تَرافق التقرير الفصلي الأخير الصادر عن “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” حول إيران، والذي تم الكشف عنه في 3 آذار (مارس)، مع تقرير آخر للوكالة، ينتقد النظام الإيراني على عدم تعاونه ومنعه المفتشين من أداء مهامهم. وبالاطلاع على محتوياته، يلمس المرء حالة إنكار يدرك فيها المعنيون الحقيقة، ولكنّهم يدّعون غير ذلك لتفادي المواجهة -وهي أن خطة العمل الشاملة المشتركة للعام 2015 حدّت من طموحات إيران وأنشطتها النووية. وقد حمل التقرير المرافق رسالةً ضمنية مفادها أن الشكوك التي عبّرت عنها إدارة ترامب وغيرها في الدوافع والأعمال الإيرانية كانت في محلها.
ويكشف التقرير الفصلي الرئيسي أن مخزون إيران من اليورانيوم المنخفض التخصيب قد تضاعف ثلاث مرات تقريباً منذ صدور التقرير السابق في تشرين الثاني (نوفمبر). ومن الناحية النظرية، يعني ذلك أن زيادة التخصيب قد تُمكّن إيران من إنتاج ما يكفي من اليورانيوم المستخدم لصنع قنبلة نووية بسيطة خلال ما يزيد قليلاً على ستة أشهر، اعتماداً على عدد أجهزة الطرد المركزي المستخدمة وفعاليتها.
وفي الوقت نفسه، يصف التقرير المرافق كيف رفضت إيران السماح لـ”الوكالة” بالدخول إلى المواقع التي ربما كانت قد استُخدمت في العمل على الأنشطة النووية في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، والتي اكتُشفت فيها أنشطةٌ “تتفق مع الجهود المبذولة لتطهير جزء من الموقع” منذ تموز(يوليو) الماضي. ووفقاً للمخابرات الأميركية، أوقفت إيران على الأقل بعضاً من أنشطتها النووية العسكرية في العام 2003، لكنها استمرت في محاولة تخصيب اليورانيوم إلى مستوى يمكن استخدامه كمادة نووية متفجرة. لكن الجدال لا يزال محتدماً حول ما إذا كانت إيران قد أمرت بهذا التوقف الجزئي بسبب اكتمال أنشطة تصميم الأسلحة بنجاح أم لا. والتفسير الأقل قبولاً هو أن إيران تخلت عن خططها لتطوير أسلحة نووية.
ويمكن أن يكون توقيت هذين التقريرين (الأوّلين اللذين تم إعدادهما تحت إشراف المدير العام الجديد لـ”الوكالة الدولية للطاقة الذرية” رافائيل غروسي من الأرجنتين) أمراً غير متوقع من الناحية السياسية لتلك البلدان التي ترغب في مواصلة الضغط على طهران. ويشير الإقبال الضعيف على الانتخابات البرلمانية الإيرانية الشهر الماضي إلى تراجع الحماس تجاه سياسات المرشحين المتشددين الذين هيمنوا على القوائم الانتخابية. وقد أدّت العوائق الأخرى الأخيرة الحديثة -من محاولة إيران إنكار سقوط طائرة في كانون الثاني (يناير) إلى كونها أكبر مصدر لتفشي فيروس كورونا في المنطقة- إلى تعزيز شعور الناس بعدم كفاءة النظام وخداعه، في حين تزيد العقوبات وانخفاض أسعار النفط بشكل مستمر من الضغط من خلال تقليل إيرادات الحكومة الضئيلة من الصادرات.
في ظل هذه الظروف، ما هو الرد الذي يمكن أن يتوقعه المجتمع الدولي من المرشد الأعلى علي خامنئي وكبار قادة الحرس الثوري الإيراني، الذين يتمتعون بتأثير كبير على السياسة النووية؟ إذا تبنّينا النظرة الإيرانية الرسمية الواردة في الاتفاق النووي -“تحت أي ظرف من الظروف لن تسعى إيران إلى الحصول على أي أسلحة نووية” أو تطويرها أو اكتسابها- فإن ذلك ينفي الحاجة إلى القلق. ولكن، لطالما كان هناك قلق من أن يكون هذا المبدأ ضرباً من الخرافة، حتى عندما كانت طهران ما تزال تلتزم بالعديد من القيود الفنية المؤقتة التي فرضها الاتفاق. وبناءً على ذلك، فقد حان الوقت لإعادة النظر في الأسئلة الأساسية التي يجب على صانعي السياسات طرحها حول طموحات طهران النووية، سواء فيما بينهم أو عند التواصل مع نظرائهم الإيرانيين.
- لماذا قد تريد إيران تطوير أسلحة نووية؟
تميل الأنظمة المشابهة للنظام الإيراني إلى اعتبار ترسانة القنابل النووية بمثابة دلالة رمزية على مكانتها ورادع للهجمات العسكرية الخارجية. حتى أنه يُعتقد أن شاه إيران الراحل كان قد درس الخيار النووي قبل أن تطيح به الثورة الإسلامية. وعلى الرغم من أن المرشد الأعلى ينفي هذه الطموحات علناً، إلا أنه ربما يعتقد أن الأسلحة النووية قد تؤكد نجاح نظامه واستمرار سلطته الدينية. ومن المؤكد أن وجهات النظر الإيرانية بهذا الشأن مستمدة من النتائج النووية في بلدان أخرى -في كوريا الشمالية، على سبيل المثال، يبدو نظام كيم جونغ أون راسخاً بقوة بعد إجراء البلاد ست تجارب نووية، بينما تمت الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا بعد تخليه عن برنامجه النووي.
- كيف يمكن تعريف برنامج ناجح للأسلحة النووية؟
هناك تعريفات مختلفة لمثل هذا البرنامج، بدءاً من القدرة على صنع أداة اختبارية واحدة وصولاً إلى إنتاج قوة ضرب رادعة وصالحة للعمل بالكامل. وهنا، تأخذ الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعين الاعتبار “الكمية الكبيرة” من المواد النووية المتفجرة -أي اليوارنيوم عالي التخصيب أو البلوتونيوم. وبالنسبة لليورانيوم عالي التخصيب الذي يُعتقد أن إيران ترغب في إنتاجه، تُحدد “الوكالة” هذه الكمية بـ25 كيلوغراماً، رغم أن الخبراء من مصممي القنابل النووية قد يحتاجون إلى أقل من ذلك بكثير.
ولا يمكن التثبت بشكل قاطع من القدرة على صنع قنبلة نووية صالحة إلا من خلال تفجيرها في نفق تحت الأرض أو في مكان بعيد. وحتى في هذه الحالة، عادة ما يستغرق صنع الجهاز الأولي القابل للاستخدام بواسطة طائرة أو صاروخ وقتاً أطول بكثير. وبالطبع، ما يزال من الممكن اعتبار الجهاز قابلاً للاستخدام حتى من دون مثل هذا الإثبات، كما أظهرت الولايات المتحدة في العام 1945 عندما تم استخدام تصميم غير مجرّب لتدمير هيروشيما. وبالإضافة إلى ذلك، عندما أجرت الهند وباكستان تجارب على أجهزة نووية في العام 1998، اعتبر المسؤولون الغربيون أنهما ستحتاجان إلى إجراء المزيد من التجارب قبل أن يكون لديهما قوة نووية ضاربة ذات مصداقية -لكن أيّاً من الدولتين لم تجرِ هذه الاختبارات، ولكن لا أحد يشك في إمكانيات أسلحتهما النووية اليوم.
ويتكهن المراقبون أن إيران ستكون راضية عن حالة الغموض في العالم التي تحيط بإمكانية امتلاكها قنبلة نووية، مقلّدةً بذلك السياسة التي اتبعتها إسرائيل منذ عقود. لكن الأدلة تشير إلى عكس ذلك -فوفقاً للوثائق التي اكتشفتها إسرائيل، أعدّت إيران مواقع اختبار عدة في المناطق الصحراوية منذ حوالي عشرين عاماً وكانت لديها خطط لصنع خمس قنابل نووية.
- ما مدى المعرفة الأجنبية ببرنامج إيران النووي؟
يستطيع مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية مراقبة المعدات وتحليل العيّنات وطرح الأسئلة، ولكنهم ليسوا جواسيساً، بخلاف ما تصوّره إيران أحياناً. كما أن قدرتهم على تأدية مهمتهم رهنٌ بموافقة الدولة المضيفة. وكانت عدة وكالات استخبارات أجنبية قد راقبت أنشطة إيران النووية على مدى سنوات، إلّا أن بعض الأمور بقيت محجوبة عن هذه المراقبة في الماضي، وربما ما تزال محجوبة حتى يومنا هذا. وعندما اقتحم العملاء الإسرائيليون الأرشيف النووي الإيراني في العام 2018، لم يكن لديهم وقت سوى للاستيلاء على حوالي 20 في المائة من المواد الموجودة في المبنى. وعندما منحت الصين باكستان تصميم سلاح وكميات كافية من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع قنبلتين في العام 1981، لم تكتشف الحكومات الغربية عملية النقل لعدة أشهر. ومن غير المحتمل أن تمنح بكين هذه الهدايا النووية لإيران، ولكن هل يمكن قول الشيء نفسه عن كوريا الشمالية؟
- هل يمكن وقف طموحات إيران النووية الظاهرية؟
ما لم تتم الإطاحة بالنظام أو مواجهة إيران في حرب مدمرة، فإن الجواب عن هذا السؤال ربما يكون سلبياً. فبحلول أواخر الثمانينيات، كانت الولايات المتحدة قد تخلّت عن محاولة وقف برنامج باكستان النووي، والذي كان مشابهاً لبرنامج إيران الحالي من حيث البنية الأساسية. وكانت الدبلوماسية ناجحة فقط من ناحية تأجيل اختبارات الأسلحة في باكستان حتى العام 1998، حين أجرت الهند اختباراً حثّ إسلام أباد على الحذو حذوها، مما أدى إلى انطلاق شرارة المنافسة على تطوير القوى الضاربة. ويتعقب النقاش الحالي حول كبح برنامج إيران النووي أوجه التشابه مع تلك الفترة.
- ما التداعيات الإقليمية لبرنامج إيران النووي؟
في الأعوام الأخيرة، أدّت أنشطة إيران النووية وسلوكها الإقليمي المزعزع للاستقرار إلى حث إسرائيل ودول الخليج على توسيع علاقاتها الأمنية. لكن هذه العلاقات الناشئة أو السرية سابقاً لم ترق إلى مستوى التحالف الكامل القادر على ردع إيران. وحتى قدرة إسرائيل النووية المفترضة لا يبدو أنها تمنع طهران -وفي الواقع، قد تكون مصدر إلهام لأنشطة النظام.
في الأثناء، عمدت السعودية والإمارات إلى إقامة برامجهما النووية المدنية الخاصة بهما. وفي حين وافقت الإمارات على قيود صارمة، أعلنت السعودية الشهر الماضي عن نيّتها التنقيب عن اليورانيوم الخام في أراضيها -وهي خطوة غير ضرورية لتوليد الطاقة النووية في ضوء السوق العالمي المزوّد جيداً من وقود اليورانيوم المخصب. وفي هذا الصدد، صرّح وزير الطاقة السعودي، عبد العزيز بن سلمان، بأن المملكة تريد “المضي قدماً في الدورة الكاملة للبرنامج النووي”، في ما يرمز إلى تخصيب اليورانيوم، وهي عملية يمكن أن تنتج إما وقوداً منخفض التخصيب، أو من خلال إجراء بعض التعديلات، يورانيوم عالي التخصيب مناسب للقنابل.
الأكثر إثارة للقلق أن نائب وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان، قام بزيارة لباكستان في الثاني من آذار (مارس) لإجراء محادثات مع قائد الجيش الباكستاني، قمر جاويد باجوا، ورئيس الوزراء عمران خان. ويربط السعوديون علاقات تاريخية وثيقة ببرنامج باكستان النووي، وربما اشتروا مصنعاً لتصنيع صواريخ قادرة على صنع أسلحة نووية من إسلام أباد قبل بضعة أعوام. وبينما تحدثت التقارير الإعلامية الباكستانية في تغطيتها اللقاءات الأخيرة عن التهديد الهندي المفترض، فإن الوزير السعودي اكتفى بتغريدة بسيطة كتب فيها أنه أوصل رسالة من القيادة في الرياض.
ووافق هذا العام الذكرى السنوية الخمسين لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، التي حاولت -ببعض النجاح- حصر القوة النووية العسكرية في العالم ببريطانيا والصين وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة. والدول الأخرى الوحيدة التي تملك أسلحة نووية هي الدول التي لم توقّع على هذه المعاهدة، وتشمل الهند وإسرائيل وباكستان وكذلك كوريا الشمالية، التي انسحبت من المعاهدة قبل ثلاث سنوات من اختبارها القنبلة الأولى (خيار الانسحاب موجود أيضاً لإيران). لكن هذا العدد كان يمكن أن يكون أعلى من ذلك بكثير، وقد يرتفع إذا شعرت دول معيّنة بتهديدٍ كافٍ من القوى النووية المعادية في جوارها. وعلى سبيل المثال، قد تقرر اليابان وكوريا الجنوبية أنهما بحاجة إلى أسلحة نووية لردع كوريا الشمالية إذا ما وجدتا أن قوة الردع الأميركية غير كافية.
لذلك، تُعد الدبلوماسية الأميركية أداةً جوهرية لمنع المزيد من الانتشار النووي أو تأخيره -رغم أن هذا قد لا يكون كافياً. يجب أن تعطي التقارير الأخيرة لـلوكالة الدولية للطاقة الذرية الدافع اللازم لتكثيف الجهود في هذا الإطار، لا سيما فيما يتعلق بإيران.
المصدر: (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) /الغد الأردنية