تذكر الكاتبة الأميركية ميريام كوك في كتابها “سورية الأخرى؛ صناعة الفن المعارض” الذي تُرجم إلى العربية في أواخر 2018، حادثة لافتة عند لقائها بالكاتب المسرحي والمعتقل السابق غسان الجباعي في أواخر عام 1995، والذي أُفرج عنه بعد مؤتمر مدريد للسلام.
في لقائها به، قرأ لها غسان الجباعي بيتًا من الشعر لأبي العلاء المعري “خَفِّف الوطء فما أظن أديمَ الأرضِ إلَّا من هذه الأجساد”، فارتبكت ولم تفهم المغزى، ثم قال لها “عندما تعودين إلى المزة هذا المساء، انتبهي إلى امتداد الطريق بين الجامعة والجمارك”. سألته: لماذا؟، فأخبرها عن المعتقل الذي أمضى فيه عامه الأخير، بعد أن أمضى قبلها تسعة أعوام في معتقلات أخرى. كان ذلك في وقتٍ ما من عام 1992، عندما نزلوا به ثلاثًا وثلاثين خطوة تحت الأرض؛ عالم آخر يفتقد إلى الهواء والنور الطبيعيين.
عندما كان غسان يروي هذه الحكاية لها، بعد خروجه من المعتقل بنحو أربع سنوات، كان حزينًا لأن كثيرًا من الناس لم يكونوا يصدقونه آنذاك عندما يخبرهم بوجود هذا المعتقل “لو سألتِ الأشخاص الذين يسيرون على طريق المزة السريع في ما إذا كانوا يعرفون بأنهم يسيرون على رؤوس رجال معتقلين لا لشيء إلا لأنهم فكّروا بطريقة (خاطئة)، فلن يصدِّقوكِ”. لكن مصدر حزنه الأكبر كان أن الناس كبروا متكيِّفين مع هذه الحياة من دون امتلاك أي رغبةٍ في التفكير في المعتقلين.
في طريقها إلى منزلها، قامت ميريام بأكثر مما طلبه غسان. نزلت من الميكرو عند محطة الجامعة، ومشت مسافة الميل الذي يغطِّي السجن تحت الأرضي. تقول: لقد ارتعدت فزعة وأنا أفكِّر في أنني أدخل وأخرج المدينة كل يوم بسيارتي فوق أجساد مئات الرجال المعتقلين في مساحاتٍ صغيرة من دون هواء، ومن المحتمل أن يقضي بعضهم مجاهدًا ما تبقى من عمره في هذا المكان الفظيع. وتضيف: لم ألاحظ شيئًا غير اعتيادي، وصُدِمت مرةً أخرى بقدرة النظام على إخفاء أسراره.
بعد آذار/ مارس 2011 وإلى اليوم، ما كان يُحزن الجباعي قد زال، فحكايته عن السجن والمعتقلين التي لم تكن تهتم بها إلا فئة محدودة من الناس، قد أصبحت عامة؛ لم يعد هناك بيت سوري ليس فيه معتقل أو لا يعرف بوجود المعتقلات، فوق الأرض وتحتها، ولا يوجد سوري لم تعد أسماء السجون جزءًا من معرفته أو ثقافته اليومية: صيدنايا، تدمر، فلسطين، الجمارك… إلخ.
وزالت دهشة ميريام أيضًا من قدرة النظام على إخفاء الأسرار/ الجرائم، فلم يعد النظام عاجزًا عن إخفائها فحسب، بل إن العالم كله بات يعرفها، إلى جانب السوريين بالطبع، المعارض والموالي منهم على حد سواء، بل إن النظام نفسه لم يعد حريصًا أصلًا على إخفائها، وأصبح شفافًا إلى درجة فظيعة، ما يوحي بالتزامه وعدَه الذي أنهكنا بتكرار الحديث عنه في بدايات “العهد الجديد”، في النصف الثاني من عام 2000؛ الشفافية.
وها هو النظام في أعلى درجات الشفافية، على عكس ما كانت تراه ميريام كوك قبل ما يزيد على عشرين عامًا، وقد وصل إلى درجة عالية من العري، من دون أي مساحيق تجميل، لا شعارات ولا فلسفات منهِكة، محوِّلًا سورية كلها إلى معتقل كبير، بمعرفة السوريين كلهم، والعالم كله، بدوله ومؤسساته ومنظماته الحكومية وغير الحكومية، وكأنه يقول للجميع: هذا هو أنا، فما أنتم فاعلون؟
لكن ما لم يخطر في بال غسان، ولا غيره، صعوبة تطبيق طلبه “خفف الوطء” اليوم حرفيًا. هل يضمن أحدنا اليوم أن يسير في أي شارع أو أن يقف على أي بقعة من أرض سورية، ولا يكون تحتها معتقل، أو لا يكون ترابها قد عُجن بدماء سوري، معارضًا كان أو مواليًا أو غيره، أو بدموع سوري حزنًا على معتقل أو فقيد، أو قهرًا بحكم الخوف أو الفقر أو العجز؟!
حدثت تحولات عسكرية وسياسية كبيرة، وتدخلت دول عديدة في سورية، لكنها لم تحرّك ساكنًا في قضية المعتقلين؛ عشرات الآلاف من القابعين في السجون منذ سنوات، ويقضي العديد منهم تحت التعذيب. ولم تستطع أي جهة إلى الآن أن تحقّق تقدّمًا على هذا الصعيد، أو تمنع الاعتقال والتعذيب، أو أن تتمكّن مِن محاسبة المسؤولين عن الجرائم.
في أواخر 2011، أرسلت جامعة الدول العربية بعثة من المراقبين، وشُكلت لجنة تحقيق دولية مستقلة خاصة بسورية، وجرى التأكيد عليها بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وسرّب “قيصر”، عام 2014، عشرات آلاف الصور لمعتقلين تمّت تصفيتهم بين أيلول/ سبتمبر 2011 وآب/ أغسطس 2013. وفي عام 2015، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا مخيفًا ومثيرًا للرعب بعنوان “سجن صيدنايا-المسلخ البشري”، أكدت فيه مقتل ثلاثة عشر ألف معتقل، وحرق جثثهم بمحارق بشرية داخل السجن، وصدر قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2016، نصّ على تشكيل آلية دولية محايدة ومستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للمسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة المرتكبة في سورية منذ آذار/ مارس 2011.
وعلى الرغم أيضًا من وجود مئات التقارير التي تحتفظ بها الجهات الحقوقية الدولية حيال الانتهاكات والجرائم بحق المعتقلين، فإنَّ ذلك كلّه لم يدفع “المجتمع الدولي” للذهاب باتجاه خطوة فعلية وجادة ومسؤولة لإنهاء ملف المعتقلين، وطي مسألة الاعتقال نهائيًا، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عن الاعتقال والتعذيب. واليوم لا تتخطى المواقف الدولية حيال هذه المسائل مستوى الإدانة والتنديد.
ولعلَّ أخطر ما تعرضت له قضية المعتقلين، في السنوات الماضية، هو وضعها رهينة المسارات السياسية والعسكرية، وانتظار الحلول التي تنتجها المفاوضات وتوازنات القوى المحلية والدولية، خصوصًا مع الانتقال من مسار محادثات “جنيف” إلى محادثات “أستانا”، ما أدى عمليًا إلى استبعاد جوهرها الحقوقي والإنساني، على الرغم من أن القرار الأممي 2254 الخاص بسورية، قد أكد على إجراءات بناء الثقة، التي تضمنت إخراج المعتقلين من السجون، وهو ما لم يحدث، باستثناء عدد محدود من المعتقلين أُفرج عنهم من خلال “عمليات تبادل الأسرى” كما قيل.
تستمر المناشدات وبيانات الإدانة فيما المعتقلون في المعتقلات، تحت الأرض وفوقها، يعيشون جحيمًا يفوق تصورات البشرية، يفتحون عيونهم يوميًا على أصوات الجنازير وصراخ السجانين الذين يأتون من أجل تسلم جثث معتقلين يموتون داخل الزنازين، مرضًا أو جوعًا أو خوفًا أو تعذيبًا، أما وجوههم الشاحبة جوعًا، وأجسادهم الممزقة تعذيبًا، وأرواحهم المحاصرة، فلا تترك لهم سوى التفكير بسؤال واحد أوحد؛ هل جاء الموت؟ هل هذا هو اليوم الأخير؟!
يُخبرنا المعتقلون المفرج عنهم صورًا بالغة القسوة من التعذيب والإذلال والممارسات التي تحطّ من الكرامة، والذكريات المؤلمة التي يصعب نسيانها. “الموت أرحم من عذاب الاعتقال”، عبارة قد نسمعها من كثير من المعتقلين. هذا مربك حقًا للحقوقيين الذين يطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام/ الموت!
يؤكد عدم تنازل النظام في قضايا المعتقلين، واستمراره في الاعتقال والتغييب القسري والتصفيات الجسدية داخل المعتقلات، أن هذه السياسة هي الحامل الأساس الذي يمنحه ديمومته في الحكم، وأن معتقلاته هي درّة تاجه، وأن القمع والقهر يقفان في مقدمة إنجازاته التي يفخر بها.
ينبغي لنا، مع الذكرى الثانية والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الاستمرار بصرخاتنا للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، ووضع قضيتهم في سلّم أولوياتنا، على الرغم من بؤس الواقع والعالم. وهنا يشكِّل الجهد الذي يبذله سوريون كثيرون لتوثيق أسماء المعتقلين وأحوالهم ومعاناتهم وتجاربهم، شكلًا من أشكال تأكيد الحياة والمقاومة ضد الاعتقال والموت والتعذيب، وضد الإفلات من العقاب، وضد سقوط الإنسانية.
ويأتي دور المثقفين والفنانين والأدباء ليكون أساسيًا، عن طريق احتفائهم بالمعتقلين والناجين وذويهم، مستخدمين الأغاني والموسيقا والروايات والقصص والأفلام، لتجسيد تجاربهم ومعاناتهم. هذا الدور شكلٌ من أشكال التكريم وحفظ الحقوق وتعافي المجتمع؛ إنه شكل من أشكال تخفيف الوطء، فلنخفِّف الوطء!
المصدر: المدن