ليس اغتيال لقمان سليم مجرد عملية عابرة لهدف يمكن إمحاء بصماته، بل هي اغتيال واضح سياسياً وتصفية لشخصية معارضة ضمن البيئة الشيعية، معلنة ضد “حزب الله”. الاغتيال إرهابي والذي نفذه مجرمون بهدف إسكات الصوت، ورسائله تحمل الكثير من الترويع لمنع حرية التعبير عن الرأي وإشاعة الخوف، عبرت عنها الرصاصات الأربع التي اخترقت رأس لقمان ورصاصة في الظهر كانت كلها كافية للقول إن الرصاصة الأولى قتلت والرصاصات الباقية موجهة للآخرين. ويكفي أن يسود الصمت كي لا يخرج من هم في موقع الرأي الآخر الذين لا يشكلون تهديداً لأصحاب السطوة لإعلاء الصوت وهم مستسلمون لقدرهم ولا حول لهم ولا قوة، إلا الكلمة التي لا يجيدون غيرها.
قُتل لقمان سليم ولا حاجة للتذكير بمواقفه المعارضة، وها هي عملية الاغتيال تفتح على مسار جديد من القتل والفوضى، وتذكّرنا بمرحلة مرعبة من الاغتيالات والتصفيات التي لاحقت ناشطين ومعارضين منذ الثمانينات من القرن الماضي وحتى الأمس القريب، فبقي القاتل مجهولاً في بلد لا تُكشف فيه الجريمة عندما يؤدي وظيفته لمصلحة أبعد من مجرد القتل.
نحن نعود إلى زمن القتل بخروج القتلة من جحورهم، لإبقاء لبنان ساحة مشرّعة للاغتيالات والفوضى في ظل الانهيار وفي غياب الدولة التي فشلت في حماية اللبنانيين منذ انفجار المرفأ، وعجزت السلطة الحاكمة عن توفير أبسط مقومات الأمن لهم. منفذو الاغتيال يعرفون أن النظام السياسي الطائفي عاجز عن تحمل المسؤولية والكشف عن الجريمة تماماً كما عجز عن محاسبة الذين تسببوا في انفجار مرفأ بيروت بعد تخزين نيترات الأمونيوم في عنبره.
ليس تفصيلاً أن يتزامن اغتيال لقمان سليم مع مرور ستة أشهر على انفجار مرفأ بيروت المروّع، وليس تفصيلاً أيضاً أن يأتي في لحظة يمر فيها البلد في أسوأ مراحله وأزماته، وهو يأتي قبل أيام من ذكرى اغتيال رفيق الحريري المدوي الذي غيّر وجه لبنان، فهل أراد القتلة أن يكون اغتيال لقمان سليم فاتحة لمسار قتل جديد عنوانه سياسي واضح بعدما شهدنا اغتيالات لأسماء يريد القتلة من خلالها إخفاء أدوات الجريمة في ملفات كثيرة ومنها انفجار المرفأ؟
الرصاصات التي اخترقت رأس لقمان سليم، هي لتأكيد أن لبنان سيبقى ساحة مفتوحة على كل الاحتمالات وسائبة يمكن التلاعب بها، وإن كان سليم كشخصية يحمل مواقف ويتبنى مشروعاً معارضاً وله مجموعة علاقات داخلية وخارجية. الساحة السائبة التي سادت في الثمانينات من القرن الماضي باغتيالات بالجملة وبالرصاص أدت وظيفتها بلا أي محاسبة، ثم تجددت بظروف مختلفة بعد 14 آذار (مارس) 2005 بقتل جبران تويني وسمير قصير وجورج حاوي وبيار الجميل وغيرهم، وفتحت لبنان على الخارج للتلاعب والهيمنة والإطباق على ما تبقى من وطنية لبنانية كان يمكن الرهان عليها بعد خروج سلطة الوصاية السورية من لبنان، فكان الاغتيال سياسياً بامتياز لشخصيات سياسية وصحافية وناشطين. وها هي اليوم سياسة الاغتيال تفتتح عهداً جديداً من القتل السياسي مع لقمان، لتطرح تساؤلات عن الأهداف وما إذا كانت تريد إنهاء ما تبقى أيضاً من ظلال لبنانية ما زالت مترسخة تؤمن بالحرية والديموقراطية.
قد لا تصل التحقيقات في اغتيال لقمان سليم إلى أي نتيجة، لكن على السلطة اللبنانية وقوى الأمر الواقع أن تبدد التساؤلات التي طرحت عقب عملية القتل، من دون الاستسهال في الاتهام أو تحميل المسؤولية لطرف سياسي بعينه. فـ”حزب الله” هو المعني الأول بالإجابة عن التساؤلات، خصوصاً أن العملية حصلت في منطقة خاضعة لسيطرته، فيما المقتول هو من أشد المناهضين لسياسة الحزب ودوره. وفي كل حال لا تقف المسألة عند هذا الحد، بل تفتح على احتمالات عدة، وتساؤلات عما إذا عاد لبنان ساحة للتصفيات عنوانها القتل والاغتيال، ساحة مفتوحة على الفوضى في غياب المؤسسات وفي ظل الانهيار، ولرسائل تحمل رائحة الموت، وما إذا كان البعض قد قرر أخذ البلد إلى مسار يغيّر هويته وينهي صيغته، ويعبث به أمنياً في وقت يخسر كل الفرص المتاحة للإنقاذ.
اغتيال لقمان سليم سياسي، وقبل إنهاء حياته بأيام كانت مدينة طرابلس تشهد حالة من الفوضى، أرادت قوى وأجهزة توجيه رسائل من خلال محاولة الاستثمار بانتفاضة الناس وحرفها عن أهدافها الاحتجاجية المعيشية. سيناريوات قد نشهد الكثير مثلها خلال المرحلة المقبلة، ما دام البلد يعيش على حافة الانهيار والإفلاس، ومنها ما بعد لقمان سليم، وهل دخلنا فعلاً في مرحلة عنوانها الاغتيالات والقتل وتشريع الأبواب على انهيار دراماتيكي من بوابة الانهيار الأمني والفوضى؟
الحقيقة لم تُكشف عن سلسلة الاغتيالات التي طالت شخصيات لبنانية منذ سنوات، ولا تحققت العدالة في ظل المنظومة التي حكمت لبنان منذ 1990. وما نشهده اليوم أقل ما يقال فيه إنه أزمات متفجرة. الضحية هو لقمان سليم الذي يعرف وحده قاتله، فيما البعض يمشي على دماء الناس ومآسيهم.
المصدر: النهار العربي