بعض الزعماء يبدأون حياتهم بعد مقتلهم: الحريري مثالًا! 

محمد خليفة

من يتأمل صفحات التاريخ، ويطالع سير الأعلام، وتراجم العظماء، أنبياء، ورسلا، وزعماء، ومصلحين، ومفكرين، وثوارا، لا بد أن يلفته أن حيوات وتجارب البشر ليست واحدة، ولا متشابهة، بل تختلف اختلافا عميقا.

كما لا بد أن يلاحظ أن هناك فئة من الناس، يبدأون الشطر المهم من حيواتهم بعد موتهم، لا قبله، بعد غيابهم الجسدي، لا أثناء وجودهم الجسدي على قيد الحياة.

وفي الغالب تكون الحياة المادية لهؤلاء، بمثابة مقدمة تمهد للفصل التالي المهم المتمثل بحضور معنوي حافل بالإشعاع واللمعان والتأثير المستمر لمدى زمني طويل.

الأولى قصيرة ومحدودة وذاوية ، والثانية طويلة وحافلة وخالدة . يفصل بينهما ” الموت الجسدي الكلينيكي” الذي يصبح جسرا للعبور من المقدمة الى الموضوع . ومن الهامش الى المتن ، ومن المحدود الى المطلق .

يقيني أن الشهيد الحي رفيق الحريري (1944 – 2005) هو أحد هؤلاء الزعماء الخالدين، بدأ الفصل المهم من حياته بعد اغتياله يوم 14 شباط / فبراير 2005 .

اقتصر ظهوره الانساني والسياسي بين عامي 1980 – 2005 ، في محصلة لا تزيد على ربع قرن ، وكانت أهمية دوره ونجوميته محدودتين .

بدأت سيرته العامة بالدور الذي لعبه في إطفاء نيران الحرب الأهلية المستعرة بتؤدة ووعي وذكاء . كان جميع اللبنانيين منهمكين في حرب طاحنة ، دموية ، عبثية تقتات على لحوم الشباب اليافع الذين تنافست أحزاب اليمين واليسار على تجنيدهم ، وزجهم في جحيم مشتعل لا يشبع ، ولا يرتوي من الأجساد والدماء .

تفوق القوة الأخلاقية : 

بدأ رفيق الحريري حضوره الوطني في توظيف ثروته التي جناها من عمله في المملكة العربية السعودية لإنقاذ الشباب اللبناني ـ ومساعدتهم على نبذ السلاح ، والاتجاه لمتابعة الدراسة في أفضل جامعات العالم، والاستثمار في العلوم والمعرفة استثمارا طويل المدى، لا تعود أرباحه عليه شخصيا ، وإنما تعود على المجتمع اللبناني . وحين كان اللبنانيون منقسمين طائفيا ، تميز نهج الحريري بالوطنية والتعالي على عوامل الانقسام ، إذ رفض التمييز بين المبعوثين للدراسة على أساس المذهب والدين . في وقت اتسم سلوك الأحزاب وكل زعماء الاقطاعيات والطوائف اللبنانيين بالاستغراق في الفتنة الأهلية المستعرة ، بما فيهم الزعماء الروحيون الذين اقتفوا خطى السياسيين ، وقاسموهم خطابات الفتنة والتعصب والجنون .

أما أول حضور سياسي له ، فهو في مؤتمر الحوار اللبناني – اللبناني في جنيف 1986 ، ثم في لوزان 1984 ، وكان دوره فيه مهما ولكنه غير بارز ، ويبدو انه كان يحمل توكيلا من المملكة العربية السعودية ، والملك فهد شخصيا . وهذا الدور استمر وتطور حتى بلغ قمته في ترتيب مؤتمر الطائف ، واقناعه كل الأطراف للمشاركة والحضور ، وهو المؤتمر الذي وضع حدا نهائيا للحرب الاهلية بعد ستة عشر عاما من العنف والاقتتال ، وافتتح عهد السلام والمصالحة ونزع السلاح . وما زال اتفاق الطائف هو عقد السلام القائم بين اللبنانيين والضامن للاستقرار .

بناء على هذا الاتفاق – الانجاز الكبير أصبح رفيق الحريري زعيما لبنانيا ، يحظى بـتأييد شعبي عابر للطوائف ، وأكمل دوره في الطائف بدعم رئيس الجمهورية المنتخب في وقت لم يكن قصر الرئاسة جاهزا لسكناه ، فوفر المال والقصر والأمن لرموز الدولة والحكم ، ولماكينة الدولة . وفي أول انتخابات نيابية جرت بعد الطائف فاز الحريري وكتلته بالغالبية النيابية ، ما أهله ليكون أول رئيس للحكومة . وفي عهد حكومته ظهر المزيد من كفاءاته ، ومن مواهبه ومزاياه ، إذ سخر امكاناته المالية وعلاقاته الاقتصادية والسياسية لتوفير المال لإعادة بناء البلد الذي خربته الحرب الأهلية ، فأعاد إعمار الوسط التجاري ، والمطار والمجلس  النيابي ، والبنية التحتية ، والمشافي ، ورسخ السلام الداخلي ، واستغل علاقاته الشخصية بالزعماء العرب والأجانب لإعادة دور لبنان الى الساحة الدولية .

وفي وقت لاحق بعد مقتله اتضح أنه كان يعمل بصمت وحذر وفي الخفاء مع قادة الدول لتحقيق استقلال لبنان ، وانسحاب القوات السورية منه ، وانهاء عهد الوصاية والاحتلال الأسدي تحقيقا للاستقلال الثاني ، لا سيما أن الوجود السوري في لبنان فقد كل مبرراته ، فالحرب الاهلية انتهت ، ورغم ذلك استمر الاسد الاب ثم الابن بتكريس نفوذهما في لبنان وتحويله مزرعة لفساد أعوانه وضباطه ، وأصبح بالتحالف مع حزب الله ولبنان دورا هداما حول لبنان ساحة ابتزاز للدول الغربية والعربية ، وجني الأموال والنهب المنظم .

واتضح أيضا بعد استشهاد رفيق الحريري أنه قد وسع وعزز دوره وعلاقاته من خلال بعض الشخصيات السياسية والعسكرية من الطائفة السنية السورية ( عبد الحليم خدام وحكمت شهابي .. إلخ ) دعما لمحاولاتهم المرتعشة للتخلص من جنون بشار ، ومن تسلط ونير آل الأسد ، والطائفة العلوية عليها . وهو دور وطني وقومي عربي وانساني وسياسي عظيم ، لا يمكن التشكيك بأخلاقيته ومشروعيته، لأن العالم كله يعي أن مصير البلدين واحد ، وأن اعتلال سورية ينعكس على الشقيق الصغير ، والعكس بالعكس . فكيف لا يفكر زعيم لبناني بحجم ووزن رفيق الحريري ، يكافح لانقاذ لبنان ألا تشمل جهوده الانقاذية سورية أيضا ، بناء على حقيقة جيو- سياسية ، يعرفها الصغير قبل الكبير بارتباط لبنان الجغرافي والاجتماعي والعضوي بسورية ، وهي حقيقة تاريخية ، مدعمة بتجارب عملية متكررة عمرها مائة عام .

الأشرار الثلاثة : 

كان تحرك الحريري مكشوفا لبعض القوى اللبنانية والاقليمية ، وخاصة حزب الله ، ومن ورائه ايران ، وانتقلت المعلومات الى بشار الأسد ، فسارع الثلاثة بشكل عاجل للانتقام من الحريري ووضع حد له ، حفاظا على مصالحهم المشتركة المجسدة بمحور المقاومة والممانعة ، وما هو في الواقع سوى محور طائفي عدواني يضمر الشر للمنطقة كلها ، لا للشعبين والبلدين فقط .

ولا بد من القول إن العلاقة بين الثلاثة كان للأسد الأب الكلمة الأقوى فيها ، أما بعد خمس سنوات من انتقال السلطة العائلية الوراثية الى الولد المعتوه والاحمق ، فكلمة الفصل انتقلت الى يدي ايران ، ووكيلها حزب الله . كان الأسد الأول حريصا على المحافظة على التوازن الدقيق بين ايران والعرب في قراراته ، وخاصة في الشؤون اللبنانية ، أما في عهد بشار فلم يعد هذا التوازن قائما ، وجنح الى الطرف الآخر . وهكذا نظر هذا الطرف الى خطورة ما يقوم به الحريري ، ورأى فيه دورا لصالح السعودية ومصر ودول الخليج والعرب بعامة وفرنسا الشيراكية ، والولايات المتحدة . ولذلك قرر الثلاثة الاشتراك بجريمة قتل الزعيم الذي شكل بقوته سدا منيعا يعترض طريق خططهم الرامية لسلخ لبنان العربي عن محيطه القومي ، والحاقه بطهران وسلطتها الامبراطورية الممتدة على العراق سورية .

اغتيال الحريري جريمة ثلاثية الأطراف بلا شك ، وللثلاثة مصلحة فيها ، وأما المنفذ فهو “الحزب” بتسهيل وتواطؤ من استخبارات بشار في لبنان ، كما أثبتت تحقيقات وأدلة المحكمة الدولية الخاصة بالحريري بعد خمسة عشر عاما من العمل المضني لكشف ألغاز الجريمة الغامضة والكبيرة .

مزق المجرمون جسد الحريري ، ومزقوا معه قلب لبنان ، كما فعلوا مؤخرا بتفجير مرفأ بيروت ، وكما فعلوا مع كل أحرار لبنان ، من سمير قصير وجبران تويني الى لقمان سليم أخيرا .

ولكن القتلة لم يكونوا يتوقعون أن الموت لن ينهي رفيق الحريري ، بل سيزيده لمعانا وألقا وتأثيرا ، كما لو أنه ولد من جديد ، وبدأ دورا جديدا أعظم من سابقه . إذ اهتز العالم كله لمقتله ، وانفجر غضبا ، واتخذ قرار دوليا بإجبار الأسد على سحب جنوده ، والخروج من لبنان على عجل مطرودا ذليلا ، تحت التهديد بفرض عقوبات تستند على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ، نفذها صاغرا بدون تردد .

وأحيل الأسد نفسه للتحقيق كمجرم مطلوب للعدالة الدولية ، وخسر ما بقي له من مكانة وحصانة في الساحتين العربية والدولية .

وطاردت ” لعنة ” الحريري ، ومظلوميته حزب المقاومة حتى وضعته في قفص الاتهام والادانة الدولية ، وفقد بريقه ورصيده ، ولم يعد في نظر اللبنانيين والعرب والعالم حزبا ارهابيا منبوذا ومعزولا ومكروها ومدانا . كما أصبح بشار طاغية تاريخيا لا يذكر اسمه إلا مقرونا باللعنات والأوصاف البذيئة .

وبفضل المظلومية التي جسدها الحريري حيا وميتا ، تحول من زعيم لبناني الى زعيم لبناني وعربي وعالمي ، يرمز لتفوق القوة الأخلاقية الناعمة على قوة الشر والسلاح والإرهاب . لقد أصبح رفيق الحريري رمزا انسانيا خالدا ، مثل المسيح عليه السلام ، والإمام الحسين ، ومالكوم اكس ، وغاندي ، وياسر عرفات ، ومحمد البوعزيزي .. إلخ .

أتعلمون لماذا يجب أن نظل نذكر الحريري في كل مناسبة ، فضلا عن الأسباب السالفة ؟ لأن بعض القتلة يتعذبون كلما ذكرنا الرجل هذا الرجل العظيم الذي قتلوا ليقتلوا حلم شعب ، ويسحقوا حرية وكرامة بلد ، ويغتالوا دولة كانت ترمز للتسامح والتعايش والتعدد والتنوع ،  والازدهار الثقافي والفني والاقتصادي والحضاري .

لعل بعضهم يطأطؤون رؤوسهم بعد ستة عشر عاما خجلا من وضاعة وانحطاط سلوكهم الهمجي الوحشي.

المصدر: المدار نت 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى