لقد تبدد الحلم بالكامل، وأريق الكثير من الدم، وعم الدمار خلال العقد الماضي. فكرة أنه كانت هناك لحظة أراد فيها الملايين في الشرق الأوسط الحرية والتغيير لدرجة أنهم خرجوا إلى الشوارع تبدو وكأنها حنين رومانسي للماضي.
وقال بدر البنداري، ناشط مصري: “لقد كانت قصيرة جدا يا رجل. لقد كانت قصيرة إلى حد بعيد”.
أصيب البنداري بالعمى في اليوم الثالث لانتفاضة بلاده عام 2011، عندما أطلقت قوات الأمن النار على وجهه. حدث ذلك خلال اشتباك أصبح رمزًا بين “ثوار” مصر، عندما تصارع المتظاهرون والشرطة على جسر فوق النيل في القاهرة لساعات، وانتهى بتشتت الشرطة.
اليوم، هو في الولايات المتحدة. لا يستطيع العودة إلى بلاده. ويقبع العديد من رفاقه في الاحتجاجات داخل السجون في مصر.
انخفاض سقف الأحلام
في ديسمبر 2010، بدأت الانتفاضة في تونس وانتشرت بسرعة من بلد إلى آخر في ثورات ضد الحكام الاستبداديين اللذين شغلوا مناصبهم لفترات طويلة. وأصبح ذلك ما يعرف باسم الربيع العربي، ولكن بالنسبة لأولئك الذين نزلوا إلى الشوارع، كانت الدعوة لهذه المظاهرات هي “ثورة”.
كانت الانتفاضات تهدف لأكثر من مجرد إزاحة الحكام المستبدين. كانت في جوهرها مطلبًا جماهيريًا من قبل العامة بتحسين الحكم والاقتصاد، وسيادة القانون، وحقوق أكبر، والأهم من ذلك كله، أن يكون لهم رأي في كيفية إدارة بلدانهم.
لفترة أعقبت عام 2011، بدا الاندفاع نحو تلك الأحلام لا رجوع فيه. والآن صارت هذه الأحلام أبعد من أي وقت مضى. أولئك الذين يحافظون على إيمانهم بها مقتنعون بأن الرغبة في هذه المطالب كانت حقيقية ولا تزال، أو حتى تتزايد بينما يكافح الناس في العالم العربي مع اقتصادات متدهورة وقمع أشد. في النهاية، كما يقولون، سوف تتصاعد هذه المطالب مرة أخرى.
وقالت أماني بلّور، وهي طبيبة سورية، كانت تدير عيادة سرية تعالج الجرحى في جيب المعارضة في الغوطة، خارج دمشق، حتى سقطت تحت حصار وحشي طويل من قبل قوات الحكومة السورية في عام 2018: “لقد خفضنا سقف أحلامنا”. تم إجلاء بلّور مع سكان آخرين إلى شمال غرب سوريا، ومن هناك غادرت البلاد.
وأضافت، من ألمانيا، أن “روح التظاهرات ربما فاضت الآن… لكن كل الذين عانوا من الحرب، ومن قمع النظام، لن يتسامحوا مع ذلك… حتى في المناطق التي يسيطر عليها النظام، هناك إحباط كبير وغضب يتصاعد بين الناس””.
تعاني المنطقة من الصدمة والإرهاق بسبب أكثر العقود تدميراً في العصر الحديث، وربما الأكثر تدميراً منذ قرون.
في سوريا واليمن والعراق، فقد الملايين منازلهم في الحرب ويكافحون من أجل العثور على سبل العيش وتعليم أطفالهم أو حتى لإطعام أنفسهم. وانتشرت الفصائل المسلحة في تلك البلدان. وفي ليبيا، وجنت الأموال، وجندت الشباب الذين لا يجدون سوى القليل من الخيارات الأخرى. وارتفعت معدلات الفقر في جميع أنحاء المنطقة، خاصة مع جائحة فيروس كورونا.
وأمضى النشطاء والمحللون عقدًا من الزمن للبحث في سبب الفشل.
فشل في تقديم قيادة
فشل الليبراليون العلمانيون في تقديم جبهة أو قيادة متماسكة. والإسلاميون مثل الإخوان المسلمين اقترفوا اخطاء بسبب قناعتهم أنهم الأقوى. ولم تستطع المنظمات العمالية، التي تم تحييدها خلال عقود من الحكم الاستبدادي، أن تتقدم كمحرك قوي أو قوة سياسية. وربما ليس من قبيل المصادفة أن الدول التي حققت بعض النجاح، مثل تونس والسودان، كان لديها حركات عمالية ومهنية قوية.
كان المشهد الدولي في مواجهة مع الانتفاضات. كانت ردود فعل الولايات المتحدة وأوروبا مشوشة، ومشتتة بين خطابهما حول دعم الديمقراطية واهتمامهما بالاستقرار والمخاوف بشأن الإسلاميين. في النهاية، رضخا إلى الخيار الأخير إلى حد كبير.
استخدمت الملكيات الخليجية الثروة النفطية لخنق أي مد ثوري ودعم القوى الرجعية. ودخلت روسيا وإيران وتركيا والإمارات العربية المتحدة في حروب المنطقة، إما بإرسال قوات أو تسليح الفصائل المتحاربة.
وفي النهاية، لم يتوقع الكثيرون مدى اتساع نطاق استعداد بعض القادة لفتح أبواب الجحيم في بلدانهم للحفاظ على السلطة.
وأثبت بشار الأسد السوري أنه الأكثر قسوة. ففي مواجهة التمرد المسلح، دمر هو وحلفاؤه الروس والإيرانيون المدن، واستخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، واستعاد قلب سوريا والمدن الرئيسية وحافظ على حكمه.
رؤية دولية مشوشة
في اليمن، اضطر الرجل القوي علي عبد الله صالح إلى التنحي أواخر عام 2011 في مواجهة الاحتجاجات. لكنه سرعان ما حاول استعادة السلطة بالتحالف مع عدوه القديم، المتمردين الحوثيين، الشيعة المدعومون من إيران. واستولوا معًا على العاصمة وشمال اليمن. وكانت الحرب الأهلية الناتجة عن هذا الصراع كارثية، حيث قتلت عشرات الآلاف ودفعت السكان نحو المجاعة في أسوأ كارثة إنسانية مستمرة في العالم. وقُتل صالح على يد الحوثيين عندما اشتبهوا في أنه ينقلب عليهم.
في ليبيا، سقطت الدولة الغنية بالنفط والواقعة على شاطئ المتوسط على الفور في حرب أهلية متغيرة باستمرار بعد سقوط معمر القذافي.
وعلى مر السنين، شارك فيها العديد من الميليشيات المحلية، ووحدات الجيش الوطني القديم، والقاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية، والمرتزقة الروس، والمقاتلين السوريين المدعومين من تركيا، في ظل وجود حكومتين في الأقل – ثلاثة في مرحلة ما – تتصارعان على الحكم.
كانت الأولوية الرئيسية لأوروبا هي وقف تدفق المهاجرين الأفارقة من ليبيا عبر البحر الأبيض المتوسط. لذلك أصبحت ليبيا طريقا مسدودا مروعا لآلاف الرجال والنساء الذين يحاولون الهجرة من وسط وشرق أفريقيا ليجدوا أنفسهم محبوسين ويعذبون من قبل رجال الميليشيات.
وفّرت الحرب الأهلية في سوريا لفرع القاعدة السابق في العراق، الذي أعيد تسميته باسم تنظيم الدولة الإسلامية، مسرحًا لبناء القوة فيه. ومن هناك اجتاح التنظيم رقعة من سوريا والعراق وأعلن إنشاء “خلافة” إسلامية – وفتح حربًا أخرى جلبت الدمار في العراق.
أنا أو الفوضى
في مصر، غالبًا ما يشير الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الدمار في المنطقة لتعزيز أحد ادعاءاته الرئيسية للشرعية، ويقول “بدوني ستكون هناك فوضى”.
لقد تعلم السيسي الدرس من عام 2011، وهو أنه حتى أدنى فتح لفرص التظاهر يعطي موطئ قدم للاضطرابات، وغالبًا ما يقول إن الاستقرار مطلوب أثناء مساعيه لإعادة تشكيل الاقتصاد. وهذه حجة يتردد صداها بين العديد من المصريين، الذين تضرروا، ليس فقط من الحروب في سوريا وليبيا، بل أيضًا من الاضطرابات المصرية لسنوات بعد سقوط حسني مبارك.
وكانت النتيجة قمع المعارضة إلى أبعد مما شوهد في عهد مبارك. وتضمن سحق الإخوان المسلمين والإسلاميين هجومًا عنيفًا على اعتصام خلّف مئات القتلى. وفي السنوات الأخيرة، اعتقلت حكومته نشطاء علمانيين وآخرين، وغالبًا ما تعرضهم على محكمة خاصة بالإرهاب.
ومع ذلك، حتى مع وجود جزء كبير من المنطقة في الأعماق المضادة لحقبة الربيع العربي، تندلع انتفاضات من أجل التغيير.
وانتشرت احتجاجات حاشدة في جميع أنحاء لبنان والعراق في أواخر عام 2019 وأوائل عام 2020، مع حشود تطالب بإزالة الطبقات الحاكمة بأكملها.
وفي السودان، أجبر المتظاهرون عمر البشير، الاستبدادي الذي حكم البلاد لفترة طويلة، على الرحيل عن السلطة. وبعد أن تعلموا درسًا من عام 2011، واصلوا احتجاجاتهم، في محاولة لطرد الجيش من السلطة أيضًا. وكانوا ناجحين جزئيا فقط.
أمل بعيد المنال
وتشير تلك الثورات إلى مدى استمرار صدى طموحات الانتفاضات الأولية في جميع أنحاء المنطقة. ولكن في الوقت الحالي، حتى التغيير التدريجي يبدو أملا بعيد المنال.
وقال رامي يعقوب، الذي شارك في الاحتجاجات المصرية، وسياسات ما بعد الثورة خلال الأيام العصيبة التي أعقبت سقوط مبارك، إنه بدلاً من الديمقراطية الحقيقية “حلمي قبل أن أموت هو رؤية قدر أقل من التعذيب، واعتقالات أقل، واقتصاد حقيقي أفضل… هذا واقعي بقدر ما أستطيع.”
ويضيف يعقوب، الذي أسس ويرأس الآن معهد التحرير لدراسات الشرق الأوسط في واشنطن إن “التغيير ليس بين عشية وضحاها. لا أريد أن أكون متزعزعًا وأقول إن الثورة الفرنسية استغرقت عقودًا، لكن هذا حدث. لم تستغرق عاما أو اثنين”.
وتحول بعض النشطاء إلى تحسين أنفسهم في الدراسة وبناء المهارات، وإبعاد اليأس.
استعاد البنداري بصره جزئيًا في إحدى عينيه – على الرغم من أنه قال إن ذلك أزعجه بعد أن اعتاد على العمى. في السنوات التي تلت مغادرة مصر، كان يقوم بعمل استشاري حول تنظيم المجتمع، وبحوث السياسات، وتطوير وسائل الإعلام المستقلة، وحل النزاعات في المنطقة. وفي زيارة قصيرة إلى مصر في أواخر عام 2018 وأوائل عام 2019 اتضح له أنه ليس من الآمن بالنسبة له البقاء في بلاده.
وهو الآن في واشنطن يصارع المنفى. ولا يزال يحتفل بالانتفاضة باعتبارها “مولده الجديد” في التعريف عنه على حسابه في تويتر. الأمل يكمن في جيل يكتسب المعرفة التي يمكن أن تفيد أوطانهم ذات يوم.
لكن متى؟، قال إن ذلك قد يحدث بعد عدة سنوات على التوقعات الأكثر تفاؤلاً – ليس من أجل تغيير حقيقي، ولكن “لانفتاح طفيف، هامش طفيف حيث يمكننا التنفس”.
المصدر: أسوشيتد برس/الحرة. نت