تقدم صحيفة “نوفايا غازيتا” الروسية المعارضة، في تحقيق لها بعنوان “ضريبة العظمة”، صورة تفصيلة عن كيفية استغلال روسيا لارتفاع أسعار النفط في السنوات الأخيرة لتكريس حضورها الجيوسياسي في حديقتها الخلفية وفي دول بعيدة، في استنساخ حديث للأدوار التاريخية للاتحاد السوفييتي. لكن الاستثمارات التي ضخّها الكرملين تواجه صعوبات جمّة، مع استقرار السوق النفطي، وتداعياته التي ستنعكس شحاً في التمويلات الروسية لحلفائها شرقاً وغرباً، وبالتالي البحث عن حلول أخرى، كي لا تتكرّر حكاية الاتحاد السوفييتي. ويأتي التحقيق بعد فترة وجيزة من كشف المعارض الروسي المسجون أليكسي نافالني، في تحقيق مصور، عن امتلاك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قصراً تتجاوز قيمته 1.3 مليار دولار وفي وقت تشهد فيه البلاد غلياناً شعبياً على خلفية الفساد وقمع المعارضة واستمرار الاعتقالات وسط ترقب لمسار الاحتجاجات وما إذا كانت ستتصاعد، لا سيما بعد الدعوة لاحتجاجات جديدة بعد غد، الأحد.
وكشفت الصحيفة، في تحقيق لها نُشر أول من أمس، الأربعاء، أن الكرملين أنفق نحو 46 تريليون روبل (حوالي 609 مليارات دولار)، في السنوات العشرين الأخيرة، لدعم مشاريع جيواستراتيجية كبرى لروسيا في الخارج. وذكر التحقيق أنه تمّ تحويل أكثر من تريليون دولار أخرى إلى ملاذات ضريبية في الخارج، لكن معدي التحقيق أشاروا إلى أن الكرملين الذي استغل “السنوات السمان” وطفرة أسعار النفط في السوق العالمية، بدأ يواجه صعوبات كبيرة في مواصلة الإنفاق لتكريس دور روسيا العالمي على غرار ما حصل مع الاتحاد السوفييتي حين تراجعت أسعار النفط وأدت إلى نشوب أزمات داخلية. وذكر التحقيق أن عمليات تمويل الكرملين للمشاريع الخارجية العملاقة، وترويجها على أنها انتصارات لروسيا واستعادة لدور روسيا العالمي، باتت غير مقنعة لكثير من المواطنين. وأشار التحقيق إلى أن السنوات العشرين الماضية كانت حقبة المشاريع الجيواستراتيجية الكبرى بالنسبة للنخب الروسية. وذكر أنه كان يُمكن استخدام الأموال لبناء وتجهيز أكثر من 15 ألف مستشفى بأفضل المقاييس العالمية، أو إيداع نحو 400 ألف روبل (أكثر من 5 آلاف دولار)، في حساب كل روسي بالغ. وأوضح أن استخدام هذه المبالغ الهائلة تسبب في فرض عقوبات دولية صارمة على روسيا، وحرمانها عملياً من “حلفاء حقيقيين” مع دعمها للعديد من الحكام الديكتاتوريين، أو تمويل كيانات انفصالية في محيطها السوفييتي السابق. وكشف التحقيق أن دعم الأنظمة الخارجية الموالية للكرملين كلف الخزينة الروسية نحو 271 مليار دولار. وقُدّر حجم الدعم لبيلاروسيا لجذبها في إطار تشكيل دولة اتحادية مع روسيا، بنحو 109 مليارات دولار، من ضمنها نحو 100 مليار دولار قُدّمت على شكل حسومات على سعر الغاز، إضافة إلى 9 مليارات دولار على شكل قروض حكومية ميسرة. ومع إشارة معدي التحقيق إلى أن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو وصف نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأنه “صديقه الوحيد”، وقدّروا أن “هذه الصداقة” تكلّف دافعي الضرائب الروس أكثر من 5 مليارات دولار سنوياً. وربما تبدو الخسارة مضاعفة في حال سقوط لوكاشينكو، خصوصاً أن الكرملين دعمه بقوة في وجه المعارضة بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت في 9 أغسطس/ آب الماضي في مينسك. وحسب الصحيفة، فقد حلّت أوكرانيا في المرتبة الثانية في حجم المساعدات والهبات السخية أثناء فترة حكم الموالين لموسكو في كييف. وبلغ حجم الإنفاق على أوكرانيا نحو 100 مليار دولار، حسب البيانات الرسمية. وأشار الخبراء إلى صعوبة معرفة الحجم الحقيقي للحسومات على الغاز، والهبات الخفية بسبب الطبيعة السرية للبيانات. ورجحوا أن يصل المبلغ إلى أكثر من ذلك بكثير. ومنذ عام 2014 تموّل روسيا النشاطات الحكومية في “جمهورية دونيتسك الشعبية” و”جمهورية لوغانسك الشعبية”، وهما كيانان انفصاليان في شرق أوكرانيا ولا تعترف بهما إلا روسيا وبعض حلفائها المقرّبين، المعتمدين على مساعداتها ودعمها السياسي لبقائهم في السلطة. ولم تعترف بهما أيضاً أي من دول الاتحاد السوفييتي السابق، تحديداً بيلاروسيا وكازاخستان، حليفتي موسكو الأساسيتين. كما تدعم روسيا جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليتين عن جورجيا منذ نهاية عام 2009، وتؤمّن دعماً كبيراً لإقليم بريدنيستروفيا (ترانسنستيريا)، الطامح إلى الانفصال عن مولدافيا. وحسب تقديرات الصحيفة، فإن حجم المساعدات لهذه الكيانات الانفصالية بلغ في السنوات الخمس الماضية 32 مليار دولار، وشمل دفع الرواتب التقاعدية للسكان، والكهرباء المجانية للشركات، ونفقات أخرى. ونقلت الصحيفة عن الرئيس المشارك في شركة “روس إينرجي”، الخبير الاقتصادي المعروف في شؤون الطاقة ميخائيل كروتيخين، قوله إنه “يتم تسليم كل شيء تقريباً هناك بالمجان، على حساب دافعي الضرائب الروس”. ولم يحدد التحقيق حجم المساعدات المقدمة لبلدان آسيا الوسطى وشمال القوقاز.
وفي تكرار للتجربة السوفييتية، واصل الكرملين دعم حكومات كثيرة من آسيا إلى أميركا اللاتينية، مروراً بالشرق الأوسط وأفريقيا. ولفت التحقيق إلى أن حجم الدعم الذي قدمه الكرملين للسلطات الفنزويلية تجاوز الـ20 مليار دولار في السنوات العشر الماضية. وأوضح معدّو التحقيق أن شركة “روسنفت” النفطية الحكومية قدمت الجزء الأكبر من المساعدة، بتخصيصها 17 مليار دولار لنظام الرئيس نيكولاس مادورو لتلبية الاحتياجات المختلفة، علماً أن فنزويلا تدين رسمياً لروسيا بـ3.15 مليارات دولار. ولا يستبعد التحقيق أن تكون كاراكاس قد أعادت بعض هذه الأموال عبر إمدادات النفط السرية، التي تتجاوز العقوبات الأميركية. ففي السنوات العشر الأخيرة شجع الكرملين شركات النفط الروسية، مثل “لوك أويل” و”غازبروم”، على الدخول في مشاريع لاستثمار حقول النفط الفنزويلية. وتطرق معدّو التحقيق إلى ما وصفوه بـ”الاستثمار الجيوسياسي الأكثر شهرة”، وهو سورية. وقدّروا كلفة المساعدات المالية والاقتصادية لنظام بشار الأسد بنحو 4.72 مليارات دولار منذ بداية التدخل في 2015. وأشاروا إلى أن كلفة الحرب إلى جانب بشار الأسد بين عامي 2015 و2018، بلغت، وفقاً لتقديرات المركز التحليلي لحزب “يابلوكو” المعارض، نحو 3.2 مليارات دولار. ورجّح خبراء أن تكون كلفة دعم الأسد في حربه أكبر بكثير، بنسبة تتجاوز الـ50 في المائة من الكلفة المعلنة، لأن المبلغ الإجمالي لا يشمل العديد من البنود غير المعروفة، مثل كلفة مغادرة الطائرات بعيدة المدى، ونقل القوات، وتدريب العسكريين المحليين. وقُدرّت المساعدات الروسية الداعمة للنظام السوري لمواجهة وباء كورونا بنحو مليار دولار، كما ستستثمر روسيا 500 مليون دولار لتحديث ميناء طرطوس السوري، حيث ترابض القاعدة البحرية الروسية. وأوضحت الصحيفة أن الطريقة الأكثر شيوعاً بالنسبة لروسيا لدعم الأنظمة الموالية هي الدعم عبر تقديم حسومات في أسعار النفط والغاز. في السياق، تتلقى بيلاروسيا الغاز الروسي بسعر يناهز 130 دولاراً لكل ألف متر مكعب. وعلى الرغم من أن الأسعار الحالية تبدو منطقية، نظراً لانهيارها في العام الماضي بسبب كورونا وتراجع الطلب العالمي، إلا أن مينسك تحصل على حسم يراوح بين 35 و50 في المائة مقارنة بأسعار أوروبا، كما ظلت لفترة طويلة تتلقى الغاز بسعر 50 دولاراً لكل ألف متر مكعب حتى عام 2009. كما أشار نائب المدير العام للصندوق الوطني لأمن الطاقة الروسي أليكسي غريفاش إلى أن بيلاروسيا تتلقى النفط من دون رسوم تصدير، ما يوفر بين 1.5 وملياري دولار سنوياً على نظام لوكاشينكو. وبالطريقة عينها، تلقت أوكرانيا بين عامي 2009 و2014، مساعدات قدّرها الخبراء بقيمة 39 مليار دولار، منها 17 مليار دولار على شكل حسومات على إمدادات الغاز، و18.5 مليار دولار غرامات غير مدفوعة، لعدم شراء أوكرانيا الحد الأدنى من الغاز المنصوص عليه في الاتفاقات “ادفع أو استلم”، بالإضافة إلى الديون على القروض، وهي بقيمة 3 مليارات دولار. وعزا خبراء “نوفايا غازيتا” الحجم الصغير نسبياً للديون الأوكرانية (مقارنة بالديون البيلاروسية)، إلى أن روسيا استردت ديون الغاز لأوكرانيا عبر استئجار عدة خلجان في فيودوسيا وسيفاستوبول (قبل ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014)، من أجل تمركز أسطول البحر الأسود. ولم يحدد التحقيق كلفة الحرب في شرق أوكرانيا على الخزينة الروسية، نظراً لعدم وجود بيانات تقريبية عن عدد العسكريين الروس ومقدار رواتبهم الشهرية، ولأن موسكو لم تعترف رسمياً بوجود جيش روسي على أراضي دونيتسك ولوغانسك. في السياق، أشار الخبير العسكري ألكسندر غولتس إلى أن البيانات حول نفقات الغذاء والوقود والذخيرة سريّة، ما يصعب عملية تقييم كلفة العمليات العسكرية في شرق أوكرانيا. وحسب تقرير مركز “ستراتفور” الأميركي للدراسات الأمنية والاستراتيجية، فإن حجم الإنفاق على الجمهوريات الانفصالية غير المعترف بها يبلغ حوالي 5 مليارات دولار سنوياً. وتُخصص روسيا منها نحو 2.8 مليار دولار للمدفوعات المنتظمة للمتقاعدين، بواقع 1.6 مليار دولار لأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، و1.2 مليار دولار لبريدنيستروفيا. كما بلغت قيمة الغاز الذي قدمته شركة “غازبروم” إلى بريدنيستروفيا مجاناً 7 مليارات دولار، علماً أن الشركة تطالب مولدافيا بدفع الثمن، لكن الرئيسة الجديدة مايا ساندو أكدت أن بلادها دفعت كامل ديونها، وأنه ليس من العدل أن تطالب بدفع ثمن الغاز المستلم في إقليم بريدنيستروفيا الانفصالي المدعوم من موسكو.
في فئة منفصلة، حددت الصحيفة تكاليف مشاريع الطاقة الكبرى وتمويل محطات خارجية للطاقة الكهروذرية، وقدّرها التحقيق بنحو 224 مليار دولار. وأوضح التحقيق أن كلفة بناء خطوط أنابيب الغاز “سيلا سيبيري” (قوة سيبريا ــ مشروع لنقل الغاز إلى الصين)، و”نورد ستريم 2″ (في الشمال الأوروبي)، و”ترك ستريم” (السيل الجنوبي مع تركيا)، من قبل شركة “غازبروم” الحكومية، قد تصل إلى 133.4 مليار دولار. وذكر أن معظم المحللين وصفوا المشاريع بأنها “مشاريع ذات دوافع سياسية وغير مجدية اقتصادياً”، معلّلين ذلك بأن الأموال الضخمة لتنفيذها تذهب في المقام الأول إلى جيوب المقاولين. وأوضح التحقيق أن روسيا تحاول تحقيق طموحاتها السياسية في الطاقة النووية. فمن أجل بناء 21 وحدة طاقة في الخارج، والتي تم بالفعل توقيع عقودها، خصصت الدولة 92 مليار دولار لشركة “روسآتوم”. وأضاف أنه عادة يتم بناء محطات الطاقة النووية في البلدان التي لا تستطيع أن تبنيها بمفردها، ولن يقوم أي مصرف بإقراضها المال نظراً لعدم وجود ضمانات كافية للتسديد. هنا يعمد الكرملين إلى تمويل هذه المحطات بقروض ميسرة وفائدة منخفضة، أو حتى من موجودات صندوق الرفاه الوطني الروسي. ولفت معدو التحقيق إلى أن الكرملين لا يكتفي بتوزيع دعم الطاقة بسخاء، وبناء محطات الطاقة النووية وخطوط الأنابيب في جميع أنحاء العالم، وتقديم القروض إلى البلدان الأخرى، ولكنه يشطب الديون السابقة. وأوضحوا أن روسيا شطبت نحو 116 مليار دولار في العقدين الأخيرين، من ضمنها 20 مليار دولار للبلدان الأفريقية و31.7 مليار دولار لكوبا. وخلص التحقيق إلى أنه في ظل تراجع الدخل من صادرات النفط والغاز، وفي ظل قناعة بأن “السنوات السمان” لن تعود أبداً، نظراً لأن الأسعار المرتفعة لأسعار النفط لن تدوم طويلاً، فإن عصر “تدخلات الكرملين الجيوسياسية الخارجية يقترب من نهايته أيضاً”. وسبق أن تطرق الكثير من الخبراء إلى ضرورة الاتعاظ من انهيار أسعار النفط في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وفشل التدخل العسكري في أفغانستان، اللذين ساهما في زوال الاتحاد السوفييتي.
المصدر: العربي الجديد