العبور السوري الطويل إلى مرحلة ما بعد العسكرة

  أحمد جاسم الحسين

تتسم علاقة المدني السوري بالعسكري السوري بالتعقيد، والتشابك، وهي جزء من تقاطعات الهوية السورية، فقد تناوب على البلد منذ تأسيسه حكام عسكريون، أو مدنيون يأتمرون بأمرهم، وقام أولئك العسكريون بانقلابات، كانت حجتها في كثير من الأحيان، تصحيح مسار الحاكم المدني والاعتراض على موقفه السياسي، كما قال حسني الزعيم في انقلابه الأول ضد القوتلي 1949، وهو ما تبناه حافظ الأسد كذلك في انقلابه على الأتاسي 1970 الذي سماه “حركة تصحيحية”، وقد شكل العسكر في التاريخ السوري المعاصر جسراً لكسر تراتبية السياقات الاجتماعية السورية، وإعطاء الفرصة لطبقات اجتماعية غير مخصّصة بصفتها من طبقة قادة البلاد أو المجتمع، لكنهم قدموا غالباً نموذجاً بائساً في التسلط والتحكم والبطش.

والقرار النهائي في مآل العمل والمنصب وكثير من الفرص في سوريا في مرحلة ما قبل ثورة 2011 هو قرار عسكري، فالدراسة الأمنية هي التي تجبّ ما قبلها أو تفتح له الباب، ويأتي في هذا السياق أن معظم من فتحت له أبواب الفرص في سوريا لا بد له من حامل عسكري يحميه، لذلك نشأت ظاهرة الضباط المستثمرين برأسمالهم الرمزي المتمثل بسلطتهم، وهو ما جعل ضابطاً مفوّهاً مثل بهجت سليمان يفتتح ما يشبه الصالون الفكري في أحد طوابق فرعه الأمني ليحاور “مثقفين وأساتذة جامعيين” كانوا يحجّون إليه في يوم محدد كل أسبوع، على أمل الحماية الشخصية أو العائلية، أو الحصول على فرصة يستحقها أو لا يستحقها، لكن هذا بابها الوحيد، في سوريا المعسكرة، وفي الوقت الذي يجري فيه الحوار الفكري “الراقي”  في الطوابق العليا، تحدث ألوان من التعذيب في قبو البناء نفسه لأشخاص حاولوا قول كلمتهم أو التفكير بحرية، هذه إحدى تناقضات الشخصية السورية أو جوانب من تشكلها.

كان الوزير السوري مثلاً، يناديك مهما علا شأنك العلمي أو الاجتماعي من دون ألقاب، لكنْ إنْ جاءه ضابط فسيستحضر رتبته العسكرية في الخطاب، وربما يرفّعه رتبة أعلى، أثناء الحديث معه على أمل الترفيعات القادمة، وهذا ليس بمستغرب في ظل سطوة وسلطة عرفها الوزير جيداً بخبراته المتراكمة، وكان عدد كبير من الضباط يحرصون على ارتداء لباسهم العسكري في المطاعم والتعازي والمشاوير الخاصة من أجل تحسين الخدمة وعدم الغش ومزيد من الاهتمام والوجاهة.

وفي مرحلة الثورة، كان التدخل العسكري من قبل النظام ومخابراته، وجرّ الثورة إلى العسكرة مفصلاً تحولياً في تاريخها، وهو الملعب الذي يجيد النظام توظيفه واللعب فيه، إضافة إلى كونه عالماً مليئاً بالأسرار والغموض، ويحتمل كل ألوان التفسير والجدل لأن الحقيقة فيه مائعة، وهو ما استثمره النظام محلياً عبر استعادة عصبته القبلية والطائفية، وعالمياً عبر تسويق التصدي للأصولية، والرد على العسكرة التي قام بها الطرف الآخر.

تدور في هذه المرحلة من التاريخ السوري، السريع التحول، صراعات مبطّنة ومعلنة بين الجهات القيادية المدنية من جانب، والجهات العسكرية من جانب آخر، متمثلة في: حكومة النظام السوري وجيشه، والإدارة الذاتية وقسد، والجيش الوطني والحكومة المؤقتة، وهيئة تحرير الشام وحكومتها. وستزداد هذه الخلافات كلما بردتْ الجبهات وبدأ السوريون بتفقد تفاصيلهم، والتخفيف من لا محدودية أحلامهم بالتغيير، الذي كسر ظهورهم. سيرتفع منسوب تلك الصراعات بين الأطراف المستثمرة بالعسكرة، كلما ابتعدت اللحظة عن وقوف المعارك، وسيحاول العسكريون، قدر ما يستطيعون في تلك المناطق، الدفع نحو الأمام لأن كثيراً من سلطاتهم ومنافعهم مرتبطة ببقاء الصراع العسكري الواقعي أو المتخيّل مع الآخر.

ويترافق ذلك مع تنبّه المستثمرين في الصراع العسكري إلى تدقيق ميزانياتهم وفواتيرهم، بل إن قسماً منهم يريد تحويل جزء من أموال الاستثمار نحو خدمة المواطنين في تلك المناطق؛ لأنه ميدان استثماري أكثر جدوى حالياً، بعد أن حقق استثمارهم العسكري أهدافهم، من حيث درى العسكر والمتعسكرون أو لم يدروا!

وراح المدنيون يبحثون عن متنفّسات لحياتهم بعد أن بدأت مرحلة تلاشي العصبية الحربية، والصراع مع “العدو”، وتشير كثير من المرجعيات المتعلقة في هذا المجال إلى أن أكثر المشكلات في مرحلة ما بعد الحروب، هي مآل العلاقة بين العسكري والمدني، إذ يرى العسكريون أن ما تحقق للمدنيين من انتصار أو اندحار للعدو هو بسبب تضحيات العسكريين، وليس من المعقول أن يوضعوا على الرفّ في أول فرصة، أو أن تُقلّم أياديهم، وقد اعتادوا إبان المعارك أن تُخصَّص التماثيل لأبواطهم، في حين يرى المدنيون أنه من واجب العسكريين بعد انتهاء المعركة أن يغيّروا من دورهم، ويتفرغوا لحماية مكتسبات الناس من العدو الخارجي، وأن يتركوا للعقل التنظيمي والاستثماري والفكري أن يأخذ فرصته في مرحلة حياة ما بعد الحرب!

تعدّ العسكرة جزءاً رئيسياً من الهوية السورية، نتيجة الدور والفاعلية، التي أنيطت بها عبر تاريخ تشكل الكيان السوري، ولم تُولَ ما تستحق من دراسة، بسبب انشغال كثير من الدارسين بحقول الدراسة المألوفة من مثل الإسلام السياسي أو الأحزاب في سوريا، ولضحالة المعلومات الدقيقة عنها، وارتباطها بالمقدس والممنوع، إضافة إلى كونها حقلاً قليل الحضور في الدراسات الثقافية أو الإنثروبولوجية العالمية، كون الدول المنتجة للثقافة المهيمنة عالمياً تجاوزت هذه المرحلة.

ليست العسكرة مفردة دائمة الحضور السلبي في التاريخ السوري، فقد تركت بصمة عميقة في نمط الشخصية السورية، وسرديّاتها، حتى بات تشبيه المسؤول الذي يطبق القوانين ويتسم بالصرامة بأنه عسكري، وهذا تصور إيجابي عن العسكرة بكونها حزماً وتنظيماً ودقة، وهو عكس مفهوم العسكرة السورية المرتبطة بالبطش والاستبداد واستعمال الإكراه في فرض الإرادة، وليس طرائق الدولة المدنية في الحكم، وتجدر الإشارة إلى أن العسكرة السورية في أبهى حالاتها كانت عالماً من الاستثناءات والرغائب والوساطات.

استثمر حافظ الأسد العسكرة مبكراً، ووظفها في مختلف مراحل حياته،  فهو عسكري بقدر ما هو مدني لإدراكه أهمية ذلك، فهو الفريق الرفيق الرئيس، يجمع السلطات المدنية والعسكرية، بل إنه أدخلها في تكوين الحزب الذي قاد مساره نحو العسكرة، وشكل له أجهزة أمنية، بل جعل أكثر من نصف أعضاء اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي من العسكريين، وهي التي كانت تتحكم في توجيه مسارات الحزب، وأدخل العسكر إلى الجامعات بغطاء حزبي يرابطون عند أبواب المدرجات والقاعات، وسلّح من هو معه،  وقد قبل بخيار العسكرة بالسلاح الحي لمواجهة الآخر السوري “العدو”، كانت عسكرة المجتمع أحد أبرز أساليبه للبقاء في الحكم.

واستكمالاً لحياة العسكرة في سوريا، فقد آلت القرارات في السنوات الأخيرة في الجغرافيات السورية إلى العسكري السوري (العسكري هاهنا بمختلف صوره: عسكري المؤسسة، والميليشاوي، والحزبي، والديني)، وعلى الرغم من كل مظاهر الدولة المدنية في مختلف “السوريات الحالية” فإن الكلمة الأعلى ما تزال للعسكري، وكل القرارات يمكنها أن توقف أو تخرق، في حال تقاطعها أو تعارضها مع الرؤية العسكرية.

ولأن أمد الوجع السوري قد طال، وثمة أحداث دولية وإقليمية تحاول أن تنتج حلاً، فقد قال سوريون عديدون في الأيام الماضية: إنْ كان المخرج من الوضع الحالي بمجلس عسكري كمرحلة مؤقتة فمرحباً به، وهذا فتح الباب لسوريين آخرين للقول: أمنَ المعقول بعد كل تلك التضحيات للتخلص من العسكرة والقمع نعود إلى العسكرة بصفتها حلاً؟

ويتساءل آخرون: من سيضبط هذا الوضع السوري الحالي؟ من يعيد تلك الميليشيات والجيوش إلى بلدانها أو ثكناتها أو مكانتها سوى قوة أكبر منها، هل ستكون مجلساً عسكرياً أم قواتٍ دولية أم اتفاقاً سورياً لا نعرف له طريقاً أو وقتاً؟

يرى “هنتنغتون” في سياق الحديث عن آفاق العلاقة بين المدني والعسكري أن الأمل معقود على تطوير نسق علاقات “عسكرية مدنية” من خلال سياسة احترافية للجيوش، تضمن الحد الأعلى من الأمن العسكري للبلاد، بحد أدنى من التضحية، مع الحرص في أثناء ذلك على التواصل المؤسساتي مع القيم الاجتماعية الأخرى، والمحافظة على الحياد.

لا يطمح السوريون في هذه المرحلة إلى ما دعا إليه “هنتنغتون” أعلاه دفعة واحدة، لكنهم يرون أنه من المهم تذكير العسكري السوري أياً كان انتماؤه بالهدف الرئيسي من اللجوء إلى العمل العسكري، المتمثل بخدمة الحياة المدنية والأخذ بسبل نهوضها، وعدم جعل العمل العسكري صيرورة ومآلاً بل مرحلة سيرورة مؤقتة.

الطريق السوري طويل وشاق، في بلد حكمه منذ تشكله العسكر بطريقة أو بأخرى، لذلك نشر ثقافة “ضد العسكرة” وقبولها ليس بأمر سهل، وقد صارت جزءاً من شخصية السوري عامة استناداً إلى معطيات نفسية وإنثروبولوجية، والسؤال الآخر: كيف لمؤسسات عسكرية غير احترافية يعتقد العامل فيها أن قوته غير قادمة من قوة المؤسسة، بل من السلاح الرمزي أو الواقعي الذي يحمله، أن تأخذ بيد مؤسسات مدنية نحو المأسسة أو التطوير؟

قراءةُ تجربة الدول، التي تجاوزت مرحلة العسكرة يوصلنا إلى أن “تمْدين” الجهاز العسكري ومأسسته، وفي الوقت ذاته إشباع رغبات الناس المدنيين: المالية والجسدية والنفسية والاجتماعية أحد سبل إطفاء نار العسكرة بصفتها حلاً وخياراً كما يحسب عديدون؛ لأن العسكرة ليست صفة للعسكريين فحسب، بل سلوك يترسّخ في شخصيات نظرائهم المدنيين، ليشرّع المجتمع ذاته من حيث لا يدري أبوابه لترسيخ تلك الثقافة الأبوية، الاستبدادية ويمهل الخطوات، قبل الوصول إلى مرحلة الدولة المدنية، حيث القوانين والمؤسسات وتعدّد السلطات وتداولها.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى