حكاية عن نظام المقاومة والممانعة.!!

عبد الرحيم خليفة

مقدمة لابد منها:
بالأمس 18كانون ثاني/يناير 2021 رحل عن دنيانا الأخ والصديق خالد الجاسم، رحمه الله، رحمة واسعة وغفر له وجعل الجنة مثواه…  السطور التالية كتبتها عنه، دون ذكر اسمه الصريح، ونشرت في موقع الأيام الالكتروني، في عام 2013، وللأسف فقد فقدت رابط المادة الذي نشرت به.
وفاءً له أعيد نشر المقال / القصة مع الإعلان صراحة أنه “بطل” الحكاية، وهي تكشف وعيه المبكر الذي سبقنا به بفطرته الصادقة. أخي خالد الجاسم (أبو أسامة) وداعاً.. وداعاً. إننا محزونون.

ترددت كثيرًا في رواية هذه القصة لأسباب عديدة، سأذكرها فيما بعد، ولكني وجدت في الآمر أمانة تاريخية، توجب حكايتها، ولآنها تسلط الضوء على كثير مما غفلنا عنه، ولم ندركه إلا متأخرين، كما أنها تشير إلى نمط من الرجال الآفذاذ ظلوا قابضين على الجمر طوال السنوات العجاف التي مرت من حكم العائلة – العصابة، لم يهنوا، ولم يساوموا، ولم يتراجعوا عن قناعاتهم، ومبادئهم الحقة، ودفعوا ثمنا غاليا لها، ويستحقون اليوم إعادة الاعتبار لهم …
ترددت في رواية الحكاية للأسباب التالية:
1-إنني لست طائفيا، بطبعي، والقصة والعبرة منها، محض مذهبية، ولطالما كنت ولازلت بتفكيري، وسلوكي الشخصي، وعلاقاتي، عابرا، أو متجاوزا، للمسألة المذهبية والطائفية.
2- إن القصة اليوم أمام هول الجرائم، وما يحصل، بشكل لحظي، لم تعد ذات قيمة إلا بدلالتها التاريخية، والمبكرة، على نهج نظام حاقد جانبنا الصواب في توصيفه بشكل دقيق.
3- إن القصة جزء من تاريخ كامل يستحق أن يروى ، وعلى لسان أصحابه وبشهاداتهم، ولكن لم يحن الوقت بعد، لكل ذلك، على ما يبدو، وعليه أستميح صاحب الواقعة بنشر القصة ودون استئذان منه، أملا بلحظة قريبة يعرض فيها الكثير عن تاريخ مرحلة طويلة هي ملك الأجيال القادمة.
******
تعود الحكاية إلى بداية الثمانينات من القرن الماضي، والواقعة جرت في محافظة الحسكة، و”بطلها” حي يرزق، ربما سيقرأ هذه السطور.
عامل بسيط، فقير، معيل لأسرة كبيرة، لكنه مثقف ومتابع للشأن العام، ومنذ نعومة أظافره انخرط في العمل السياسي، السري بالطبع، جريا على عادة أحزاب وتنظيمات ذلك الزمان، التي ناهضت النظام وقاومته، في ظل نظام منع السياسة وحجبها عن المجتمع.
حوار عادي حول تطورات الحرب العراقية -الإيرانية أدان فيه الرجل موقف النظام المؤيد لإيران، وأصر على القول، في سياق حديثه، أن المحمرة منطقة عربية محتلة، وليس خورمشهر، حسب تسميتها الإيرانية، فما كان من محاوره إلا أن استشاط غضبا وعنفا، وذاك هو رئيس اللجنة النقابية للمصنع، وبمعنى أخر كما يعرف الجميع، رجل أمن يعتش من كتابة التقارير والوشاية بالعمال في المصنع، ومراقبة سلوكهم والكشف المبكر عن قناعاتهم.
انتهى الحوار بينهما ولم تنتهي الواقعة.!!!
فجرا كان زواره، المعروفون، يقرعون الباب ليصحبوه إلى جهة مجهولة، عرف فيما بعد أنها الآمن السياسي بالمحافظة، حيث بدأ تحقيق طويل معه، تخللته حفلات تعذيب مرير، حول أكثر من نقطة، هل اسم تلك المنطقة المحمرة أم خورمشهر؟؟؟ ومن أين أتى بتلك المعلومات عن عروبتها؟؟ وإلى أي اتجاه فكري أو سياسي ينتمي الرجل؟؟؟ وإن كان منتسبا لأحد التنظيمات المعارضة؟؟!!!! وهكذا…إلخ.!!!
أصر الرجل على عروبة المحمرة، ونفى انتماءه إلى أي حزب سياسي، مؤكدا أن ذلك من ثقافته وقراءاته الشخصية، وكل وقائع التاريخ والجغرافيا، والشواهد الأخرى، تؤكد عروبة المحمرة وهي محتلة.!!!
لم تفد مع الرجل حملات الإقناع عبر التعذيب والترهيب والترغيب فطوي ملفه وأحيل للسجن المركزي، بموجب الأحكام العرفية، وقانون الطوارئ…!!
بقي في السجن حوالي ثلاث سنوات ونصف …. خلال تلك السنوات جاءت الى السجن لجان أمنية عديدة، من دمشق، للنظر في قضايا الموقوفين، ومراجعة ملفاتهم، وفي كل مرة كان يسأل هل هي المحمرة أم خورمشهر؟؟؟ ويجيبهم بلغة الواثق هي المحمرة بكل تأكيد، فيعيدونه إلى مكانه…
مع مرور الأيام والشهور، كانت تزوره زوجته وبعض أفراد اسرته ويتوسلون إليه أن يقول هي خورمشهر، لينتهي الآمر ويخرج إلى الحرية، ولكنه كان يرفض، وتوفي والده بعد صراع مع المرض، دون أن يلقي عليه نظرة الوداع، حتى أن قيادة تنظيمه أرسلت له رجاءً خاصًا، بتغيير موقفه ولكنه أصر، وبقي يردد أن المحمرة عربية، وإيران دولة محتلة …!!
في إحدى جلسات التحقيق معه قال لفؤاد بدر (رئيس فرع الآمن السياسي وشقيق عدنان بدر حسن): أنه عندما كان يدافع عن بلاد العروبة جنبا إلى جنب مع المقاتل العراقي (في إشارة لمشاركة القوات العراقية في حرب تشرين) كان هو (أي فؤاد بدر) يسرق الدجاج …تذكيرا له بماضيه عندما كان ضابط شرطة صغير …!!!
ذلك هو نظام الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة، وذلك نمط من الرجال قل مثيله في ذلك الزمن الرث.!!!

للقصة فصل أخر، لكنه متعلق بالرجل وليس الواقعة نفسها …
بعد خروجه من السجن بعام تقريبا، حصلت حملة اعتقالات واسعة طالته مع أخرين من تنظيمه، وكانت مفاجئة عندما تمت مراجعة تاريخه أنه معتقل سابق على خلفية تلك القضية، المشار إليها، (عروبة المحمرة واحتلال إيران لها) دون التمكن من انتزاع اعتراف منه، مما ضاعف بتعذيبه، لفشلهم طوال سنوات سجنه بنزع اعتراف منه …!!!
نظام ذو بنية طائفية حاقدة، لم تكن العروبة والمقاومة والممانعة إلا غطاءً له …
حكاية كان يجب الوقوف عندها مطولا …
حكاية من حكايا عتيقة لا تنتهي، نتذكرها اليوم معترفين بفوات اللحظة التاريخية.!!!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى