مدريد ــ لا شك أن أغلب القراء يتذكرون الحماس الواسع الانتشار الذي استقبلنا به القرن الحادي والعشرين. كان وقت الآمال الكبيرة، والافتتاحيات الطنانة، والجرأة الصادقة غير المتكلفة من جانب الغرب، ولكن في لمح البصر (من الناحية التاريخية)، تغير الـمِـزاج جذريا ــ حتى قبل أن تندلع جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد19). في قسم كبير من العالم، كان هذا القرن فترة من الإحباط وخيبة الأمل. والآن يتطلع كثيرون إلى المستقبل، ليس بثقة بل بخوف.
قبل عقدين من الزمن، كانت الإجابة الجاهزة لكل سؤال سياسي أو استراتيجي هي المزيد من العولمة، ولكن في حين كان هذا هدفا مشروعا وجديرا بالثناء، فقد فشلنا في بناء الضمانات وسبل الوقاية اللازمة. أظهرت الكوارث مثل الركود العظيم بعد العام 2008 والجائحة الحالية أن المزيد من الاتكالية المتبادلة ينطوي على قدر أعظم من مخاطر انتقال العدوى، سواء كانت مالية أو فيروسية، علاوة على ذلك، من الممكن أن يتحول التخصص والكفاءة المفرطة إلى مصادر للضعف، كما أثبتت ارتباكات سلاسل التوريد هذا العام. وبطبيعة الحال، كانت العواقب السياسية المترتبة على نقل الإنتاج إلى الخارج موضع استهانة بدرجة مؤسفة.
في العام 2000، عندما أخفقت حملة دونالد ترامب الانتخابية الأولى لمنصب الرئاسة (مع حزب الإصلاح)، لم يتصور سوى قِـلة من المراقبين أنه قد يعود إلى الظهور مرة أخرى في العام 2016 ليتولى زمام الحزب الجمهوري، ويحوله ضد التجارة الحرة، ثم يفوز بالرئاسة في النهاية. وفجأة، بدا لنا ذلك التحذير الذي لم يلتفت إليه أحد، والذي ورد على لسان آدم سميث في كتابه “ثروة الأمم”، أثقب بصيرة، حيث قال: “لقد دأبت كل أمة على النظر بعين الحقد والحسد إلى ازدهار الأمم التي تتاجر معها، وتعتبر مكاسب تلك الأمم خسارة لها”.
في مطلع القرن، لم تكن الولايات المتحدة تبدو كدولة تميل إلى الاستسلام للحسد والشعور بانعدام الأمان. في ذلك الحين، كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية، التي سلطت الضوء على الإمكانات المدمرة التي تمتلكها القوى غير التابعة لدولة بعينها، والتي أنهت عصر الهيمنة الأميركية الذهبي، ما تزال على بُـعد أكثر من عام، وفي غفلة عن الاضطرابات الجيوسياسية القادمة، كَـالَ الرئيس الأميركي المنتخب حديثا جورج دبليو بوش المديح إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتن. في ذلك الوقت، كانت روسيا عضوا ملتزما في مجموعة الثماني، وكانت كوريا الشمالية ما تزال ملتزمة رسميا بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ولم تكن أنشطة إيران النووية السرية اتضحت بعد. أما الصين، التي كان اقتصادها متأخرا بسنوات ضوئية عن اقتصاد الولايات المتحدة، فلم تنضم إلى منظمة التجارة العالمية حتى أواخر العام 2001.
منذ ذلك الحين، خَـضَـعَ العالم لعمليات إعادة تشكيل عميقة خلفت بصمات مادية. في العام 2001، كانت الولايات المتحدة تمثل 23 % من الانبعاثات العالمية من غاز ثاني أكسيد الكربون، في حين كانت الصين مسؤولة عن 13 % من هذه الانبعاثات. لكن أكبر مصدرين للانبعاثات تبادلا الأماكن في العام 2006. وفقا لأحدث البيانات، تنتج الولايات المتحدة الآن 15 % من إجمالي الانبعاثات في حين تمثل الصين 28 % (وإن كان نصيب الفرد في الانبعاثات في الصين ما يزال أقل كثيرا من نظيره في الولايات المتحدة).
وبينما استمرت الانبعاثات السنوية من ثاني أكسيد الكربون التي يطلقها البشر في الاتجاه إلى الارتفاع (باستثناء الانخفاضات التي دامت لفترات وجيزة أثناء الأزمات)، تقلصت المساحة المغطاة بالجليد القطبي الشمالي بنحو النصف منذ العام 2001. الآن أصبح تغير المناخ حقيقة ملموسة، وهذا هو أول جيل نشط سياسيا وُلِـد في القرن الحادي والعشرين يُـطَـالِـب بحلول عاجلة.
على مدار السنوات العشرين الأخيرة، شهدنا أيضا ثورة غير مسبوقة في الطريقة التي نتعامل بها مع الآخرين. فقد أصبحت شبكة الإنترنت حاضرة في كل مكان، وتحولت شبكات التواصل الاجتماعي إلى ساحات لعقد الاجتماعات السياسية في عصرنا، ورغم أن الربيع العربي في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لم ينتج الثمار التي كانت متوقعة منه، فإنه كشف عن الإمكانات التي تتمتع بها هذه التكنولوجيات في ما يتصل بالتحول الديمقراطي.
لكننا بتنا نعلم الآن أن الأدوات الرقمية لا تخلو من تأثيرات خبيثة. فقد ساعدت خوارزميات تعظيم الأرباح في خلق غرف صدى، مما أدى إلى إفقار الحوار العام بشدة. وأصبح المجال الرقمي أرضا خصبة للاعبين مخربين هَـدَّامين متخصصين في “الحرب الهجين”، بما في ذلك الهجمات السيبرانية (الإلكترونية) وحملات التضليل الواسعة النطاق.
عانت أوروبا من الجانب المظلم للرقمنة (التحول الرقمي) بقدر ما عانى الجميع. ففي السنوات الأخيرة، برزت الشعبوية الـمعادية للأجانب والمهاجرين في الصدارة، وعمل الاستقطاب على تسميم مجتمعاتنا. أما التفاؤل الذي ساد في بداية القرن ــ والذي انعكس في تقديم عُـملة اليورو في العام 2002 وتوسع الاتحاد الأوروبي الذي شمل عشر دول جديدة في العام 2004 ــ فقد أفسح الطريق أمام حالة طوارئ شبه دائمة، من أزمة اليورو وأزمة اللاجئين إلى الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وهي المرة الأولى التي تنسحب فيها دولة عضو من الاتحاد الأوروبي. وتعاظمت حِـدة الانقسامات على وجه التحديد عندما كان من الواجب علينا أن نزداد قُـربا من بعضنا بعضا، نظرا لعملية إعادة التوازن الجارية للقوى الاقتصادية والجيوسياسية من الأطلسي إلى الهادئ.
لكن لا ينبغي لنا أبدا أن نسمح لهذه الحالة من الارتباك والتشويش التي انتشرت عبر العديد من البلدان بإظلام المعالم التي حققناها من خلال العمل الجمعي. خلال الفترة من العام 2001 إلى 2019، ارتفع متوسط العمر المتوقع من 67 عاما إلى 73 عاما على مستوى العالم، ومن 53 عاما إلى 63 عاما في أفريقيا. في الوقت ذاته، تزايد احتلال النساء لمناصب السلطة بشكل كبير، وفي العام 2019 وصلنا إلى مستوى مرتفع (وإن كان غير كاف على نحو فادح)، وصل إلى 19 رئيسة حكومة على مستوى العالم.
علاوة على ذلك، بعد أن يتولى الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن منصبه في كانون الثاني (يناير)، ستعود كل دولة في العالم مرة أخرى إلى دعم اتفاقية باريس للمناخ. من جانبه، كان الاتحاد الأوروبي يتغلب بشكل منهجي على الصعوبات التي يواجهها بالمزيد من التكامل. وسوف يتم تمويل صندوق التعافي من كوفيد 19 من خلال ديون مشتركة وتوزيع الأموال جزئيا في هيئة مِـنَـح.
يساعدنا التأمل في السيناريوهات المحتملة تبعا للظروف المختلفة في توسيع منظورنا وتحسينه. على سبيل المثال، كيف كان الاقتصاد العالمي ليتعافى من الركود العظيم دون التحفيز الذي قدمته الصين، حيث نجح التصنيع السريع في انتشال مئات الملايين من البشر من براثن الفقر؟ وماذا كان ليحدث لو أصابتنا الجائحة الحالية قبل عشرين عاما، عندما كنا نفتقر إلى تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الضرورية لحماية العديد من القطاعات الاقتصادية وتعزيز التباعد الاجتماعي في ذات الوقت؟
مع اقتراب العام 2020 من نهايته، ونحن نكاد نبدأ عقدا ثالثا من القرن الحادي والعشرين، حان الوقت لتقييم نجاحاتنا وإخفاقاتنا الأخيرة باتزان ورصانة. وعندما نتطلع إلى المستقبل، ينبغي لنا أن نتجنب الشعور الساذج بالرضا عن الذات، كما كانت حالنا في العام 2000، وشعور الرهبة والهلع المسبب للشلل الذي اتسمت به سنوات ترامب، وخاصة في الغرب.
في السنوات المقبلة، يجب أن تكون التعددية القطبية الجيوسياسية متوافقة مع السلام والتعاون الدوليين ــ أفضل الضمانات للتقدم البشري. يتعين علينا أيضا أن نعكف على إصلاح الشقوق التي انتشرت في مجتمعاتنا الرقمية وتحقيق التوازن المستدام مع الطبيعة. إنها تحديات شاقة لكن التصدي لها ممكن. ويرجع إلينا الأمر في تحديد ما إذا كان العام 2020 سَـيُـذكَر على أنه لحظة تعلم واكتشاف في قرن مضطرب، أو استهلال لقادم أسوأ.
*خافيير سولانا الممثل الأعلى الأسبق للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، وأمين عام منظمة حلف شمال الأطلسي ووزير خارجيا إسبانيا سابقا. يشغل حاليا منصب رئيس EsadeGeo ــ مركز أبحاث الاقتصاد العالمي والدراسات الجيوسياسية، وهو زميل متميز لدى مؤسسة بروكنجز.
المصدر: الغد الأردنية