لتشمل مسيحيي الشرق، لا سيما منهم مسيحيو سوريا وفلسطين، وربما لبنان. وهذا ما يمكن ان ينسب الى لائحة أولويات فاتيكانية لا تجانب الصواب. لأن أي تأخر بابوي في الالتفات الى مسيحيي العراق، يعني الكارثة.

ولكي يشدد البابا على المغزى الفعلي لذلك اللقاء المسيحي الشيعي، كانت الزيارة الخاصة للمرجع الشيعي علي السيستاني وحده، الذي بات يمثل مرجعاً دينياً وفقهياً وسياسياً للدولة والسلطة العراقية الراهنة، خطوة سياسية مانعة للقاء الذي لم يعقد مثلا مع بقية زعماء الطوائف المسلمة والمسيحية العراقية، ولو بشكل بروتوكولي..فكان من الطبيعي ان يتحدث البابا من النجف بالتحديد، عن الحاجة الى نبذ الاضطهاد الديني، وكان من المفاجئ ان يرد السيستاني بالاشارة الى حقوق الشعب الفلسطيني.. وهي من المرات النادرة التي يتطرق فيها المرجع الشيعي الى مثل هذه الحقوق، طوال أكثر من نصف قرن على إقامته ومرجعيته في العراق.

لا يمكن بناء الكثير من الاحلام على  قرار بابا الفاتيكان أن يخص السيستاني بزيارة رسمية الى منزله في النجف، بوصفها إعترافاً من رأس كنيسة رومية بأولوية مرجعية النجف العربية على مرجعية قمّ الفارسية. فلا الظرف العراقي يسمح بهذا الاستنتاج، ولا طبعا الظرف الايراني يحتمل هذا التنافس..ولا أحوال الشيعة في العالم جاهزة للبت بهذه المعضلة الطارئة، التي لن تصمد طويلاً، وستعود الامور الى سابق عهودها، التي يختزلها شخص السيستاني نفسه.

لعل هذا التقدير للقاء الفاتيكاني العراقي، ذي المحتوى المسيحي الشيعي، هو جزء من الاسقاطات اللبنانية التي لم تعترف يوماً بالمبالغة، والتي وصلت الى حد الافتراض ان ما جرى في العراق في الايام الثلاثة الماضية هو دافع إضافي لتجديد التفاهم بين التيار العوني وبين حزب الله، ولتغييب السنة في لبنان.. برغم من أن البابا، ومهما كبرت عاطفته على مسيحيي لبنان  لن يصبح عونياً، وبرغم أن الحزب لن يعتمد مرجعية السيستاني بديلاً عن مرجعية قمّ وولايتها الطارئة على شيعة لبنان، مهما كان الثمن.

 

المصدر: المدن

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى