أسطورة عبد الناصر

محسن عبد العزيز

ظني أن كل إنسان له أسطورته الخاصة التي تحدد مجرى حياته دون أن يدري، وتكون هذه الأسطورة أوضح عند السياسيين والمشاهير بحكم أن حياتهم معروضة أمامنا طوال الوقت للفحص والتحليل.
وكانت الأسطورة التي حكمت حياة الرئيس جمال عبد الناصر، أنه يعرف الإجابة الصحيحة دائما، وبسبب معرفة هذه الاجابة يتعرض للضرب، لكنه بعد كل ضربة، وتلك اسطورته يصبح أقوى. حدث ذلك معه منذ كان طفلا صغيرا في المدرسة الابتدائية.
حيث كان التلميذ جمال عبد الناصر يجلس في آخر الصفوف لطول قامته، وحدث أن دخل أحد مفتشي اللغة العربية الفصل، ووقف يستمع إلى شرح المدرس، الذي اندمج في الشرح، وطلب من تلاميذه أن يضعوا كلمة «كتابة» في جملة مفيدة، يكون موقعها فاعلا وعجز كل من أشار إليهم المدرس عن تقديم هذه الجملة، وبلل العرق وجه المدرس خجلا أمام المفتش، وعندما جاء الدور على عبد الناصر أجاب: ظهرت كتابة القرآن واضحة، ونال تصفيق الجميع.
وبعد انصراف المفتش طلب المدرس من التلميذ جمال عبد الناصر أن يضرب كل تلميذ «عصايتين» لعدم معرفتهم الإجابة، ورفض جمال عبد الناصر أن يضرب زملاءه، وغضب المدرس أكثر، وخير عبد الناصر بين تنفيذ ما طلب منه، أو يضربه كل تلميذ عصايتين. لرفضه أوامر مدرسه، وصمم عبد الناصر على موقفه، وتحمل أكثر من 60 عصا فوق يديه
ومنذ هذه اللحظة تحول التلميذ جمال عبد الناصر إلى زعيم للفصل، يلعبون إذا لعب، ويتوقفون عندما يتوقف.
وسوف يصبح هذا الموقف هو الأسطورة التي تحكم حياة جمال عبد الناصر، فطوال الوقت سوف يعرف الاجابة، وبسبب هذه المعرفة دائما سوف يتعرض للضرب، لكنه بعد كل ضربة يصبح أقوى مما كان.
حب المعرفة سوف يقود عبد الناصر إلى عالم القراءة والبحث في كل شيء لدرجة الإغراق في التفاصيل، سوف يقرأ عبد الناصر في المرحلة الثانوية عن الثورة الفرنسية وفولتير ونابليون والاسكندر الأكبر وكمال أتاتورك ويوليوس قيصر، وغاندي، يفعل ذلك مثل أي شاب يبحث عن طريقه أو أسطورته الخاصة في الحياة، دون أن يدري أنه غارق في الأسطورة، وأنها تملك عليه روحه ونفسه وهو لا يشعر.
ولذلك عندما يتقدم للكلية الحربية وبعد أن يجيب عن كل الأسئلة، لا يتم قبوله، يحس بالهزيمة ويلتحق بكلية الحقوق لمدة 6 شهور، لكن وفى حالة استثنائية نادرة تعلن وزارة الحربية عن قبول دفعة جديدة للالتحاق بالكلية الحربية وتقوية الجيش المصري بعد توقيع معاهدة 1936، ويستدعى عبد الناصر أسطورته الخاصة ويذهب لمقابلة اللواء ابراهيم خيري باشا وكيل وزارة الحربية، ويسأله بكل شجاعة: هل تقبل الكلية الطلاب طبقًا لقواعد عامة تسري على الجميع أم أنها لا تقبل إلا أصحاب الواسطة؟
ويسأله الباشا: لماذا هذا السؤال؟ يجيب ناصر: نجحت في الكشف الطبي، ولكن كشف الهيئة في حاجة إلى واسطة، فيعجب به الباشا ويقول له: تقدم للكلية مرة أخرى، وبالفعل يتم قبوله في المرة الثانية. لتحقق أسطورته فيصبح أقوى رغم الرفض الأول، فعبد الناصر الذي التحق بالكلية بعد هذا الموقف لابد أن يكون أقوى وأكثر صلابة في الوصول إلى هدفه أو أسطورته.
وفى حرب 48 يصمد عبد الناصر ورفاقه لمدة شهرين وهم محاصرون في الفالوجا … وعندما يعود يحصل على نوط الشجاعة من الملك فاروق، لكن الحصار والأزمة والهزيمة كانت الدافع وراء التخطيط للقيام بثورة يوليو. أدرك عبد الناصر أن الأزمة ليست في الجيش الذى يحارب ولكن في الملك الذى يحكم. لقد كان الحصار والهزيمة الدافع القوى في تكوين عبد الناصر، وتخطيطه لقيام وقيادة ثورة يوليو وتحقيق اسطورته.
وتبدو حرب 56 أو العدوان الثلاثي صورة ناصعة على أسطورة عبد الناصر الذي يعرف الاجابة ويضرب بسببها ولكنه يخرج أقوى.
فالحرب كانت بسبب قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس، وقرار التأميم جاء ردا على قرار أمريكا والبنك الدولي وبريطانيا سحب تمويلهم لبناء السد العالي.
كان بناء السد العالي يحتاج 200 مليون جنيه، وبعد أن تعهدت أمريكا وبريطانيا والبنك الدولي بالمساهمة في المشروع وتنفيذه انسحبوا منه فجأة.
وفكر عبد الناصر أن قناة السويس تعطي دخلا سنويا قدره 60 مليون جنيه يذهب 59 مليون جنيه لإنجلترا وفرنسا، ومليون جنيه فقط لمصر. فقرر أن تأخذ مصر دخل قناة السويس كاملا وهو 60 مليون جنيه. ويكون هذا أفضل رد على الانسحاب بما يسهم في مشروع بناء السد. وفاجأ عبد الناصر العالم بقرار: تأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية
وقامت الدنيا ولم تقعد وبعدها بقليل جاء الانذار الفرنسي البريطاني بتسليم مدن القناة خلال 12 ساعة ورفض عبد الناصر الانذار بقوة. وقامت قاذفات القنابل البريطانية بضرب القواعد الجوية الرئيسية الأربع لمصر. وفقا لما طلبته اسرائيل كشرط لدخولها المعركة إلى جانب فرنسا وبريطانيا. وكانت حربا ظالمة بكل المقاييس، حتى جاء الإنذار الروسي والضغط الأمريكي فأجبرت الدول الثلاث على الانسحاب والتراجع.
وكان من نتيجة هذه المعركة لعبد الناصر أنه أصبح أقوى وأصبح زعيما من زعماء التحرير في العالم، نجح في الصمود أمام أقوى إمبراطوريتين «إنجلترا وفرنسا» وأكثر من ذلك كانت هذه المعركة أكبر هزيمة لأنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا الذي انتهى سياسيا تماما بعد شهرين من إشعاله هذه الحرب، كما انتهى العصر الإمبراطوري لكل من إنجلترا وفرنسا مفسحًا الطريق لإمبراطورتي أمريكا والاتحاد السوفيتى.
وتغرب الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس وتأخذ معها غريمتها الفرنسية، ويكون عبد الناصر أحد أسباب هذا الغروب والأفول.
وحتى بعد هزيمة 67 خرجت الجماهير تهتف بعودة ناصر عقب قراره بالتنحي. ليصبح عبد الناصر أقوى، أقوى كذلك في مواجهة عبد الحكيم الذي كان مسيطرا تماما على القوات المسلحة، ويزيحه عبد الناصر، وبعد قليل يقولون انتحر.
صحت اسطورة عبد الناصر عند زيارته للسودان بعد هزيمة 67 بشهرين فقط، عندما اندفعت الجماهير محطمة كل الحواجز تهتف للقائد المهزوم ما جعل مجلة النيوزويك الأمريكية تضع صورة عبد الناصر على غلافها وتقول. أول مرة يستقبل قائد مهزوم استقبال المنتصرين.
هذه هي اسطورة عبد الناصر التي حكمت مجرى حياته منذ كان تلميذا في المدرسة الابتدائية يعرف الاجابة الصحيحة، وينال الضرب بسبب مواقفه الأخلاقية، وهو ما تكرر معه بعد ذلك في أغلب مراحل حياته، كان يعرف الإجابة الصحيحة ويتخذ مواقف شجاعة وأخلاقية في سبيل الدفاع عنها حتى لو تعرض للضرب أو الحرب فإنه يخرج منها أقوى.
كان ناصر كما قالت عنه المخابرات الأمريكية على لسان رجلها يوجين جوستين: إن مشكلتنا مع ناصر أنه رجل بلا رذيلة، مما يجعله غير قابل للتجريح، فلا نساء ولا خمر ولا مخدرات، ولا يمكن شراؤه، أو رشوته، نحن نكرهه، لكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئا لإنه بلا رذيلة
ولأنه بلا رذيلة فإنه كان يأخذ أقسى التشدد في مواقفه، فلم يكن يخشى شيئا حتى لو تعرض للضرب تلميذا أو رئيسا … وتلك أسطورته التي حكمت كل مسار حياته.

المصدر: صحيفة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى