تتسارع التوقعات والتحليلات المختلفة حول قرب توجيه أميركا ضربة عسكرية قاصمة للنظام في إيران؛ وخاصة مع التوتر الكبير في الداخل الأميركي قبيل أيام من تغيير القيادة الأميركية، وسط كثير من الأخبار والتسريبات حول نقل الجيش الأميركي لعدد من الوحدات العسكرية الاستراتيجية إلى المنطقة، ونشرها في الخليج العربي ومن بينها قاذفات ب-52 وحاملات طائرات وغواصات نووية، ورغبة الرئيس الأميركي “ترامب” في ضرب إيران.
أميركا القوة الكبرى في العالم؛ والمسيطرة عسكرياً على القارات الخمس بمجموعة من القواعد العسكرية الثابتة والمتنقلة، تمتلك أكبر تجمع عسكري لها في العالم في الخليج العربي، حيث تنتشر قواتها في مجموعة من القواعد العسكرية موزعة بين السعودية وقطر وتركيا والكويت بشكل أساسي إضافة إلى الإمارات والبحرين (قيادة الأسطول الخامس) وعمان والعراق وسوريا والأردن وإسرائيل وجيبوتي والصومال وأفغانستان، وصولاً إلى وجود قواعد تستطيع استخدامها عند الحاجة في مصر وقبرص وجميع دول المنطقة، وحتى اليونان وصولاً لباكستان، وتستطيع كذلك نشر قوات في بحر العرب والخليج العربي وأذربيجان بدون أي عوائق، وصولاً لوجود قواعد عسكرية أميركية في عدة دول أوروبية.
تنتشر القوات الأميركية في 35 قاعدة عسكرية في المنطقة، فحسب العديد من التصريحات لوزارة الدفاع الأميركية يبلغ العدد الكلي للقوات الأميركية في الشرق الأوسط حوالي 80 ألف جندي، منهم قرابة 14 ألف جندي في أفغانستان، و13 ألف جندي في قطر ومثلهم في الكويت، وخمسة آلاف جندي في الإمارات، وثلاثة آلاف جندي في السعودية، في حين تحتفظ أميركا بستة آلاف جندي في العراق و2500 في تركيا، أما سوريا فنصيبها 800 إلى 2000 جندي بين الشمال والتنف، في حين أرسلت أميركا العام الماضي 3500 جندي لتعزيز قواتها في المنطقة حسب إعلان للبنتاغون إثر الهجمات على السفارة الأميركية في العراق بعيد تصفية قاسم سليماني.
الحجم الكلي للقوات الأميركية في المنطقة لا يعبر عن القدرات الحقيقية لها، فأميركا تركز في المنطقة على خليط من القدرة الجوية بعدة مئات من الطائرات المتوزعة بين المقاتلة والقاذفة والمسيرة، وأسطول شحن وإمداد ضخم، والاعتماد على قوات محلية سواء جيوش أو قوات غير نظامية تتحمل الجهد الأساسي في أي مواجهة محتملة، ما يجعل تقدير الحجم الحقيقي للقوات التي تديرها أميركا في المنطقة أمراً معقداً لدرجة كبيرة.
فحجم القوات التي تمتلكها دول الخليج التي تعتبر الحليف الأميركي الحتمي في حرب كهذه يفوق ما لدى إيران على المستوى الكمي والنوعي بعدة أضعاف، سواء كعدد العناصر أو كمية العتاد ومستواه التقني، وخاصة القوى الجوية والبحرية والقدرات الصاروخية الاستراتيجية؛ وحتى القدرات غير التقليدية (وخاصة في حال مشاركة مصر وباكستان).
وهذه القوى ستكون مضطرة للتدخل في أي صراع محتمل في المنطقة لأنها ستكون الهدف المباشر لأي هجمات إيرانية انتقامية سواء بحرية أو صاروخية.
كيف ستكون الضربة الأميركية المفترضة لإيران؟
معظم التحليلات المنتشرة حالياً تتحدث عن ضربة أميركية لإيران (حرب أميركية ضد إيران) بدون حديث عن حجم الضربة ومستواها وأثرها، ومدى تأثيرها على النظام الإيراني ودول المنطقة، ولا حتى عن طريقة احتواء تبعاتها وخاصة مع عدد الميليشيات الضخم الذي تسيطر عليه إيران وتسيره، ولا حتى على المستوى البيئي مع وجود عدة مراكز لتخصيب اليورانيوم كهدف محتمل ضمن الضربات.
يوجد ثلاثة احتمالات رئيسية لحرب مثل هذه وهي شن أميركا بالاشتراك مع دول الخليج -التي تصالحت مؤخراً- حرباً شاملة تنتهي بالسيطرة على إيران برياً ونشر قوات برية بعد تدمير النظام فيها.
فيما يمثل الخيار الثاني ضرب النظام جوياً، وتفكيكه وتدمير قدرته العسكرية وإسقاطه؛ ودعم المعارضة لتولي الحكم بدون الدخول برياً لإيران أو بتدخل محدود.
أما الخيار الثالث فهو توجيه ضربات جوية تحجيمية لقدرات النظام الإيراني، وتدمير مشروعه الصاروخي والنووي والقدرات العسكرية والاقتصادية بشكل كامل أو جزئي؛ وضمان عدم استعادته لها، وربما تغيير في قيادات النسق الأول مع الإبقاء على النظام ككتلة منضبطة وضابطة.
طبول للحرب التي لم تقرع
الخياران الأول والثاني يبدوان بعيدين حالياً على الأقل؛ لعدم وجود بوادر لهما على عدة مستويات.
فخلال العام الماضي لم تشاهد أي تحركات كبيرة للجيش الأميركي في المنطقة، تحركات ونقل قوات لعشرات آلاف الجنود ومئات الدبابات وعشرات الطائرات، على مستوى ما حدث قبيل حرب 1991 ضد العراق أو العمليات في يوغوسلافيا السابقة 1999 أو عام 2001 لغزو أفغانستان أو 2003 لغزو العراق.
إضافة لهزالة الحشد والتجهيز الإعلامي لـحرب مثل هذه مع إيران، فالإعلام الأميركي يتحدث بالمجمل عن توتر الوضع في المنطقة، وعن التوتر مع إيران، ونقل بعض أخبار الضربات التي تتعرض لها القوات الإيرانية وميليشياتها في المنطقة، بدون التجييش المباشر للحرب، بل مجرد تحذير منها كنتيجة للتطورات في المنطقة، وهذا معاكس تماماً لما حدث خلال الحروب الأميركية الثلاثة الأخيرة؛ التي شهدت تمهيداً إعلامياً وسياسياً وتهيئة نفسية للشعب الأميركي وشعوب المنطقة لعدة أشهر قبل -ساعة الصفر- وحملة من إيجاد المبررات والدوافع والأسباب لها، إضافة لبناء تحالف عسكري سياسي؛ يحمل عن أميركا المسؤولية ويوزعها على مجموعة من الدول وهو أمر لما يشاهد حتى هذه اللحظة.
ما يدفع للاعتقاد أن أي عمل -شامل- ضد إيران لا مكان له حالياً على الأقل، بل أقصى ما قد يحصل هو عمل بالحد الأدنى، وربما لا يصل لمرحلة تدمير أي من البرامج الاستراتيجية الإيرانية وخاصة البرنامج النووي والصاروخي، فضلاً عن إسقاط النظام الحاكم الحالي واستبداله.
فالسيناريو الأكثر منطقية للبدء بعمل محدود مثل هذا قد يكون رد فعل على استفزار إيراني يحصل في المنطقة، سواء ضربات على مواقع أميركية في الخليج أو استفزار لحركة الملاحة البحرية أو أي عمل مشابه تحفز به إيران أميركا لشن ضربة كهذه.
فعلى الرغم من حجمها الكبير لا تمثل القوى النظامية الإيرانية سواء القوة البرية ولا البحرية ولا القوى الجوية والدفاع الجوي أي تهديد حقيقي للقوات الأميركية ولا الدول في المنطقة ككل؛ بسبب تخلفها التقني واعتمادها بالمجمل على تقنيات تعود للحرب الباردة، ويتركز التهديد لحد كبير في القوة الصاروخية سواء الباليستية أو الدفاع الساحلي، والتي قد تتسبب بالقسم الأكبر من الأذى على المستوى الاستراتيجي-قبل أن تتعرض للتدمير- لكن إيران تدرك أن استخدامها سيترتب عليه رد فعل عنيف؛ قد يسرع انهيار منظومتها ككل، خاصة في حال استهداف ناقلات النفط أو المنشآت النفطية الكبرى، أو القطع البحرية الأميركية الرئيسية في الخليج العربي كحاملات الطائرات، ما يجعلها تستخدمها بالحد الأدنى خاصة في حال تأكدها أن النظام لن يتعرض للتغيير.
نظام مركزي
يشابه النظام الإيراني في تركيبته جميع الأنظمة في المنطقة، فهو نظام مركزي بحت، يوجد تدفق وحيد الاتجاه للأوامر فيه من الرأس نحو الأذرع التي تنفذ التعليمات الصادرة بدون وجود أي هامش للمناورة، فهي مرتبطة عضوياً بالقيادة ولا تستطيع تنفيذ أي عمليات أو تصرفات بشكل مستقل، ما قد ينعكس سلباً على “القيادة” خاصة بغياب الأوامر؛ ما يعني أن معظم أذرع النظام الإيراني في المنطقة من ميليشيات وقوى وأحزاب سوف تكون غير قادرة على تنفيذ أي عمل في حال استهداف الصف الأول للنظام، بل من غير المستبعد انهيارها بسرعة كبيرة، خاصة أن تمويلها يعتمد على الدعم الإيراني والذي سيتوقف تلقائياً مع انهياره، فضلاً عن إمكانية تعرضها للاستهداف بشكل مباشر لأن قسماً كبيراً منها مصنف أو مرتبط بميليشيات مصنفة “إرهابية” كالحرس الثوري وغيره.
ما يعني أن القوة الإيرانية الأساسية المتمثلة بعشرات الميليشيات الشيعية المنتشرة في العراق واليمن وسوريا؛ ستكون غير قادرة على تنفيذ أي عمل على المستوى الاستراتيجي عند تعرض بنية النظام الإيراني لأية ضربة، وخاصة فيما يتعلق بإغلاق المضائق أو استهداف المنشآت النفطية الأساسية، فضلاً عن استهداف القوات الأميركية ذاتها، وستستجلب مثل هذه العمليات رد فعل يدفع العديد من الدول للمشاركة في أي عمل لمنع التعرض لشرايين النفط البحرية، وهو أمر تخشاه إيران بشكل كبير ويتحكم بشكل كبير بمستوى قدرتها على الرد ومستواه.
بالمحصلة أذرع إيران العسكرية بالمجمل سواء القوى النظامية أو الميليشيات بمختلف أشكالها ستكون عاجزة عن الدفاع عن النظام الإيراني في حال تعرضه لهجوم مكثف يستهدف بنية النظام المركزية ورأس هرمه، أو في حالة تأكد النظام أنه ليس مستهدفاً بشكل مباشر بل مجرد عمليات تحجيم يستطيع التفاوض على حجمها ومداها.
فراغ خطير
تمتلك أميركا والدول التي تجتمع تحت مظلتها في المنطقة قوة عسكرية ضخمة؛ قادرة على تدمير النظام الإيراني خلال وقت قياسي -في حال وجود رغبة حقيقة لذلك- وتستطيع ضمان منع أي عمل انتقامي من أذرع إيران المختلفة سواء عسكريا أو عبر الاحتواء أو التفكيك.
لكن المشكلة الأساسية التي لا تشجع أميركا على تنفيذ أي عمل عسكري واسع أو حقيقي ضد إيران هو المصلحة المشتركة والاستفادة المتبادلة بين الطرفين التي وصلت مرحلة التبعية الكاملة، والتي ترسخت خلال العقد الماضي بشكل كبير، فالتمدد الإيراني الذي يخدم المشروع الأميركي في المنطقة بشكل أساسي، يمثل ثقلاً موازياً وضاغطاً على مجموعة القوى المحلية المعادية لأميركا في المنطقة، ويخفف عنها الحمل العسكري والاقتصادي، وأي عمل يستهدف تحجيم إيران في المنطقة بشكل مفاجئ سيتسبب بفراغ كبير وخطير بالنسبة لأميركا؛ سوف تستغله هذه القوى التي تراها أميركا عدوها والتهديد الاستراتيجي الحقيقي لها.
ما يجعل من فكرة ضرب أميركا لإيران وتدمير نظامها، وإخراجها من المنطقة مجرد فكرة تجانب الوقائع على الأرض بسبب تداعياتها على السيطرة الأميركية على المنطقة أساساً، خاصة أن البديل الذي قد يشغل مكان إيران لما يجهز بعد، وما تزال إيران تمثل الخيار الافضل لأميركا لضبط الأوضاع في المنطقة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا