اللغة الكردية التي لا يتبنّاها السوريون

شفان إبراهيم

تتحدّث المخيلة الكُردية دوماً عن عقود المحق والسحق التي طاولت اللغة والأدب الكُردييَن. حديث لا ينفكّ عن استحضار حجم الردح والحيْف الذي وقع عليها وعلى حواملها من متعمقين أو مُدرّسين لها في الغرف الموصدة الأبواب. هذا عدا عن الجملة التي لا تزال ترافق ذاكرة طلبة المدارس والمدرسين الكُرد “ممنوع الحكي بغير العربية”، إلى أن تم تحديثها خلال الأعوام التي تلت الانتفاضة الكُردية في 2004 في قامشلو، “ممنوع الحكي بلغة أجنبية” مع فشل منع المدرسين من الحديث بلغتهم الأم بين بعضهم بعضا في غرف المدرسين وإدارة المدرسة. ولا تجد تلك الذاكرة حرجاً في الحديث عن الضرب المبرّح الذي كان الطالب يتلقفه بمجرّد الحديث بلغته. ذلك كله أمام أعين الطلبة والكادرين، التدريسي والإداري، من باقي المكونات. إلى هنا، ليس الأمر جديدا، خصوصا أن ثمة مظلومية سورية عامة اليوم، تشمل الجميع، وعلى الصعد والميادين كافة.

بيد أن جدّة الموضوع تكمن في استمرار النُخب العربية، ومن يتشرّب من أفكارهم، في التصعيد ضد تثبيت اللغة الكردية لغة قومية للشعب الكردي، ووطنية في الدستور السوري المقبل، خصوصا مع إهمال المعارضة السورية تدريسها ضمن مناطق سيطرتها، والأكثر مدعاة للاستهجان وإثارة الحساسيات القومية والأخلاقية ما تتعرض له اللغة الكُردية في عفرين، إحدى أكثر المناطق كثافة وضخامة بنسبة وجود الكُرد في سورية. هذا عدا عن أدبيات المعارضة التي لا تتنازل لكتابة أسطر بالكُردية في بياناتها أو ورقياتها. كما لم تقدّم المعارضة السورية مشروعا أو برنامجا واضحا للغة الكردية، ولو على صعيد الإعلام، إضافة إلى غياب تصوّر واضح من طرفي الحوار ضمن اللجنة الدستورية السورية لأي تصوّر حول اللغة الكردية. لم يستوعب عديدون، حتى الساعة، معنى أن تكون لغة الشعب الكُردي ملكا لجميع السوريين، وترسيخها دستوريا يضمن لها حماية سياسية وقانونية واجتماعية. وهو الفعل الذي يحمل ازدواجين، إما إنه يُثير المخاوف، ويطرح أسئلة تتعلق بمصير العيش المشترك والتعدّد اللغوي مستقبلاً، أو أنه الفعل الذي إن وجد أشاع ارتياحا نفسيا وشعبيا.

في عمق الموضوع، ثمّة رغبة وإصرار كرديان على إدراج اللغة الكردية في المنظومة التعليمية السورية مستقبلاً، يترافق معهما سؤال: لماذا ليس اليوم؟ وهل المعارضة السورية عاجزة عن الطلب من بعض اللغويين والمختصين الكُرد تأليف منهاج للمرحلة الابتدائية باللغة الكردية؟ في المقابل، ثمة سؤال بحاملين جهويين: لماذا لم تلجأ “الإدارة الذاتية” إلى تأهيل كوادر لكتب مدرسية وحوامل تربوية لتدريس اللغة الكردية، بعيداً عن قضايا جعلها طريقة للسيطرة على المجتمع، خصوصا أن إسناد تدريس اللغة الكُردية إلى حملة شهادات ما دون المعاهد سبب كارثة تعليمية عميقة على صعيد أهلية تلك الشريحة التي حصلت على “كورس باللغة الكُردية”. عدا عن التخبط الذي عاشته مراحل فرض المناهج باللغة الكردية لدى “الإدارة الذاتية”، ولم تكن منضبطة، لا بنواظم واضحة ولا تخطيط تربوي، مع فقدان محدّدات التعليم الاستراتيجي، وليست صفة إيجابية أن تتغير وتتعدل المناهج بشكل مستمر، فخلال ست سنوات من عمر مناهجها غيّرتها بما لا يقل عن ثلاث مرات.

ولماذا لم يبادر المجلس الكردي إلى استغلال وجوده ضمن أروقة المعارضة وممثليته في إقليم كردستان وأوروبا بالضغط على بعض المانحين، لتشكيل مجموعة من الخبراء والضليعين باللغة والأدب الكرديين، على أقل تقدير، لتأليف منهاج مبدئي أو مجموعة من القصص باللغة الكُردية، معتمدين على جامعيين ضليعين في اللغة الكردية، أو خرّيجي الأدب الكردي من جامعات إقليم كردستان، والمعاهد الكردية في تركيا، أو المعهد الكردي في باريس، أو بمن فيهم خرّيجو المعهد العالي للغات في دمشق، الذين حصلوا على تدريباتٍ ودروس لغوية جيدة.

لا سر في القول بشأن الإرباك الذي يُصيب السوريين، كرداً وعرباً، بشأن حداثة تجربة نقل اللغة الكردية من لغة شفهية لها من الأبجدية والأدب والتراث والمنشورات والمؤلفات المختلفة، على عدم كثرتها، في المدونة بالكردية، وهي ما كان كفيلاً بجعلها لغة تحافظ على نفسها، إلى لغة مدرسية داخل نطاق المنطقة الكُردية في سورية وخارجها، والاعتراف الدستوري، وتغيير المنظومة التربوية بما يتناسب واللغة الجديدة التي ليس من الحكمة أن تكون لغةً مدرسيةً فقط، من دون لغة التدريس، فهي، في حدّها الأدنى، لا تشبع حساسيات القواعد الاجتماعية الكردية في سورية. بل ثمّة رغبة ومطلب شعبيان وأهليان بتدريس اللغة الكردية، أفقياً وعمودياً. المطلب المُحق لا يجوز أن يبقى على صعيد الدعوات الشفهية أو المطالب ضمن الاجتماعات السياسية أو غيرها؛ فثمّة حاجة للتنبؤ بالمشكلات التي ستظهر خلال تلك النقلة للغة الكردية، من قلة الكتب والمراجع، وقلة المدرسين المختصين. خصوصا أن كتلة “المدرّسين”، الموجودين حالياً في المنطقة الكُردية، هم بأكثريتهم خرّيجو “مؤسسة اللغة الكردية” التابعة لـ “الإدارة الذاتية”. وتدريس اللغة الكردية، سواء منهاجا أو لغة، يحتاج إلى تراكم معرفي وتحصيل علمي، وهو المفقود لدى أعدادٍ لا يستهان بها من خرّيجي تلك المؤسسة. إضافة إلى وجود كتلة من النخب الكردية المتقدّمة في تحصيلها العلمي في غير اختصاص الأدب واللغة الكرديين، لكنهم على اطلاع عميق ودراسات، على مدى سنوات طويلة، بالموضوع، يضاف إليهم أعداد من خرّيجي الأدب الكردي من جامعات كردستان العراق وتركيا ومعاهدهما. هؤلاء يُمكن أن يُشكلوا العمود الفقري لمؤسسة خاصة لتدريس اللغة الكردية، وتأهيل المدرسين، وما تحتاج إليه العملية التربوية بالكُردية من مناهج ومراجع وما شابه.

وفقاً لذلك، فإن أسئلة تربوية تعليمية، مرتبطة بالسياسة والمستقبل السوري، تطرح نفسها. ما المنتظر من تعليم اللغة الكردية اليوم وغداً؟ هل يمكن أن تتحوّل إلى لغة وطنية يطالب بها العرب قبل الكرد؟ وهل ستكون، في أعلى تجلياتها، تدريس بعض الحصص الأسبوعية كلغة محكية محلية، أم سنشهد إدخالها في المناهج والكتاب المدرسي؟ وهل ستُفتتح فروع ومعاهد للغة والأدب الكُردي في الجامعات والمعاهد السورية، كباقي اللغات؟ وهل يُمكن أن نجد إقبالاً من المكون العربي للحصول على لقب مدرس لغة كردية، أسوة بمدرّسي اللغة العربية من أبناء القومية الكُردية؟ وقد سمع كاتب هذه الأسطر من خبراء في اليونسكو، في لقاء معهم، إن أحد أهم عوامل حيوية أي لغة هو تدريسها وفق قواعد محدّدة، وهي الإملاء والصرف والنحو والكتاب المدرسي والمدرس المتخصص ووسائل التدريس وطرائقه.

ثمّة مشكلة توضحت عبر الديناميكيات التي ظهرت خلال علاقة الكرد والعرب في سورية، وبشكل أعمق بعد العام 2011، إذ يشعر الكردي بحجم الصراع والصداع الجمعي الذي يدور في رأس شريكه العربي، من دون تعميم، من تمتيع اللغة الكردية بصفة اللغة الرسمية في الدستور السوري الجديد، فالكرد يرغبونها أن تكون إحدى المكتسبات السياسية الدستورية، والنخب السورية تتوجس من المطلب؛ مخافة انتعاش الهوية الكردية، والأصح ما بين هذا وذاك، أن تصبح الكردية لغة وطنية سورية ومطلبا جمعيا، خصوصا أن من وظائف اللغة التقارب المجتمعي وإيجاد جسور العيش المشترك، مع العلم أن إحدى وسائل الاندماج المجتمعي والانسجام والتنمية الدائمة هي التعدّدية اللغوية، لكن وفقاً للصيغ المطروحة، فإنها تحمل بذور انفجار شعبي قادم، أو مواجهات ناعمة في حدّها الأدنى، سواء مباشرة أو عبر وسائل الإعلام.

وللتنبيه، لن تحلّ القضية بمجرد تدوين بضع كلمات بالأحرف الكُردية على المباني الوزارية وما شابه، أو كتابة أسطر ضمن الشريط الإخباري للإذاعات المحلية بين حين وآخر. بل تتعدّى القصة إلى سؤال آخر: هل سيتمكّن الكردي من الحديث تحت قبة البرلمان باللغة الكردية مع أجهزة الترجمة إلى العربية؟ لذا، إن كانت لغة شعب تاريخي في المنطقة، تتحوّل أداة للمساومة والابتزاز السياسي، فعن أي مستقبل وشراكة سياسية وطنية سنتحدّث؟

 

ملاحظة: قد لا نتفق مع الكثير مما جاءت به المادة. لكن وددنا أن يطلع عليها قارئ الموقع.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى