سمعت محمد حسنين هيكل يقول، ذات مرة، إنه التقى بوزير خارجية الفاتيكان في روما، وقد أخبره هذا الأخير وقتها نكتة تقول إن غاغارين، أول رائد الفضاء يتمكن من الطيران إلى الفضاء الخارجي والدوران حول الأرض في نيسان/ أبريل 1961، بعد أن عاد من جولته في الفضاء، التقاه الزعيم السوفياتي خروشوف آنذاك، وسأله: لقد صعدت إلى السماء، ورأيته، أليس كذلك؟ أنا أعلم أنك رأيته.. لكن أرجوك ألّا تخبر أحدًا، من أجل الشيوعية، ومن أجل استمرارها. وبعد مدة التقاه بابا الفاتيكان أيضًا، وسأله: لقد صعدت إلى السماء، واكتشفت أنه غير موجود، أليس كذلك؟ أرجوك.. اصمت.. ولا تخبر أحدًا، من أجل المسيح، واستمرار المسيحية!
كلاهما، خروشوف وبابا الفاتيكان، يشكِّك – بحسب النكتة – في معتقده، وكلاهما خائف من اهتزاز إيمان الناس بهذا المعتقد، في الوقت الذي يحمل كل منهما لواء الدفاع عنه، وعن استمراريته، بصرف النظر عن حقائق الواقع، ويبدو أن لا مشكلة لديهما في أن يعيش الناس في الوهم، وأن يستمر الوهم قائدًا ومحرِّكًا للمسيرة، ربما لأن هذا يسمح أيضًا باستمرارهما في موقعيهما.
ربما لو سمع وزير خارجية الفاتيكان بالمجلس الإسلامي السوري لأضافه إلى النكتة سابقة الذكر، أو ربما لو كان غاغارين حيًا لاستدعاه المجلس، وطلب منه أيضًا الصمت عن حقائق الوضع السوري. هل ما زال المجلس الإسلامي فعلًا واثقًا من رؤاه وفتاويه، بعد كل الذي حصل في سورية؟ هل هو خائف من تسرّب الشك إلى قلوب وعقول السوريين في الإسلام والعروبة؟ هل ما ظهر من الإسلاميين وفصائلهم يشجع حقًا على البقاء في ساحة الفتاوى التي يصدرها المجلس الإسلامي؟ ألا يرى أعضاء المجلس السوريين والواقع من حولهم وإلى أي درجة تغيروا خلال السنوات الماضية؟ أم أنهم يعرفون، ومع ذلك يسعون لتثبيت رؤيتهم و”ثوابتهم” رغمًا عن أنف الواقع الذي لم يعد يتقبل هذه الصيغ من المقاربات الواثقة جدًا، والتي لا يأتيها الباطل من أمامها أو خلفها؟!
في الحقيقة، لا العروبة ولا الإسلام يمكن أن يزولا من الوجود في سورية، لكن يمكن أن يتغيرا بدرجة أو أخرى، أو يمكن أن تتغير نظرتنا إليهما وأدوارهما ووظائفهما. لكن بالتأكيد يمكن أن تتغير مكانة الإسلاميين، ولا نستطيع أبدًا افتراض التطابق بين الإسلام والإسلاميين، مثلما لا نستطيع افتراض التطابق بين القوميين العرب والعروبة. على العموم تنبغي مناقشة ومقاربة ما يصدر عن أصحاب المعتقدات والأيديولوجيات بمنطق السياسة لا الدين أو الأيديولوجية. لذلك، عندما نناقش بيانات ومبادرات المجلس الإسلامي، أو غيره، فإنما نتناولها في حيز السياسة لا الدين؛ وجهة نظر المجلس الإسلامي في الهوية السورية هي وجهة نظر سياسية، وساحة السياسة لها مقتضياتها وشروطها وآلياتها ومصالحها التي لا تكترث لتعاليم أي معتقد أو أيديولوجية. لم تمنع الأيديولوجيات الإسلامية مثلًا فصيلين إسلاميين، فيلق الرحمن وجيش الإسلام في الغوطة الشرقية، من الاقتتال، ولا كان لـ “الفتوى الشرعية” في الحيز هذا أي أثر. للفتوى منطقها، وللسياسة منطقها، وإن كان ميدان شغلهما واحد؛ حكم الناس وإدارة شؤونهم.
وحتى في المستوى الديني، بالنسبة إلينا، يمثِّل المجلس الإسلامي وجهة نظر خاصة في الإسلام، مثل غيره من الجماعات الإسلامية، وهي إحدى القراءات الإسلامية وليست الإسلام ذاته، والمجلس حارس لوجهة نظره أو أيديولوجيته الخاصة وليس حارسًا للإسلام. المجلس الإسلامي رؤية من بين رؤى كثيرة للإسلام، وجميعها رؤى غير مقدسة.
على مستوى الاسم، كان حريًا بالمجلس أن يكون اسمه “المجلس السوري الإسلامي”، أي أن تُقدَّم الصفة السورية على غيرها من الصفات، وهذا ليس تقديمًا تفضيليًا بقدر ما هو مؤشِّر إلى نظرتنا الفعلية إلى الهوية السورية. شأن المجلس في هذا شأن الأحزاب القومية العربية التي تُقدِّم في أسمائها الصفة العربية على السورية، والأحزاب الكردية معظمها، والأحزاب اليسارية أيضًا (الحزب الشيوعي السوري وسواه). سورية “المسكينة” لا يراها أحد، ولا يرغب فيها أحد. يبدو أن القوى والهيئات والمجالس معظمها يأخذ شرعيته من، ويرسم دوره استنادًا إلى، المعتقد والأيديولوجية، لا الدولة السورية المأمولة، والواقع السياسي ومقتضياته. ولهذا نطلق عليها أجسامًا أيديولوجية معتقدية غير قادرة على إنتاج الفكر والسياسة.
ما يطرحه المجلس يصبّ في خانة السياسة لا الدين، بما فيها الفتاوى التي يصدرها؛ من ثم ينبغي أن تناقش آراؤه وفتاواه سياسيًا. لا أدري ما معنى الوطنية السورية بالنسبة إلى المجلس الإسلامي إن كان يولِّي وجهه أينما تولِّي تركيا وجهها. لا شك في أن هناك تقاطعًا بين المصالح التركية والمصالح السورية، لكن من المؤكد أنه لا يوجد تطابق. المشكلة أن العقل السياسي واحد بالنسبة إلى الإسلاميين وغيرهم؛ فالقوميون العرب اعتادوا أن يجعلوا قبلتهم خارج سورية، في مصر أو غيرها، ومثلهم فعل اليساريون والليبراليون، فلكل منهم القبلة التي يريد. يبدو أن دمشق ما كانت يومًا قبلة لأحد. هذا أيضًا مؤشِّر إلى فهمنا للهوية الوطنية.
يبدو أن المجلس الإسلامي إما أن يتدخل في السياسة ويخطئ أو يصدر الفتاوى التي تلاحق الناس في خياراتهم وحياتهم الخاصة. يتبع للمجلس الإسلامي مجلس إفتاء؛ “هيئة علمية شرعية سورية تتبع المجلس الإسلامي السوري، تعنى بإصدار الفتاوى الشرعية في النوازل في الساحة السورية في قضايا الشأن العام”. على الرغم من أن الناطق باسم المجلس عند الإعلان عنه في 14 نيسان/ أبريل 2014، قال “إن المجلس يُعتبر مرجعية إسلامية لأهل السنة، نافيًا أن يكون المجلس جسمًا سياسيًا”، إلا أن المجلس ما فتئ يتدخل في أمور السياسة، ولا مشكلة في هذا لو لم يطبع كل رأي سياسي له بطابع ديني، طمعًا في إقناع الناس به، أو منعًا لبعض الناس من مناقشته. هل الواقع السوري في حاجة إلى الإفتاء أم إلى التحليل السياسي الموضوعي، وإلى الخيارات السياسية الصائبة، وإلى حسابات موازين القوى، وإلى عقول بناءة للدولة؟!
أخطاء المجلس الإسلامي السياسية كثيرة حتى لو غلفها بلبوس ديني. يكفي أن المجلس في فتواه التي أطلقها بعنوان: “فتوى حول تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، لم يأتِ على ذكر “جبهة النصرة” آنذاك، ولا بقية التنظيمات الإسلامية الأخرى التي لا تختلف جميعها عن بعضها بعضًا إلا اختلافات بسيطة. كما أصدر المجلس الإسلامي بيانًا في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2020 عنونه بـ “بيان إلى المرابطين على الثغور والجبهات في مواجهة النظام المجرم ومن معه”، وأشار فيه إلى ترك المقاتلين جبهات القتال في سورية للقتال في بلد آخر، وجاء البيان بعد ذهاب مقاتلين سوريين إلى ليبيا وأذربيجان للمشاركة في المعارك هناك، وأكد المجلس فيه أن “الواجب يتحتم في جهاد الدفع على الأقرب فالأقرب (…)، فالعدوُ القريب أكثر ضررًا علينا، وفي دفعه أكبر مصلحة لنا”. كلام يوحي بأن سورية ليست أكثر من قطعة أرض وساحة جهاد بالنسبة إلى المجلس، وأن جهادهم يطال ساحات الدنيا كلها، وأن اعتراضهم يقتصر على الأولويات، وليس على مبدأ قتال السوريين خارج بلدهم، واستخدامهم من جانب الآخرين وقودًا لمعاركهم.
حدَّدت وثيقة المجلس حول “الهوية السورية” الصادرة في 8 شباط/ فبراير 2021 خمس نقاط، وقالت إنه من الضروري الحفاظ عليها عند الحديث عن الهوية السورية وهي: “الإسلام هو دين غالبية الشعب، سوريا جزء من العالمين العربي والاسلامي، اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، هذه الثقافة والقيم معرفات أساسية من الهوية السورية والمكونات الأخرى المتنوعة في ثقافاتها وأديانها ولغاتها، حقوقها مصونة ومكفولة”. محدِّدات الهوية السورية هذه، إن قبلنا أصلًا بمبدأ أن يكون للهوية محدِّدات ثابتة، تصلح لأي دولة وشعب في المنطقة. تصلح في العراق ومصر والأردن والمغرب وغيرها، ومن ثم هي لا تحدِّد شيئًا. ما الفرق بين سورية والبلدان السابقة مثلًا؟
ينطلق المجلس الإسلامي في حديثه عن الهوية من مقولة متكرِّرة ومعروفة تدل بوضوح على طبيعة تفكير المجلس ذاته؛ فهو يؤكد على “ضرورة الحفاظ” على الهوية السورية، وكأن هذه الأخيرة موجودة في لوح محفوظ، وما علينا اليوم، ولا دور لنا، سوى المحافظة عليها. ومن ثم يؤكد على جملة من التوصيفات التي يعرفها الجميع، ولا تضيف شيئًا. وبمتابعة بسيطة، نكتشف أن الهوية التي يريد المجلس المحافظة عليها، لا تختلف كثيرًا عما يردِّده النظام وحزب البعث، ما يوحي بأن خلاف المجلس الإسلامي مع النظام السوري، هو خلاف طائفي، لا سياسي.
أصدر المجلس رؤيته، أو في الأحرى فتواه، حول الهوية السورية بطريقة تشبه إصدار “الفرامانات”؛ مختصرة ومحدّدة وواثقة جدًا، ولا تحتوي على ما يشير إلى قبول نقاشها أو مراجعتها أو تجديدها. لا تُحدَّد الهويات بالقرارات بل بالجهد والعمل والبناء وإعادة البناء والتجديد. لا يريد المجلس مثلًا الإقرار بأن ثقافة السوريين وهوياتهم قد نمت في ظل بيئة مشوهة سيطر عليها النظام السوري مدة نصف قرن، ومن ثم هي بالضرورة هويات مشوهة، يريد المجلس المحافظة عليها كما هي، وليستمر في النظر إلى السوريين بوصفهم مسلمين ومسيحيين وعربًا وكردًا وغيرهم، وتصنيفهم استنادًا إلى انتماءاتهم لحظة الولادة، وإلى كون هذه الانتماءات والهويات ثابتة، لا النظر إليهم بوصفهم مواطنين متساوي الحقوق والواجبات في دولة وطنية ديمقراطية مستقبلية.
أكثر ما يغيب عن رؤية المجلس فكرة الدولة، الاختراع الأعظم للبشرية. فكرة الدولة غير حاضرة في تفكير المجلس، وكأننا يمكن أن نبقى موجودين أو يكون لدينا مستقبل من دون الدولة. ليست المشكلة في الهويات الموروثة، القومية والدينية والطائفية، بقدر ما هي في طبيعة الدولة؛ فليس المطلوب أن يتخلى الناس عن هوياتهم وانتماءاتهم، بقدر ما هو مطلوب بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي تتيح لهم المساواة في الحقوق والواجبات، والتفاعل السلمي في ما بينهم. ما نحتاج إليه حقًا هو فسحة من الأمل والديمقراطية لإعادة النظر في أنفسنا، وفي علاقتنا بالواقع الموضوعي، وفي علاقتنا بالعوالم الأخرى.
لا توجد مقاربة صحيّة لسؤال الهوية من دون بيئة مستقرة وديمقراطية، من دون دولة وطنية ديمقراطية. نحن لا شيء من دون الدولة، لأن هذه الأخيرة ستسمح للسوريين بإعادة النظر في تفكيرهم وموروثاتهم وانتماءاتهم المتنوعة من جهة، وستجعلهم يتفاعلون في ما بينهم سلميًا على المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى، ما يعني بالضرورة أننا سنكون أمام إنتاج جديد للهوية يستوعب التاريخ والتراث والتجارب الماضية، ويتعاطى معها انطلاقًا من حاجات الواقع الراهن وبهديٍ من المستقبل المأمول. خلاصة القول هي أن الهوية أمامنا لا وراءنا، وتحتاج إلى صناعة، شأنها في ذلك شأن الدولة الوطنية السورية والشعب السوري والأمة السورية والمواطن السوري؛ كلها تحتاج إلى صناعة، لا إلى “فرامانات” أو فتاوى، فما عاد غاغارين قادرًا على الصمت!
المصدر: المدن