عبّرت الدول الثلاث الراعية لمؤتمر أستانا، في البيان الختامي للجولة الخامسة عشر من هذا المسار، عن دعمها الكامل لأعمال اللجنة الدستورية الخاصة بسوريا، التي تجري في مدينة جنيف السويسرية. جاء ذلك بعد نحو أسبوع من الإحاطة التي قدّمها المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا أمام مجلس الأمن، واعتبر فيها أن أعمال الجولة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية «فرصة ضائعة وعبارة عن خيبة أمل»، مُحمِّلاً وفد النظام بطريقة غير مباشرة مسؤولية هذا التعطيل.
يُظهِر هذا الدعم الروسي التركي الإيراني الواضح لأعمال اللجنة الدستورية، والذي تجلّى في الإشارة بالتحديد إلى اجتماعاتها الأخيرة، محاولات ثلاثي أستانا الحثيثة، وخاصةً موسكو، لمنع انهيار هذا المسار. وفي حين لم تخفِ تصريحات المبعوث الدولي الخاص للصحافة، خلال مشاركته في أعمال مؤتمر أستانا، الرغبة الدولية بتوسيع المفاوضات لتشمل قضايا أخرى غير الدستور، فإنه ليس هناك أيّ ضغط حقيقي من قبل الولايات المتحدة أو حلفائها لتحقيق ذلك فعلاً حتى اللحظة.
وكانت الجولة الخامسة عشرة من أعمال مسار أستانا قد عُقِدَت في مدينة سوتشي الروسية في يومي السادس عشر والسابع عشر من شباط (فبراير) الجاري، أي قبل أسبوعين على الأقل من الموعد الذي حُدَِّد لها خلال أعمال المؤتمر الماضي، إذ كان الاتفاق قد تم على عقدها في شهر آذار (مارس) المقبل. ويبدو أن هذا الاستعجال جاء بهدف تقديم الدعم لأعمال اللجنة الدستورية المستعصية، ولكن أيضاً بهدف إظهار الموقع المتقدم للدول الراعية لمسار أستانا في الشأن السوري، استباقاً لأي توجهات أو استراتيجيات جديدة لواشنطن في سوريا والمنطقة.
وعلى الرغم من انحسار جزء كبير من الضغط السياسي على طهران، أحد أضلع مثلث أستانا، بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض وإعلانه بشكل مسبق نيته رفع العقوبات التي فرضها سلفه بعد انسحابه من الاتفاق النووي، إلّا أنّ ذلك لم يدفع ثلاثي أستانا إلى إظهار أي تساهل في الملف السياسي السوري من قبيل السماح بانهيار اللجنة الدستورية، التي أشار إليها البيان الختامي باعتبارها قد «شُكِّلَت بإسهام حاسم من قبل الدول الضامنة في صيغة أستانا، وتنفيذاً لمفرزات مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي».
ليس الأمر مرتبطاً باللجنة الدستورية وحدها، إذ كانت اجتماعات أستانا الأخيرة رسالة واضحة لواشنطن، التي رفضت الحضور؛ تفيد بأنّ الملف السوري ممسوك بشكل محكم من قبل إيران وروسيا وتركيا، وبأنّ على الولايات المتحدة التعامل معهم من أجل الوصول إلى حل، وهو ما لا يبدو أنّ واشنطن مهتمة به حتى اللحظة. وبهذا فإنّ اجتماعات أستانا الأخيرة كانت تهدف إلى تثبيت التعطيل في الملف السياسي السوري، باعتباره السلاح الأبرز الذي تملكه الدول الثلاث.
قد يبدو أن ثبات الوضع على ما هو عليه، خاصةً في أوضاع اقتصادية وإنسانية على حافة الانهيار، ليس في مصلحة أحد بما في ذلك حلفاء النظام المقربون، الذين يريدون على الأغلب أن يروا وجودهم مرتاحاً ضمن ظروف أكثر استقراراً، بهدف تثبيت انتصاراتهم العسكرية التي حققوها خلال الأعوام الماضية. لكنّ هذا الهدف لن يتحقق طالما لم يتم الاعتراف السياسي بنظام الأسد، أو أي صيغة ترضاها الدول الداعمة له، من قبل الدول الغربية من أجل تمرير صفقات اقتصادية تنعش البلد المدمر. هو أمرٌ لن يتحقق بدوره مع عدم تقديم تنازلات ترضاها واشنطن والدول الغربية، ما يساعد على استدامة أنماط استثنائية من السيطرة في البلد، لا تقوم إلّا باستنزافه بشكل مستمر نتيجة طبيعة الفاعلين المحليين الذين اختارهم ثلاثي أستانا للعمل معهم على الأرض.
لم يكن مشهد زيارة نصر الحريري إلى عفرين ممكناً لولا أستانا، وكذلك لم يكن مشهد التدريب المشترك بين القوات التركية والروسية في مدينة سراقب ممكناً لولا أستانا؛ خلال تثبيتهم لمواقعهم أمام أي مفاوضات جديّة مقبلة مع الغرب وواشنطن حول سوريا، يصنع كلٌّ من ثلاثي أستانا جحيمه الخاص للسوريين، جحيم يبدو من مكاننا هذا أنّه سيستمر لفترة طويلة.
على الطرف الأخر من المعادلة المفترضة، لا تبدو الولايات المتحدة ولا الدول الأوروبية الرئيسية معنية باتخاذ أي موقف أو تحرك ضد هذه الأوضاع، فواشنطن لم تُظهِر حتى اللحظة اهتماماً واضحاً وانخراطاً جدياً في دفع الملف السياسي السوري، أو تنفيذ أي ضغوط فعلية على الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بهذا الملف، لتحقيق تقدم قد يساعد على الوصول إلى مخرج ما.
لا يملك السوريون مصير بلدهم الآن، هذا صحيح جداً، لكنّ أستانا تُظهِر أنّ الثلاثي الذي يتحكم عسكرياً بأكبر مساحة من البلد لا يملك مصيره بيده تماماً، أما الولايات المتحدة والغرب فإنهم لا يُظهِرون اهتماماً كافياً بهذا المصير. في الحقيقة، هذه هي المعادلة الآن في سوريا، ونتيجتها اليوم معروفة؛ ضمن المعادلات الراهنة، لا شيء يمكن أن يحدث بحيث يتغير أي شيء.
المصدر: الجمهورية. نت