يتباهى بعضُ السياسيين بالشك في كلِّ شيء، وبفقدان الثقة بكل شيء. ويبدو أن لهذا الشك ما يسوِّغه، وما يسوِّغ التباهي به. وعلى أي حال، يمكن أن نقول، من زاويةٍ ثانية، إن السياسي الوطني الناجح يعرف كيف يثق، بصورةٍ تماثل وتوازي معرفته كيف يشكّ، وإذا كان الشكُ ضرورةً سياسيةً بقدرٍ كبير؛ فإن الثقة ضرورةٌ وطنيةٌ بالقدر نفسه، بل هي ضرورةٌ للشك نفسه، لتكتمل مقاصده المنهجية والأخلاقية. وصحيحٌ أن الشك ضروري للتفكير والاستنتاج السياسي، ولكن لكي نتعلم كيف نشكّ علينا أن نتعلم أولًا كيف نثق؛ فالثقة للشك مثل السؤال للجواب: من دونها لا معنى للشك ولا ضرورة؛ ومن دونها يدورُ الشك في الفراغ من دون موضوعٍ ولا نتيجة.
وفي تقديرنا، يرتبط سؤال الثقة اليوم ارتباطًا وثيقًا بسؤال الوطنية السورية، ومن ثم بسؤال الكينونة على الطريقة الشكسبيرية: أن نكون أو لا نكون؛ ذلك لأن إعادة ثقة السوريين بالسياسة الوطنية، وبناء ثقة السوريين بعضهم ببعض، يعني، في إحدى أكثر صوره أهميةً، بداية مسار التحوّل إلى الديمقراطية وبناءَ الوطنية السورية، وهذا الأخيرة هي السبيل الوحيد لصون حيوات الأفراد والجماعات.
ولنقترب من هذه الفكرة أكثر نقول: للكينونة في المكان، فردية كانت أم جماعية، بيتان، بهما تلوذ من العدم، وبوساطتهما تحتمي من الموت، وتواجه احتمالات وقوعه قبل أوانه: بيت المجتمع المدني إن كان في هذا المكان دولة وطنية، الأمر الذي لا يتوفر في المثال السوري، وبيتٌ تبنيه ثنائية القوة والأسرة (مثل التشبيح والقبيلة، البعث والطائفة، إلى ما هنالك من ترجماتٍ لثنائيات تجمع مصدر قوة ومصدر حمية عصبية). وتعمل هذه الثنائية، بطبيعة الحال، بوصفها بديلا بدائيا للمجتمع المدني في زمن ما قبل الدولة الوطنية، لكنها بديلٌ خادع يقتل الكينونة من حيث أراد الحفاظ عليها. ومع غياب البيت الأول، والتقهقر الذي يؤدي إليه الثاني، ثمّة مشروعُ بيتٍ ثالثٍ يمكن أن يلوذ به السوريون من احتمالات الموت المبكر، وهو البيت الجامع الذي يُبنى على قاعدة مراكمة ما يكفي من رأس المال الاجتماعي الوطني الذي يستند إلى الثقة الوطنية الموسّعة، وينتج من تعميق معايير الفكر المديني الحر الذي يضع المسألة الأخلاقية الإنسانية في أولويات موضوعاته، وفي دوافع محرّكات سلوكه ومقارباته. ورأس المال الاجتماعي في العموم، على خلاف صور رأس المال المعروفة، موردٌ معنوي: موردٌ يتراكم أكثر إذا زاد استهلاكه أكثر، وينضب إذا توقف استهلاكه، وهو موردٌ غير مباشر ومنتجٌ ثانوي للنشاط الاجتماعي الودي الأخلاقي، وهو مفهوم وثيقُ الصلة بالفضيلة والرذيلة. ويبدو اليوم أن بناء رأس المال الاجتماعي السوري (الوطني) وصفةٌ سحريةٌ لخلق مؤسسات سياسية موثوقة، في ظل غياب الدولة واحتكار نظام الطغمة الموارد المشتركة المحدودة أصلًا. وتبادل الثقة هو أصل رأس المال الاجتماعي ومادته. وبموجب هذا التبادل، يمكن أن يقترض السوريون معنويًا بعضهم من بعض، من دون ضمانات، بعيدًا عن القانون الرسمي، واستنادًا إلى أسس اجتماعية محضة، كما يقترض يعضهم من بعض ماديًا في قروضهم الدوارة (الجمعيات)؛ وهذا بناءٌ مهم وضروري لفكرة الواجب في غياب الدولة، أو في مراحل العمل على بناء العقد الاجتماعي الذي يؤدّي إليها؛ وبتعبيرات المفكر السياسي الروماني شيشرون: “ليس هنالك واجبٌ لا يمكن الاستغناء عنه أكثر من ردّ المعروف؛ فالبشر لا يثقون في الشخص الذي ينسى المساعدة”.
يعني ذلك بمجمله أن تعمل السياسية السورية على تحديد معايير تدعم الثقة الاجتماعية وتسهل التعاون، من طريق بناء شبكات ثقةٍ عموميةٍ، تكون بدورها نتيجة شبكات ثقةٍ مدينية تستند إلى معايير جمالية أخلاقية، منها، على سبيل المثال، فريق كرة قدم وطني، كورال غناء وطني، منابر حوارية وطنية أنموذجية، إلى ما هنالك؛ فالثقة تسهل التعاون والتعاون يعزّز الثقة، والتعاون المديني الناجح تدريب على مقاومة الشعور باللامبالاة إزاء الشأن العمومي وفعلٌ مقاومٌ للتهرّب من المسؤولية، وفي ذلك مخرج لبناء مؤسسات وطنية تمثل الثورة سياسيًا وتدعم أهدافها، وتمهد الطريق لبناء الدولة الوطنية، من دون الحاجة إلى طرفٍ أجنبي ضامن.
إذًا، ما نريد قوله بتكثيفٍ شديد: نثق، نحن السوريون، بعضنا ببعض، إذًا نحن موجودون، وأن نثق يعني أن نتبادل الثقة لا أن نستغلها؛ فأن يثق بنا الآخر، وأن يكون حريصًا على المبادرة الحسنة وتقديم حسن النيات، يعني أنه مشروع حياةٍ كريمة لنا وله، وينبغي لنا أن نبادله هذه الثقة، لا أن نستغلها لخدمة مشروعنا الخاص من مدخل ادّعاء العمومية الوطنية. ونستدرك أمرًا آخر، أن الثقة ليست عمياء، وللتمهيد لبناء الثقة شروط، وبعجالةٍ نتناول منها: الشعور الإنساني، والسمعة الحسنة، والاتزان، والعلانية.
في الشرط الأول نقول: يثق الإنسان بالضرورة بإنسانٍ آخر، وغياب الحد الأدنى من الشعور الإنساني يعني غياب أي فرصةٍ للثقة، فلا ثقة يمكن أن تُبنى مع نظام الطغمة الذي قتل السوريين وشرّدهم وهدم منازلهم بدمٍ بارد. وفي الشرط الثاني نقول إن السمعة الحسنة نتيجةُ أمانة صاحبها في القيام بالمسؤولية، وهذه الأمانة المعروفة، والتي نجحت في امتحانات كبح الانتهازية ومقاومة الإغراءات الشخصية، تجعل صاحبها حقًا شخصًا جديرًا بالثقة. ومبدئيًا، يمكن أن تكون هذه المقاربة مدخلًا لبناء الفرد السياسي، ومنحه الثقة تمهيدًا لتجاوز الإخفاق في تكوين مؤسسات وطنية ناجحة. واستنادًا إلى ذلك، كلَّ شخصٍ لا يتمتع بالسمعة الحسنة شخصٌ غير جديرٍ بالعمل السياسي الثوري في سورية (وفي غيرها) لأنه غير أهلٍ للثقة؛ ولذلك فإن تنحية هؤلاء جميعهم عن أي مناصب سياسية في المعارضة أصبحَ عملًا ثوريًا مُلحًا.
ويحيل الاتزان (الشرط الثاني) على قدرة الآخرين على التنبؤ بسلوك السياسي، وتوقع أفعاله، وهذه القدرة بدورها تحيل على سلوك السياسيين نفسه ومدى تناغمه، وعلى ندرة التخبط والارتباك في هذا السلوك؛ أي هي تحيل على نجاح السياسيين في رسم خطٍ سياسي مفكرٍ فيه سابقًا باستخدام أدوات الفكر المتاحة جميعها، وفي وضع بوصلة جامعة وطنية عمومية وناظمة، وتطوير عين سياسية شمولية تنظر، بالقلب وبالعقل، من أكثر من زاوية، وعلى أكثر من مستوى. هكذا؛ فالسياسي الذي يغير رأيه كل يومٍ، ويناقض نفسه كلَّ يوم، غير جدير بالثقة، ومن ثم غير مؤهلٍ للعمل السياسي الوطني السوري بطبيعة الحال. إذًا يحتاج تفعيل الثقة في حقل السياسة إلى وجود خطٍ سياسي، وإلى نمطٍ رصينٍ ومتزنٍ في المقاربة، وصحيحٌ أن الخط والنمط قابلان للتغير باستمرار، وليسا ثابتين في أي حالٍ، ولكن ما هو مؤكدٌ، في الأقل، أنهما لا يتغيران بين شهرٍ وآخر، مثل التغير في التوجهات والتحليلات في منشورات بعض السياسيين في وسائل التواصل الاجتماعي، وتسجيلاتهم في مجموعات “واتس أب”، ولا يتغيران كل ثلاثة أشهر، بانتهاء المدّة المحددة لرئاسة المجلس الوطني سابقًا!
وقولٌ أخير: تبادل الثقة يعني، في إحدى أكثر صوره أهميةً، تدريبَ الباطني فينا على فن الانحسار، وجهاد أنفسنا للصدق والشفافية والعلانية؛ فالبشر لا يثقون بما لا يعرفون، والباطنيون (أفرادًا وجماعات) لا يثقون بأحد، ولا يثق بهم أحد.
المصدر: العربي الجديد