ثمة إشكالية مطروحة لدى كثيرين من العرب ما تزال تلعب دورًا مؤثرًا في مواقفهم العملية وسلوكياتهم حيال مجريات الأحداث في المنطقة العربية ولا سيما في المشرق العربي ودول الطوق العربي المحيطة بفلسطين المحتلة..
الإشكالية تلك تتعلق بقضية فلسطين كقضية عربية مركزية وصلتها التفاعلية بالأحداث الجارية في كل بلد عربي.. يتفق جميع العرب الوطنيون على أن فلسطين هي قضية العرب الأولى والأساسية؛ وأنها عنوان نضالاتهم ضد العدوان الصهيوني والاستعماري على بلادهم. وبالتالي فهي بوصلة توجهاتهم التحررية حيث ينبغي أن تتركز أنظارهم وإهتماماتهم وتضحياتهم دفاعا عنها وفداء لها..ففيها مكمن الخطر الأساس وعلى مصيرها يتوقف مصير العرب عموما..ولعل ما يقوله الكاتب العروبي الوطني الحر نصر شمالي : أن مصيرنا كعرب هو مصير فلسطين..إن تحررت تحررنا وإن إندحرت إندحرنا ؛ يعبر بصدق وموضوعية عن معاني الصراع العربي – الصهيوني وخلفياته التاريخية المعروفة..
ليس هذا محل خلاف بين الوطنيين والعرب القوميين. فيتفقون أن قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى والمركزية ويرفعون شعار أنها بوصلة النضال العربي الذي ينبغي أن يهتدي بها …أما الإشكالية فتتعلق بتفسير هذه الأولوية وتطبيقاتها العملية في المواقف السياسية المتحركة…هنا يختلفون فيفترقون..
برز هذا الاختلاف وتفاقم خصوصا ؛ منذ ظهور المشروع الإيراني في المنطقة العربية بعد تمكن نظام الملالي من السلطة في إيران منذ وصول الخميني إليها..
انقسموا الى ثلاث مجموعات إزاء الموقف من هذا المشروع.
الأولى :
الذين انخرطوا في المشروع الإيراني فراحوا يبررونه ويشاركونه معاركه اليومية في مواجهة الوجود العربي في المشرق وعموم البلاد..ولهم حجج ومبررات متعددة من أول الولاء المذهبي إلى آخر إدعاءات المقاومة وشعارات القدس وفلسطين سوى ذلك من الشعارات المخادعة التي تستخدم للتأجيج المذهبي وتغطية الحقد الشعوبي الفارسي والمتاجرة بفلسطين وقضيتها لتمرير اهداف خبيثة مبيتة مشبوهة في البلاد العربية..
الثانية :
الذين أدركوا عن وعي ومعرفة عميقة حقيقة المشروع الإيراني وكذب ادعاءاته وخداع شعاراته فأيقنوا من واقع التجربة الطويلة والمتكررة والمتجددة منذ الحرب العراقية – الإيرانية ومنذ التواطؤ الإيراني الفاضح المفضوح مع الغزو الأمريكي للعراق لإسقاط نظام الوطني ثم احتلاله وتقسيمه وإقامة نظام فاسد للمحاصصة الطائفية المذهبية ذات الولاء التام لإيران برعاية الولايات المتحدة الأمريكية..
هؤلاء عرفوا فأدركوا خطورة المشروع الإيراني على الوجود العربي ومستقبل الأمة ؛ فانخرطوا في معارك دفاعية ضده في كل مكان من بلاد العرب..
الثالثة :
هم أولئك الحائرين المترددين الذين يدركون مخاطر المشروع الإيراني لكنهم يتمسكون بشعار : ” فلسطين هي البوصلة والمعيار ” ؛ فيهربون من أية مواجهة مع المشروع الإيراني وأدواته العربية – وقد أصبحت كثيرة ونافذة – بل يمتنعون عن الخوض في بيان مخاطره بزعم أولوية المواجهة مع المشروع الصهيوني الذي يغتصب فلسطين ويهدد الوجود العربي…
هؤلاء أيضا يلومون ابناء المجموعة الثانية من الذين يتصدون للمشروع الإيراني وأحيانا كثيرة يقرعونهم بشدة بل يتهمونهم أحيانا بشبهة التخلي عن فلسطين انسياقا مع ضغط العدوان الأمريكي الهادف إلى استبدال العداء العربي للصهيونية بعداء مصطنع لإيران..فإلى أي مدى يصح هذا الاتهام ؟؟
وهل مواجهة الصهيونية تستدعي السكوت على المد الإيراني وأطماعه وتخريبه ؟؟ أو بالأحرى هل مواجهة المشروع الفارسي تعني التخلي عن فلسطين وقضيتها أو أقله نسيانها وإهمال مستوجبات قضيتها ؟؟
وصولا ألى قناعة موضوعية أمينة حيال هذه التساؤلات لا بد من عودة إلى أبجديات قضية فلسطين ومقتضيات الصراع العربي ضد المشروع الصهيوني ودلالاته التاريخية الأساسية :
– يجمع التاريخ على أن فكرة إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين إنطلقت منذ مؤتمر كامبل بانرمان الإستعماري ( الإنجليزي – الفرنسي ) المنعقد في سنة ١٩٠٧ وهو المؤتمر الذي خطط لتقسيم الوطن العربي المتطلع للوحدة بعد خروج الوجود العثماني – التركي ؛ ولتوزيعه أشلاء مقتطعة على الدول الإستعمارية والإقليمية الطامعة..
وكان ذلك يهدف إلى منع وحدة العرب ومنع تقدمهم..وكان إختيار فلسطين لكونها قلب الوطن العربي وتحمل من المعاني الدينية التاريخية ما يعطي مبررات للغزو الصهيوني الأستعماري بعباءات دينية مزيفة..
لا يختلف إثنان على أن المشروع الصهيوني يستهدف الوجود العربي ذاته ..إذ ليست فلسطين مطلوبة لذاتها فقط بل مقدمة للسيطرة على كل المنطقة نيابة عن النظام العالمي الرأسمالي الفاسد..فكان شعار الوطنيين من العرب : ” إن الصراع ضد الكيان الصهيوني هو صراع وجود وليس صراع حدود ” تعبيرا أمينا عن الحقيقة الموضوعية للصراع والمواجهة..
١ – إنطلاقا من هذا فإن بديهيات المواجهة إعداد المجتمع العربي ومده بكل أسباب القوة والمنعة ليقدر على تحمل تبعات المصمود ومواجهة العدوان الصهيوني..ومن أبجديات بناء القوة تمتين الوحدة الشعبية وتعزيزها ومعالجة كل خلل فيها أو ضعف..ويكون على هذا أن كل ما او من يضعف وحدة القوى الشعبية العربية ؛ إنما يضعف القوة المطلوبة ويفتتها ويشرذمها فيخدم العدو بالتالي..فكيف إذا كان يخلق بينها الآنقسامات ويثير فيها الصراعات ويزكيها ويمدها بأسباب الآشتعال والتوهج والإستمرار ؟؟ فمن يفعل مثل هذا إنما يخرب المجتمع المستهدف والذي هو عماد أي ردع للعدوان الصهيوني عليه أو مواجهته..وهكذا فإنه يخدم قوى العدوان بشكل مباشر ؛ قصد ذلك ام لم يقصده..
أليس هذا ما يفعله المشروع الإيراني في جسد المجتمع العربي بإثارته كل العصبية المذهبية الإنقسامية التحريضية الفتاكة ؟ أليست الصراعات المذهبية السنية – الشيعية إحدى متطلبات نجاح العدوان الصهيوني ؟ فكيف يواجه هذا العدوان من كان يؤجج تلك الصراعات المذهبية بالحجج الدينية المتهافتة ؟؟ أليس هذا ما تنفذه إيران وإمتداداتها المحلية في الجسد العربي المسلم ؟؟
٢ – نظام الدولة في إيران إسلامي ويرفع شعارات الثورة الإسلامية – وإن كان بمضمونها المذهبي المنغلق – ومن هذا المنطلق توجه منذ بدايته إلى ” الشيعة ” العرب عاملا على إستقطابهم لمشروعه وفهمه للإنتماء الديني والمسألة المذهبية ؛ فكان هدفه الأول سلخهم عن إنتمائهم العربي وإلحاقهم بمشروعه التوسعي الإنتقامي الحاقد على العرب والعروبة..وقد نجح في بداياته إلى حد كبير مستخدما المسالة المذهبية بأعمق إستغلال..فتجاوب معه كثير من أبناء الشيعة العرب وإلتحقوا بصفوفه ؛ ساعده في ذلك غياب قوة عربية واضحة تحمل مشروعا عربيا وطنيا يجمع ولا يفرق ؛ ويشكل محورا جاذبا جامعا ؛ ثم إمكانيات مالية ضخمة وجهاز إعلامي تعبوي متكامل متطور..
بناء على هذا تسلل النفوذ الفارسي الإيراني إلى صلب المجتمع العربي وعمق بنيانه المسلم..حتى صارت طروحاته تطال كل شيء في حياة العرب وتمس حريتهم وقدرتهم على إتخاذ المناسب ضد أي عدوان حيث باتوا مرتهنين للقرار الإيراني وما له من مصالح وإرتباطات وحسابات..حتى بات سببا أساسيا من أسباب التخلخل الإجتماعي والآنقسام المذهبي فراح يعمل بوضوح مستفز على التهجي. والتغيير الديمغرافي السكاني للمناطق التي دخلها برعاية الآحتلال الأجنبي الذي رأى فيه أداة صالحة جيدة تخدم أهدافه الإستراتيجية..
٣ – رفع شعارات فلسطين والقدس والمقاومة ليتسلل إلى نفوس أبناء العرب الوطنيين المتعطشين لرد العدوان الصهيوني الإستعماري والمخذولين من سلاطينهم وأنظمتهم المتهالكة والمفتقدين إلى أدوات فعالة للمقاومة والتصدي للعدوان..فكان أن تجاوب كثيرون منهم مع نسق التعبئة الكلامية الإيرانية تحت عناوين المقاومة وتحرير القدس وفيلق القدس وفلسطين ..فوقعوا فرائس خديعة كبرى أضافية جديدة..
وهكذا إستغل المشروع الإيراني المسألة المذهبية الشيعية والعطش العربي لردع العدوان الصهيوني فراح يعبث في بناء المجتمع العربي المسلم تحديدا ويقسمه ويشرذمه ويمارس التهجير والتغيير السكاني ومعه تغيير الهوية العربية القومية للمجتمع العربي حيثما حل وتمكن برعاية أنظمة الإحتلال والعدوان..وهذا ما يجعله عائقا كبيرا متمكنا يعرقل بناء أية قوة عربية شعبية تبتغي رد العدوان الصهيوني أو قادرة على صده والصمود في وجهه..
فكان ما يفعله المشروع الإيراني في كل من سورية والعراق على وجه الخصوص إعانة كبرى لقوى الإحتلال والعدوان لتمكينها من وأد أية مقاومة شعبية عربية وطنية متجاوزة للإنتماءات المذهبية والطائفية..
تمكنت أدوات المشروع الإيراني الفارسي من الإمساك بمفاصل مهمة في مجتمعات عربية لم يكن بإمكان أية قوة إحتلالية أجنبية أو صهيونية أن تصل إليها وتحققها مهما إمتلكت من قوة أو إستعملت من وسائل البطش والعدوان..
وعلى هذا بنى الوطنيون العرب شعار مواجهة المشروع الإيراني بصفته مكملا للمشروع الصهيوني ومتمما له ممهدا له الأرض الشعبية بالتقسيم والتحريض المذهبي الإنقسامي..وهو ما دفع كثيرين منهم إلى إعتباره أشد خطورة من المشروع الصهيوني نظرا لكونه تسلل الى بنية المجتمع الذاتية وراح يخربها ويفتتها وهو ما لا تستطيعه الصهيونية مهما فعلت..
حتى أن كثيرين من العرب يرفع مقولة تبدو منطقية موضوعية : إن مواجهة المشروع الإيراني مقدمة تتكامل مع مواجهة المشروع الصهيوني ولا تلغيه ولا تأخذ مكانه..
فمن أجل فلسطين عربية حرة ينبغي مواجهة المشروع الإيراني .وحتى تبقى فلسطين هي القضية والبوصلة يجب القضاء على كل دعوة انقسامية وكل استغلال كاذب للإسلام ولفلسطين وللقدس وللمقاومة.