بايدن لا يستطيع استعادة الهيمنة الأميركية -ولا ينبغي أن يحاول. قبل أربعة أعوام، بينما كان جو بايدن يستعد لمغادرة منصب نائب الرئيس، أخبر المنتدى الاقتصادي العالمي أن الولايات المتحدة سوف تستمر في قيادة “النظام الدولي الليبرالي” و”الوفاء بمسؤوليتنا التاريخية كدولة لا غنى عنها”. ولم تكن الأعوام التي تلت ذلك رفيقة بتأكيدات بايدن. فقد رفض الرئيس دونالد ترامب أن يكون للولايات المتحدة دور في تنظيم العالم وأطلق العنان لقومية “أميركا أولاً” بدلاً من ذلك. وربما يكون الأهم من ذلك هو أن ترامب كشف عن ضحالة الدعم السياسي المحلي للمفاهيم المجردة النبيلة التي تطلب نخب السياسة الخارجية من الجنود القتال دفاعاً عنها، ومن المواطنين دفع المال من أجلها. وبحلول وقت خوض حملته الرئاسية في العام 2020، لم يعد بايدن يتحدث كثيرًا عن النظام الدولي الليبرالي أو الضرورة الأميركية باعتبارنا الأمة التي لا غنى عنها. وشدد على شفاء الجروح المحلية في البلاد، والتأثير على الآخرين “ليس فقط بمثال قوتنا، ولكن بقوة مثالنا”.
لكن بايدن سيحتاج إلى أن يكون أكثر جرأة إذا كان لرئاسته أن تنجح. إنه يرث استراتيجية أميركية كبرى قائمة منذ وقت طويل، والتي تم كسرها بشكل منهجي ولا يمكن أن يصلحها أي تعديل في الدرجات اللونية أو فارق بسيط في السياسة. على مدى ثلاثة عقود، استمر الرؤساء الأميركيون المتعاقبون -بمن فيهم دونالد ترامب- في توسيع حروب الولايات المتحدة، وعمليات الانتشار الأمامية، والالتزامات الدفاعية في السعي وراء تحقيق الهيمنة المسلحة في جميع أنحاء العالم. وكان ثمن التفوق، كما كتبتُ في هذه الصفحات العام الماضي (“ثمن التفوق”، عدد (آذار) مارس /نيسان (أبريل) 2020)، باهظًا. بالسعي إلى الهيمنة العالمية بدلاً من مجرد الدفاع عن نفسها، صنعت الولايات المتحدة لنفسها عالمًا كاملاً من الخصوم. وأفضت هذه الخصومات بدورها إلى زيادة تكاليف الهيمنة ومخاطرها. ونتيجة لذلك، فشلت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في تحقيق هدفها الأساسي، حيث جعلت الشعب الأميركي أقل أمانًا حيث يعيش.
تدخلُ إدارة بايدن المنصب وهي عازمة على إعادة الهيمنة الأميركية، وليس الإشراف على إنهائها. ومع ذلك، فإن الحقائق ستتدخل. بينما يعالج بايدن الأولويات الملحة في أيامه الأولى -إصلاح الديمقراطية في الداخل، وإنهاء جائحة تتسبب في قتل جماعي، وتجنب فوضى المناخ، وإنقاذ الدبلوماسية الأميركية- فإنه سيجد، إذا ألقى نظرة فاحصة، أن أعباء الصدارة تتعارض مع أهدافه الخاصة عند كل منعطف.
كسر الدورة
لدى بايدن قرارات فورية يتعين اتخاذها، والتي سيكون من شأنها إما أن تضعه على مسار بنّاء أو أن توقعه في الشّرك بالطريقة السابقة نفس، وحول القضايا نفسها، مثل أسلافه. وقد تعهد بإنهاء “الحروب الأبدية” التي تشتبك فيها الولايات المتحدة وتحسين الدبلوماسية في الشرق الأوسط الكبير. وفي الأيام المائة الأولى من ولايته، سوف تتاح له فرصتان محدودتان بالوقت للقيام بذلك. أولاً، يمكنه إحياء الاتفاق النووي للعام 2015 مع إيران، وتثبيط الضغط من أجل الحرب قبل عقد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران (يونيو). ثانيًا، يمكنه أن يلتزم باتفاقية الدوحة مع طالبان وسحب جميع القوات الأميركية من أفغانستان بحلول أيار (مايو). وعلى كلتا الجبهتين، سيتعين عليه أن يحرز تقدماً كبيراً أو أنه سيرى جهوده وهي تفشل لاحقًا.
لن تكون العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني سهلة بعد أن عاقبت إدارة ترامب إيران بلا مبرر على التزامها بحصتها من الصفقة. لكن بايدن سيحتاج حتى المزيد من الانضباط والإبداع من أجل إجراء التغييرات الإستراتيجية اللازمة للصفقة لكي تستمر. وقد عانت إدارة أوباما من الاعتدال المفرط عندما أبرمت الاتفاقية في العام 2015. بالنسبة للجمهور المحلي، أكدت أن إيران ما تزال تمثل تهديدًا كبيرًا للولايات المتحدة. وفي الشرق الأوسط، عوَّضت أعداء إيران بالمساعدات ومبيعات الأسلحة ودعم الحرب التي تقودها السعودية في اليمن. وكان منح هذه العلاوات منطقياً إذا كان الهدف هو الحفاظ على الهيمنة العسكرية الأميركية على الشرق الأوسط. لكنها غذت أيضًا القوى التي قادت الولايات المتحدة إلى الانسحاب من الاتفاق النووي في عهد ترامب.
يجب أن تتعلم إدارة بايدن الدرس الصحيح. لا ينبغي أن تعود إلى الامتثال للاتفاق على الفور، وتتجنب أي إغراء باستخدام عقوبات ترامب كوسيلة ضغط فحسب، ولكن عليها أيضاً أن تسعى بلا تردد إلى افتتاح حقبة جديدة من العلاقات الدبلوماسية الطبيعية مع إيران. وبدلاً من مكافأة شركاء الولايات المتحدة في المنطقة، يجب على بايدن الوفاء بتعهده بإنهاء الدعم الأميركي للتدخل السعودي في اليمن، وخفض مبيعات الأسلحة للمملكة، وقطع المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل. وتشكل مثل هذه الإجراءات ببساطة ما هو مطلوب لإنقاذ الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط. ومع ذلك، وبالضربة نفسها، ستغير بها إدارة بايدن الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في المنطقة، بما يؤدي إلى فصل الولايات المتحدة عن تماهيها المفرط مع مجموعة من الفاعلين في المنطقة ضد الآخرين.
تقدم أفغانستان فرصة مبكرة أخرى لبايدن لإجراء تحسينات سريعة ودائمة. فقد سلمته إدارة ترامب 2.500 جندي فقط من القوات البرية في البلد واتفاقًا على سحب البقية. وينبغي أن يقبل بايدن هذا المعروف غير المقصود. إن أفضل فرصة له لإنهاء حرب الولايات المتحدة في أفغانستان هي الآن. ويجب أن يأمر بانسحاب عسكري كامل، وإلغاء الخطة التي طرحها في حملته لترك قوة مقيمة لمكافحة الإرهاب في الخلف. سوف تكون مثل هذه القوة غير ضرورية لردع الهجمات الإرهابية التي تنطلق من أفغانستان؛ حيث أنجزت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة مهمتها المتمثلة في القضاء على تنظيم القاعدة ومعاقبة طالبان. وعلاوة على ذلك، سيؤدي الفشل في الانسحاب الكامل الآن إلى إلغاء الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الولايات المتحدة وطالبان الذي ورثه بايدن، ما يتسبب في تخلي طالبان عن المحادثات والسعي إلى تحقيق المزيد من المكاسب في ساحة المعركة.
لا شك في أن بعض المسؤولين الأميركيين لن يوافقوا على ذلك؛ حيث يجادلون لصالح تأجيل الانسحاب من أجل إتاحة مزيد من الوقت للأطراف داخل أفغانستان للتفاوض على تسوية نهائية. لكن مثل هذه المفاوضات يمكن أن تتم من دون وجود القوات الأميركية، التي قد يعيق وجودها الأفغان عن إيجاد توازنهم المستقر الخاص بهم. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن أنصاف الإجراءات سوف تديم حرباً لا نهاية لها. وإذا بدأ بايدن في التراجع عن الأهداف البارزة للانسحاب، فإنه سيشجع النقاد المحليين على المجادلة، وبالتالي، فإن القوات الأميركية يجب أن تبقى هناك تحت أي ظرف من الظروف، سواء للحفاظ على المكاسب التي تحققت بشق الأنفس أو لمنع وقوع المزيد من الخسائر.
منطق استراتيجي جديد
إذا تصرف بايدن بشكل حاسم، فسوف يخرج من الأشهر الستة الأولى لولايته وقد كسر قبضة المنطق الاستراتيجي القديم وأسس لمفهوم جديد يعطي المصالح القابلة للتعرف إليها للشعب الأميركي الأسبقية على السعي غير المجدي إلى الهيمنة العالمية. وبينما ينخرط دبلوماسيًا مع إيران وينهي حرب الولايات المتحدة في أفغانستان، سيواجه بايدن اتهامات متوقعة بالتخلي عن شركاء الولايات المتحدة وتشجيع خصومها. وعلى سبيل المثال، أكد إتش آر ماكماستر، مستشار الأمن القومي السابق لترامب، أن سحب القوات الأميركية سيؤدي إلى الفشل في ترويض السلوك السيئ لكل من إيران، وطالبان، والآخرين.
يمكن لبايدن أن يستخدم صلاحيات منصبه لإظهار مدى تهافت هذه الحجج التي تفوِّت الفكرة الأساسية. ليست الفكرة هي تحويل إيران أو طالبان إلى فاعلين خيّرين، وإنما هي بالأحرى جعلهما لا تعودان تشكلان تهديدات أو مشكلات للولايات المتحدة. سوف تستمر إيران في متابعة الأنشطة الخبيثة في الشرق الأوسط، وستظل طالبان قمعية، لكنهما لن تكسبا الكثير من استهداف الولايات المتحدة إذا توقفت الولايات المتحدة عن محاولة السيطرة على الأحداث في جواريهما. ومن خلال التخلي عن الأهداف الكبيرة المبالغ فيها، يمكن للولايات المتحدة أن تتخلص من أعداء لا داعي لهم وأن تحرر نفسها لتعزيز مصالحها. ويمكنها أن تستعيد السيطرة على سياستها الخارجية.
بعد تحقيق نجاحات مبكرة في الشرق الأوسط الكبير، يمكن للإدارة بعد ذلك تطبيق منطقها الاستراتيجي في أماكن أخرى: التراجع من الخطوط الأمامية لتقليل التزامات الولايات المتحدة والتركيز على المكاسب التي تهم حقاً. وتقدم كوريا الشمالية مثالاً ممتازًا. فبعد أن فشلت في كل محاولة لتخليص النظام من الأسلحة النووية، يجب على الولايات المتحدة أن تلعب لعبة مختلفة. عليها أن تقبل بامتلاك النظام قدرة نووية في المستقبل المنظور، وتشجع بناء السلام في شبه الجزيرة، والتحرك نحو تطبيع العلاقات. وفي يوم من الأيام قد تتمكن حتى من إخراج القوات الأميركية من كوريا الجنوبية. وسيكون مثل هذا الإجراء هو أفضل طريقة لمواجهة تهديد كوريا الشمالية -ليس عن طريق نزع فتيل كل قنابلها، وإنما عن طريق إزالة الأسباب المحتملة التي تجعل هذه القنابل تستهدف الولايات المتحدة.
سيكون من الأصعب على إدارة بايدن أن تتحلى بضبط النفس في العلاقات مع روسيا -بشكل خاص مع الصين. وسيكون ذلك أكثر أهمية خشية أن تمتد إخفاقات السياسة الأميركية التي ابتليت بها في الشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين، إلى أوروبا وشرق آسيا في العقدين المقبلين. وقد أشار بايدن بالفعل إلى رغبته في العمل مع بكين في مجال الصحة العامة والبيئة، ومع موسكو بشأن الحد من التسلح. لكن هذه الأهداف الجديرة بالإشادة سيطغى عليها في نهاية المطاف الالتزام الصارم بالأولوية الاستراتيجية الكبرى، والتي من خلالها تعمل الولايات المتحدة، في سعيها إلى السيطرة على كل منطقة في العالم بشكل دائم، إلى تغذية المنافسة الأمنية الشديدة مع القوى الصاعدة أو الراغبة في تأكيد نفسها.
يمكن لبايدن أن يقوم بتحديد أولويات واضحة في وقت مبكر عن طريق إلغاء بنية الإدارة السابقة الساعية إلى إرضاء الذات من “المنافسة بين القوى العظمى”. يجب أن تدرك إستراتيجيته الأولى للأمن القومي أن الأمراض الوبائية وتغير المناخ يشكلان تهديدات للجمهور الأميركي أكثر مباشرة بكثير من شبح هجوم مسلح تشنه دول منافسة. وإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تسلط الضوء على أن الصين، باعتبارها القوة الثانية في العالم والمنتج الرائد لتقنيات الطاقة منخفضة الكربون، تظل شريكًا أساسيًا في مواجهة كلا التحديين.
من أجل الحد من العداوات التي تأتي بنتائج عكسية على المصالح الأميركية، يجب على بايدن مقاومة الدعوات المتزايدة للالتزام صراحة بخوض حرب مع الصين للدفاع عن تايوان. ويجب أن يشرع في تجديد الاستراتيجية العسكرية الأميركية في شرق آسيا. وبدلاً من ممارسة الهيمنة، يجب على الولايات المتحدة تجهيز حلفائها وشركائها لحرمان الصين من الهيمنة على الممرات المائية والمجال الجوي. وفي أوروبا، يجب عليه أن يدعو إلى وقف توسع “الناتو”، وكسر ثلاثة عقود من التوسع الذي أرهق كاهل الولايات المتحدة بالتزامات غير مبررة، وألحق الضرر بالعلاقات مع روسيا، وخنق المبادرة الأوروبية. ومن خلال التخفيض الحكيم، يمكن للولايات المتحدة أن تتعايش مع الصين وروسيا وأن تعثر على المزيج الصحيح من المنافسة والتعاون بالكيفية التي تمليها خدمة المصالح الأميركية. أما البديل فهو قضاء بقية القرن الحادي والعشرين مع ضمان العلاقات المتضاربة، والمخاطرة بنشوب حرب بين القوى العظمى، وإلحاق الضرر بالاستثمارات المحلية.
الديمقراطية في أميركا
تواجه الولايات المتحدة تحديات وجودية في الداخل، كما يقدر بايدن. وقد تعهد مستشاره للأمن القومي، جيك سوليفان، بالحكم على كل سياسة “من خلال طرح سؤال أساسي: هل سيجعل هذا الحياة أفضل وأسهل وأكثر أمانًا للعائلات في جميع أنحاء هذا البلد؟”، يحتاج الأميركيون إلى أن يعمل كل جزء من حكومتهم على تحسين حياتهم وتقوية ديمقراطيتهم. لكن الاستراتيجية الكبرى القائمة على الهيمنة المسلحة تفعل العكس. إنها تديم العداء مع العالم، وتثير مخاوف الأجانب والأعداء الداخليين المفترضين، وتغدق أكثر من نصف الإنفاق التقديري الفيدرالي المتوفر على البنتاغون عامًا بعد آخر. وهو ما يقيّد التجديد المحلي.
للسبب نفسه، لدى بايدن فرصة مفاجئة. إنه يستطيع أن يعزز الوحدة الوطنية من خلال سحب القوات الأميركية الموجودة في الخارج. ويؤيد ثلثا المحاربين القدامى بالكامل، مثلهم مثل الجمهور الأوسع، إعادة جميع القوات الأميركية إلى الوطن من أفغانستان والعراق. وقد حان الوقت أخيرًا لتلبية مطالب الجمهور بفعل الأقل لبناء الدول في الخارج والمزيد للبناء في أميركا. سوف تظل الولايات المتحدة أمة لا غنى عنها لشعبها. وفقط من خلال خدمتهم يمكنها أن تلعب دورًا مسؤولًا في العالم.
*Stephen Wertheim: نائب مدير البحوث والسياسات في معهد كوينسي لفنون الحكم المسؤول وباحث في معهد أرنولد أ.سالتزمان لدراسات الحرب والسلام بجامعة كولومبيا.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Delusions of Dominance: Biden Can’t Restore American Primacy-and Shouldn’t Try
المصدر: الغد الأردنية/(فورين بوليسي)