ترتبط المشكلات السياسية التي تعاني منها الشعوب العربية اليوم بثقافة سياسية موروثة، حولت السياسة إلى لعبة لتحقيق مصالح الأقوياء والمنتصرين في الصراع على السلطة. الثقافة السياسية السائدة تفصل الفعل السياسي المتعلق بالحياة العامة عن القيم الأخلاقية الضرورية لتطوّر أي مجتمع سياسي وسموّه، قيم العدل وحرية الاعتقاد والمساواة بين الناس والتعاون على الخير والعمل لتحقيق الصالح العام للمواطنين واحترام كرامة الإنسان. هذا الفصل بين الأخلاقي والسياسي هو آفة الآفات، وهو ظاهرةٌ ملحوظةٌ بين القوى السياسية، بغض النظر عن خلفيتها الفكرية والعقدية، أخرجتها للعيان ثورات الربيع، بعد أن كانت محجوبةً خلف الشعارات والدعايات الحزبية. نعم أظهر الحراك السياسي، منذ انطلاق صيحات الحرية التي رافقت ثورات الربيع العربي، أن الفعل السياسي والاجتماعي في المجتمعات العربية لا يقوم على قاعدة أخلاقية، بل على ذرائعية تتصف بالمجاملة والتلطّف حينا، وبالخشونة والتنمّر حينا آخر، لتحقيق مصالح الأفراد والأحزاب، من دون الاهتمام بالمصلحة العامة لأبناء المجتمعات العربية. ويستوي في هذا التوصيف من أعلن أن مواقفه تنبع عن عقائد سياسية “علمانية” أو من ربط مواقفه بأساس “ديني” أو “إسلامي”. الجميع هتف للحرية والعدالة والمساواة، والجميع تزيّن بشعارات الليبرالية والتقدّمية والاشتراكية والإسلام، ولكن التجربة أظهرت عدم ارتباط هذه الشعارات بأساس أخلاقي. هذه الشعارات التي رفعها علمانيون حينا وإسلاميون حينا آخر، وآخرون محسوبون على هذا الطرف أو ذاك، لا يمكن أن تتحقّق ما لم تتمحور حول معنى أساسي، يتعلق بتساوي الناس في الكرامة، فلا كرامة حقيقية لمواطنٍ ما لم يتساو الجميع في الكرامة الإنسانية، ولا سياسة ما لم يكن مطلب السياسي، بغض النظر عن المذهب السياسي الذي ينتمي إليه، هو تحقيق العدل والمشاركة والعمل لتحقيق المصلحة العامة التي تعم جميع المواطنين.
الأمثلة كثيرة، وهي واضحة في الوعي الجمعي للإنسان العربي، لكنها غالبا ما تلصق بالخصوم وتبرأ منها الذات. الأنظمة العلمانية في العالم العربي حكمت لعقود باستخدام مبدأ التحيز لمن ينتمي إلى السلطة الحاكمة ويلوذ بها، واضطهاد من يخالفها في العقيدة والموقف السياسي. البعثيون في سورية والعراق حصروا المناصب السياسية والإدارية والثقافية والعلمية في من ينتمي إلى الحزب، ويدعم سياساته ويصمت على أخطائه. والإسلاميون في مصر وصلوا إلى السلطة على أكتاف ثورةٍ شعبيةٍ قادها شبابٌ من مختلف الشرائح الاجتماعية، لكنهم قرّروا الانفراد بها، وإبعاد القوى السياسية الأخرى التي شاركت في تحقيق انتصار الثورة، وليحوّلوا المجلس النيابي إلى حلقةٍ لنقاش المسائل الخاصة بالقضايا الفقيهة، بدلا من الانكباب على تطوير السياسات العامة التي تخدم المواطن، بغض النظر عن دينه والتزاماته العقدية. والليبرالية المصرية لم تواجه هذا الانحراف بتطوير خطاب وطني عام، والعمل على تصحيحه من خلال الفعل السياسي الهادئ، بل اختارت التحالف مع المؤسسة العسكرية التي طالما تحكّمت في المجتمع، وقدّمت مصالح القادة العسكريين على المصلحة العامة، ليعيدوا بذلك مصر مرة أخرى إلى الحكم التعسفي وهيمنة العسكر. كذلك لم تنضبط المعارضة في سورية بضوابط قيم العدالة والحرية والمشاركة والمساواة، وهي التي أعلنت سعيها إلى إقامة مجتمع ديمقراطي حر، بل لجأ كل من وصل إلى موقع مدني أو عسكري إلى التحكّم بالمشهد، بعيدا عن قواعد العمل السياسي القائم على تعاون الشركاء في العمل السياسي والاحترام المتبادل بينهم، وغرق الجميع في المزايدات الوطنية والتعالي العقدي والمناكفة العبثية والكيدية. حتى العملية الانتخابية ضمن مؤسسات المعارضة تم الالتفاف عليها بالشطارة والفهلوية وشراء الضمائر والذمم. التجربة الوحيدة التي صمدت من تجارب الربيع العربي هي التونسية، لأنها تعاملت بقدر كبير من الحساسية مع تنوّع المذاهب السياسية والانقسام العلماني الإسلامي هناك. وما زالت التجربة في دائرة الخطر، بسبب النزعات الذرائعية غير الأخلاقية التي يعتمدها بعضهم لتحقيق المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة.
الموقف الأخلاقي أساسي في بناء حياة سياسية تليق بالإنسان والمجتمع الإنساني، والشعارات والدعاوي السياسية لا تكفي للوصول إلى ذلك. تساوي الناس بالكرامة يعني أن الإنسان في المنظور الإنساني والديني ليس أداة تستخدم لتحقيق أهداف شخصية أو حزبية أو وطنية، وإنما هو شريكٌ في الوطن وفي المؤسسة الوطنية. ويجب لذلك أن يُسمع رأيه ضمن خطاب منفتح على التعدّد الإنساني، ويحترم موقفه حتى ولو كان مغايرا، ويجب أن يُصارح بالحقائق والأخطار ويسهم بالمداولات حول القضايا العامة، ولو اختلف مع القناعات السائدة في التصوّر والأهداف وطرائق العمل. الاختلاف ليس أساسا للعداء بل للحوار، والاختلاف في الرأي وفي العقيدة لا يستوجب الصراع والتهميش، بل التعاون والتكامل، طالما لم ينطو الاختلاف على عدوان أو تجاوز للحق والكرامة. عندما نرفع شعار العدل والمساواة والحرية والمواطنة، ثم نستبيح المخالف لنا في الرأي والمنهج ونستعديه، بدلا من أن نحاوره ونستمع إلى مطالبه، فنحن عمليا لا ندرك معنى الحرية والعدالة والمواطنة. التحيّز الكامل لمن يشبهنا والعداء لمن يخالفنا يتناقض مع قيم العدالة والمساواة والحرية والكرامة. تقوم القيم المرتبطة في الحياة العامة على أساس إنساني وديني، والطروحات التي تفرض الرؤى الضيقة تنبع من جهد نظري وتفسيرات معاصرة لتشويه القيم الأساسية التي يستشعرها الإنسان الحر في نفسه، والإنسان المتدين في نصوص الوحي التي يرجع إليها، والإنسان الحر الملتزم بقيم السماء وفق الأساسين المتكاملين في النفس والرسالة.
أخيرا، الدخول في مرحلة جديدة تتّصف بالحرية تتطلب ربط العمل السلطوي بالفعل الأخلاقي، ومحاكمة من يحمل المسؤولية العامة من خلال مسلكه وسياساته، لا بالنظر إلى مظاهره ودعاويه، فقدرة بعضهم على تحصيل سلطةٍ ما، واتخاذ قرار له تأثير اجتماعي لا يعني أن صاحب السلطة قادرة على التحكّم بالقرار كما يشاء، حتى وإن وصل إلى موقع القرار من خلال انتخابات ديمقراطية. الوطن الذي يسعى إلى التطور والنمو لا يمكن أن يحكم بقهر نصف الشعب باسم الديمقراطية. والسعي إلى فرض قوانين تحظى برضى شريحةٍ من أبناء المجتمع على حساب الشرائح الأخرى هو من أشكال الاستبداد، ولو وصل صاحب القرار إلى موقعه بانتخابات حرة. واعتماد مثل هذه الوسائل بحجّة أن من كان يملك السلطة فعل ذلك ليس مؤشّرا جيدا لإصلاح سياسي. المشكلة أن الجميع في عالمنا العربي، أو لنقل الأغلبية الفاعلة، يتصرّف من هذا المنطق المغلوط. المشكلة طبعا ليست في الشعارات أو الديمقراطية أو الدين أو الإسلام. المشكلة في العقلية الإقصائية الاستبدادية التي لا تدرك أن المبادئ السياسية لا يمكن أن تولد واقعا متطوّرا يحترم كرامة الإنسان بعيدا عن الالتزام الأخلاقي لأصحابها بالقيم الإنسانية العليا التي حوّلتها الشعارات إلى كلماتٍ فارغة بسبب الممارسات الأنانية والمتخلفة لأصحابها.
المصدر: العربي الجديد