لو كانت هناك دولة واضحة المعالم لكان الجواب يسيراً. فهناك هيكل إداري جاهز وسلطات ثلاث نص الدستور على الفصل وتوزيع الصلاحيات في ما بينها. غير أن كل ذلك بالنسبة الى العراق ليس سوى واجهة زجاجية يمكن أن يحطمها أي حجر يُلقى بطريقة عشوائية. فالدولة هناك ليست كياناً قوياً قادراً على فرض قوانينه على جميع الفرقاء المشاركين في صناعة النظام وتصريف شؤونه، بغض النظر عن الصيغة التي يمارسون من خلالها أعمالهم.
الدولة العراقية هي أضعف وحدة سياسية إذا ما قورنت بالنظام مثلاً.
لقد حرص الأميركيون حين هدموا الدولة العراقية التي اعتبروها دولة “البعث” على أن يتركوا محلها فارغاً. كانت حجتهم في ذلك أنهم يتركون للعراقيين حرية اختيار شكل الدولة التي تناسبهم ونوعها ومضمونها. اما الدستور الجديد فقد ساهموا في كتابته لكي يتمكنوا من تلغيمه. فالعراق في سياق ذلك الدستور ليس بلداً عربياً انما العرب فيه هم مجرد مكون بشري إلى جانب مكونات أخرى، كما أن هناك مناطق متنازع عليها بينه وبين الإقليم الكردي تسمح للأكراد بالسيطرة على ما يقارب ثلثه من غير أن يفقدوا حصتهم في الموازنة الاتحادية. لذلك فإن حدود دولته غير معروفة كما أن سيطرته على ثرواته غير واضحة الملامح.
فقرتان من دستور كُتب من أجل أن لا تقوم دولة مستقرة. فمنذ أن تم تأسيس مجلس الحكم لإدارة البلاد المحتلة مؤقتاً عام 2003 كان التعويل كله على النظام السياسي الذي أُقيم على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية. وهو نظام لا يستند إلى مشروع وطني بقدر ما يمثل توزيعاً للنسيج الوطني حصصاً بين الأحزاب الدينية والعرقية والتي كانت محل ثقة لدى الأميركيين. وكانت تلك الأحزاب حريصة على تفتيت المجتمع العراقي وتمزيق نسيجه بما ينسجم مع ما نص عليه الدستور من أن العراق هو بلد مكونات.
غير أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية لم يتحول نظاماً سياسياً قوياً بسبب اصطدامه بعثرات تقاسم الغنائم بين الأحزاب التي احتكرت بشكل ثابت تمثيل المكونات، كما أن العامل الإيراني لعب دوراً مهيمناً على صلة الأحزاب، بعضها بالبعض الآخر، ومحاولة حسم الصراع لمصلحة عدد محدود من الأحزاب الشيعية وفي مقدمها “حزب الدعوة”.
تمخضت أكبر تسوية بين إيران والولايات المتحدة في العراق عام 2006 عن بروز ظاهرة نوري المالكي رجل الظل الذي قفز إلى زعامة “حزب الدعوة” وانتقل بموجب تلك التسوية إلى الحكم المطلق الذي أصاب العراق بكوارث عديدة لا يزال يعاني من تداعياتها. غير أن أخطر ما قام به المالكي وسيظل تأثيره حاضراً دائماً إنما يكمن في إقامته الدولة المجاورة وما صار يُطلق عليه في ما بعد “الدولة العميقة”.
وإذا ما عرفنا أن المالكي نفسه كان يمارس نشاطاته أثناء ولايتيه اللتين امتدتا ما بين 2006 و2014 من خلال شبكة خفية تتألف من أتباعه داخل الدولة، يمكننا أن نتخيل سعة وقوة وكفاءة ذلك الجهاز الذي تمكن أفراده من الإمساك بمفاصل الدولة العراقية التي لم تتمكن من التخلص منهم حتى بعد أن تم استبعاد المالكي من السلطة.
وبموازاة الدولة الرسمية الضعيفة أقامت الدولة الخفية علاقات وثيقة بالنظام الإيراني كانت مادتها الأساسية صفقات مليارية احتكرت من خلالها إيران الجزء الأكبر من الاقتصاد العراقي بحيث أن أي محاولة لفك الارتباط يمكن أن تؤدي إلى حدوث مجاعة في العراق. اضافة إلى أن إيران صارت تغذي جزءاً من العراق بالطاقة الكهربائية وهو ما يدر عليها أموالاً طائلة. وفي ذلك تم اخضاع الدولة الرسمية لما فرضته الدولة الخفية من خطط ثبت الإيرانيون من خلالها مصالحهم في العراق والتي صارت الميليشيات المتعهد الرسمي لحراستها.
وهنا بالضبط يقع جوهر العلاقة بين ما صارت تُسمى بالدولة العميقة والميليشيات. ففي جزء عظيم من تجليات تلك العلاقة أن تقوم الدولة العميقة بتمثيل الجانب الإيراني في علاقته بالعراق الرسمي. وهو ما يعني أن الميليشيات تتصل بعمق من خلال ممرات سرية بالدولة العميقة حرص المالكي أن يقيمها قبل أن يغادر السلطة. ربما لأنه تربى على الحذر الحزبي الذي يغلب عليه عدم الثقة بالآخرين الذين قد ينفرط عقدهم من حوله.
وإذا ما كان المالكي قد صرح غير مرة بأنه زعيم المقاومة فلأنه كان متأكداً من قوة موقفه لدى مرجعيته السياسية في طهران، وكان يعرف أن الميليشيات ستتخطى تصريحاته بلياقة تمليها الصلة الغامضة التي تربطه بسادة الأممية الشيعية التي لا تزال تستعين به في تحويل جزء من موازنة العراق إلى إيران باعتبارها المركز والمحور والقضية.
ورغم عمق الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العراق، فإن حصة إيران من موازنة العراق لم تنخفض. ذلك لم تقم به الميليشيات بل كانت الدولة العميقة وراءه. وهو ما يدلنا إلى الجهة التي تتحكم بالقرار السياسي. تلك هي الجهة الأقوى، فهي التي تمارس القتل في حق الناشطين وتستفز الولايات المتحدة في وجودها العسكري والدبلوماسي في العراق وهي نفسها الجهة التي تقرر تمرير صفقات الفساد.
المصدر: النهار العربي