رحل حكيم السودان كما يسميه شعبه ، صادق المهدي عن عمر ناهز الخامسة والثمانين ، متأثرا بإصابته بفيروس كورونا مع عدد آخر من أفراد أسرته ، ولم يستطع أطباء دولة الامارات انقاذه ، فرحل فجر الخميس ، بعد مسيرة حافلة بين الزعامة السياسية ، والإمامة الدينية ، ترأس خلالها رئاسة الحكومة مرتين ، الأولى عام 1966 ، والثانية عام 1986 ، وقاد المعارضة فترة طويلة ، وتعرض أيضا للاعتقال مرات عديدة ، في عهد جعفر النميري ، وعهد عمر البشير ، وعاش في المنافى سنوات طويلة ، وختم حياته أحد القادة المؤثرين في ثورة ديسمبر 2018 رئيسا لتكتل سياسي كبير من الاحزاب والمنظمات والشخصيات البارزة يدعى ( نداء سورية ) يحتل حزبه ( حزب الأمة ) دور القاطرة الرئيسية فيه ، وبرزت الى جانبه ابنته مريم كشخصية قيادية قوية ذات حضور مقبول في الأوساط الشعبية ، ورشحها كثيرون لخلافة والدها لولا أن المجتمع السوداني من ناحية وطائفة الأنصار الاسلامية الصوفية ما زالت لا تتقبل زعامة الأنثى السياسية .
وقد اجتمع السودانيون بكل طوائفهم وأحزابهم وقبائلهم في وداع الراحل ، وأقيمت له جنازة قومية ورسمية ، حيث ووري الثرى في قبة آل المهدي في أم درمان ، حيث يرقد جده الأكبر محمد أحمد المهدي ، ووالده الصديق وآخرون . وشاركت الدولة السودانية بكل أجهزتها العسكرية والمدنية والمجتمعية في طقوس الوداع والتشييع ، ممثلة برئيس مجلس الرئاسة المشير عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة عبد الله حمدوك ، والوزراء ، وقادة الأحزاب والمنظمات ، وممثلين عن جمهورية جنوب السودان وممثلي بعض الدول العربية والافريقية ، فضلا عن الفصائل العسكرية التي كانت متمردة تقاتل الدولة ، وربطتها بالفقيد أواصر التحالف السياسي ، وانضم بعضها لتحالف (نداء السودان) بقيادته . وكانت مراسم وداعه مثالا باهرا تفتقده غالبية الدول العربية للوحدة الوطنية ، رغم الانقسامات التي مزقت المجتمع السوداني في عهد نظام ما يسمى (الانقاذ) ، أي الانقلاب الذي نفذه عسكر الاخوان المسلمين عام 1989 بتخطيط وتدبير مشترك بين تنظيم الجبهة الاسلامية السياسي بقيادة الشيخ حسن الترابي ، وجناحه العسكري في الجيش بقيادة عمر البشير ، بصورة مستنسخة من انقلابات حزب البعث في سورية والعراق ، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ، وما لبثت التجربة أن استنسخت أيضا الصراع بين المدنيين والعسكريين ، وقام الجنرال البشير بطرد شيخه حسن الترابي ، وزجه في السجن ، والسيطرة على التنظيم السياسي وتدجينه لصالح العسكر .
لم يعرف عن الراحل تشدده أو تشنجه ، بل عرف باعتداله وقربه من الجميع ، وبعده عن العنف والقسوة ، سواء في أثناء حكمه ، أو في أثناء معارضته . بل إن كثيرين من أهل السياسة في السودان أخذوا على الصادق اعتداله الزائد عن الحد ، والمائل للرخاوة ، وحملوه جزءا من مسؤولية ضياع التجربة الديمقراطية ( 1985 – 1989 ) مما دفع بقايا الاستبداد ، الطامعين بالسلطة لاستغلال رخاوته لتنفيذ انقلابهم عام 1989 ، والعودة للحكم العسكري بعد أربعة أعوام فقط على الانتفاضة المدنية السلمية عام 1985 التي أطاحت جعفر النميري ، وهيأت الفرصة لعودة الحكم الديمقراطي اثر انتخابات عام 1986 التي فاز بها حزب الامة ومنافسه الحزب الاتحادي الديمقراطي بأغلبية مقاعد البرلمان ، وأوصلت المهدي لرئاسة الحكومة .
من هو الصادق ؟
الصادق سليل العائلة المهدية التي تستمد شرعيتها السياسية من ثورة 1881 – 1898 حين قاد جده محمد احمد المهدي التمرد على الاحتلالين التركي – المصري المدعومين من الاستعمار البريطاني . وقد حققت الثورة انتصارا ساحقا في البداية قبل أن تتدخل بريطانيا وتقضي عليها بالبطش . ولكن الثورة وجدت تأييدا شعبيا واسعا من السودانيين بكل طوائفهم وقبائلهم . والجدير بالذكر أن زعيم الأسرة المهدية زعيم سياسي وديني لطائفة الانصار الذين أيدوا الثورة وصدقوا محمد احمد المهدي الذي قدم نفسه للسودانيين باعتباره ( المهدي المنتظر) ، وما زال زعيم الطائفة حتى اليوم يحتل مكانة الإمام الديني للطائفة ، بما فيهم الصادق الذي قام بالوظيفتين معا ، زعيما وإماما ، وفي العام 2017 تخلى عن صفته السياسية وتفرغ للوظيفة الدينية ، كما اعتكف للبحث الفكري والكتابة والتأليف . وهو مفكر بارز وله كتب عديدة عن قضايا الاسلام في السودان ، والنظام الدولي ، وعلاقة الاسلام بالغرب . ولكنه عاد للنشاط السياسي بعد اشتعال ثورة ديسمبر 2018 ، ولعب دور وسطيا معتدلا بين جميع التيارات والقوى حتى وفاته .
وكان الصادق المولود عام 1935 قد نشأ في كنف والده الصديق المهدي وتلقى تعليمه بين مصر وبريطانيا ، وورث الزعامة والامامة بعد وفاة والده عام 1961 وأصبح رئيسا لحزب الأمة منذ ذلك الوقت ، وشارك في الثورة ضد نظام الجنرال عبود عام 1964 ، وبعد اسقاطه تولى رئاسة الحكومة لمدة أقل من سنتين .
ويعد المهدي زعيما مقبولا على المستويين العربي والدولي ، باستثناء ما يكتنف علاقة حزبه وطائفته وأسرته بمصر ، بسبب الارث الممتد من “العداء” منذ ثورة 1881 ، واصرار الأنصار على الاستقلال عن مصر طوال النصف الاول من القرن العشرين ، وكان من آخر مواقفه رفضه الحاسم للتطبيع الجاري مع العدو الاسرائيلي .
أما سبب قبوله على المستوى العربي ، فكونه سلسل الطائفة المهدية التي ترتبط بوشائج تاريخية دينية وسياسية مع الاسلام الوهابي في السعودية والخليج ، ومع الاسلام الصوفي في بلاد المغرب العربي وافريقيا من تشاد الى نيجيريا وبقية بلدان المنطقة .
وفي السنوات الأخيرة تجددت هذه الوشائج وعمل الطرفان على تقويتها وتوسيعها وخاصة مع السعودية والامارات واليمن والكويت ، لمواجهة (الاسلام السياسي) الذي مثلته حركة الاخوان في السودان والمنطقة . إذ كان المهدي ومن خلفه الأنصار وحزب الأمة سدا منيعا في وجه (الجبهة الاسلامية) التي قادها الترابي ومعه نظام البشير . وكان الصراع السياسي الطافي على السطح يتغذى من ينابيع التناقض الحاد بين اسلامين لا يلتقيان صوفي وسياسي ، وتحول هذا الصراع اقليميا على امتداد المنطقة العربية والشرق أوسط .
ولا شك أن اسلام الاخوان والترابي هو اسلام حديث وطارىء ، بلا جذور عميقة على عكس الاسلام الصوفي المتجذر في السودان منذ خمسة قرون ، وتمثله مدارس وطرق صوفية يناهز عددها الثمانين ، وأقواها المهدية – الحسانية ، والختمية . وقد أدى استبداد عسكر الاخوان طوال العقود الثلاثة الماضية وفسادهم وجرائمهم التي لم يعتد عليها السودان ولم يعرفها في تاريخه الطويل الى عودة السودانيين بقوة للتمسك أكثر فأكثر بالاسلام الصوفي التقليدي ، وتعزز رفضهم للاسلام الاخواني الذي مزق النسيج الوطني ، وتسبب بظهور حركات تمرد مسلحة في مناطق كثيرة من البلد كادت أن تفتت السودان وتغرقه في مستنقعات دموية متعددة ، كما إن علاقاته مع غالبية دول العالم ، بما فيها العربية ساءت كثيرا وصلت الى درجة فرض حصار وعقوبات مدمرة وقاتلة بسبب تلك سياساته الهوجاء. والجدير بالذكر أن حزب الأمة ذاته تعرض للانقسام الداخلي ، مثله مثل حزب الاتحاد الديمقراطي ، نتيجة ضغوط النظام السابق ، إذ تشظى حزب الصادق المهدي الى خمسة أقسام ، وتفتت الأسرة المهدية ذاتها ، لأن نجل الصادق الأكبر عبد الرحمن الصادق المهدي انحاز الى جانب النظام ، وعمل مساعدا للبشير ، وتبعه جناح من أجنحة الحزب .
وكان الصادق ومعه بعض زعماء الانصار وحزب الامة يعملون منذ سقوط البشير على اعادة توحيد حزب الأمة وترميم هياكله ، واستعادة مكانته ودوره .
السؤال الذي يطرحه المراقبون والمحللون اليوم : من سيخلف الصادق في زعامة الحزب وزعامة الطائفة ؟
لأن الأرجح ألا يكون عبد الرحمن مناسبا لأي دور في هذه المرحلة على الأقل ، بسبب علاقته بالنظام السابق ، وألا يقبل السودانيون بأن تحل ابنته مريم محله ، رغم التقدير الواسع لحضورها وأهليتها .
ويعتقد كثيرون أن الصادق ترك وصية مكتوبة تتضمن اسم من اختاره لخلافته، وهي وصية سيطيعها أتباع الامام بدون نقاش!
المصدر: الشراع