ضربة جديدة تتعرض لها المنظومة الأمنية للنظام الإيراني في لحظة مفصلية، وعلى بعد أقل من 37 يوماً من الذكرى السنوية الأولى لاغتيال قائد قوة القدس ورأس المشروع الإقليمي الإيراني الجنرال قاسم سليماني، بالقرب من مطار بغداد فجر الثالث من يناير (كانون الثاني) 2020. إلا أن عملية اغتيال معاون وزير الدفاع ورئيس منظمة الدراسات والصناعات الدفاعية (سبند) العالم النووي الأول محسن فخري زادة، على أطراف العاصمة طهران (25 كيلومتراً شرق المدينة) في منطقة آبسرد التابعة لمدينة دماوند، تعتبر نوعية داخل إيران، لجهة أنها كانت مركبة واستخدمت فيها سيارة مفخخة (قيل إن فيها انتحارياً وفق بعض الروايات الأمنية الإيرانية) وتلاها اشتباك مسلح شارك فيه خمسة إلى ستة أشخاص استهدفوا فخري زادة بوابل من الرصاص أطلق عليه من جانبي السيارة التي تقله.
انكشاف أمني
العملية تحمل دلالات أكثر تعقيداً من التي طالت سليماني على الأرض العراقية، أي خارج إيران، في منطقة تعتبر مسرح اشتباك أمني وعسكري وسياسي مع الجهة التي قامت وتبنت هذا الاغتيال، أي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي لم يتردد في إعلان المسؤولية عنها.
لا شك في أن العملية الجديدة تؤكد انكشاف الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة، ممثلة بوزارة الأمن (إطلاعات) وجهاز أمن الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية الذي يتولى مهمة حراسة المنشآت النووية والعاملين فيها، وأمن حرس الثورة الذي يتصدى لتوفير الحماية للثورة وقياداتها. وتؤكد أن كل الإجراءات التي قامت بها هذه الأجهزة مجتمعة لمعالجة الخرق– التفجير، الذي حصل في منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم في 2 يوليو (تموز) 2020، التي تعد درة تاج البرنامج النووي، لم تكن ذات جدوى، خصوصاً أن المجلس الأعلى للأمن القومي والأجهزة الأمنية المعنية في تأمينها اعترفوا صراحة بوجود خرق بشري يتحمل مسؤولية التفجير الذي وقع.
ترافقت العملية مع جملة من التطورات، إن كان في ما يتعلق بقرار إطلاق سراح المعتقلة الأسترالية البريطانية كيلي مورغيلبرت بعد 800 يوم في السجون الإيرانية تنفيذاً لحكم عشر سنوات بتهمة التجسس لحساب إسرائيل، مقابل استرداد ثلاثة إيرانيين هم: مسعود صداقت زادة، ومحمد خزاعي، وسعيد مرادي الذي فقد ساقيه في هجوم اتهموا بتنفيذه في ما يعتقد أنه كان محاولة لاغتيال دبلوماسيين إسرائيليين. وأيضاً في ظل الجدل الداخلي حول التحديات التي سترافق التوجه الأميركي للعودة إلى الاتفاق النووي وكيفية التعامل مع هذا التطور وحجم المطالب الأميركية، بين جهة تدعو إلى اغتنام الفرصة وأخرى لا تتردد في إعلان مخاوفها من أن يفرض على طهران والنظام جملة من التنازلات لا تقف عند حدود تعديل الاتفاق السابق في بعده النووي، بل تشمل البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي. وهما بعدان لا يتردد الفريق الجديد للبيت الأبيض، بقيادة الرئيس المنتخب جو بايدن، في تأكيدهما.
منذ أسابيع يعيش النظام بجميع مؤسساته السياسية والأمنية والعسكرية حالة من الاستنفار بعد التسريبات الأميركية التي تحدثت عن وجود نوايا لدى الرئيس ترمب للقيام بعملية عسكرية، في الفترة الانتقالية من رئاسته، تستهدف بعض المنشآت الحيوية الإيرانية. وعلى الرغم من تراجع حدتها لصالح عمل أمني يستهدف شخصيات إيرانية أو متحالفة معها في الإقليم، فإن القيادات العسكرية لم تترك مناسبة لتأكيد الجاهزية للرد “الساحق” على أي اعتداء تتعرض له من الأميركيين أو شريكهم الإسرائيلي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
من هنا، فإن أصابع الاتهام الإيرانية ذهبت مباشرة إلى تحميل المسؤولية للجانب الإسرائيلي ونتنياهو، مستعيدة المؤتمر الصحافي الذي عقده عام 2018 وكشف فيه عن الأرشيف النووي الذي سرقه جهاز (الموساد) من إيران، وكشف عن اسم فخري زادة، ووصفه بأنه رأس المشروع النووي العسكري الإيراني والشخصية الأخطر فيه. لكن على الرغم من حجم “الكارثة” التي حلت بالنظام جراء عملية الاغتيال هذه، التي تفوق بفداحتها عملية اغتيال سليماني، فإن المعطيات تشير إلى إمكان عدم لجوء طهران للانتقام أو القيام بعملية سريعة تطال أهدافاً مباشرة، على الرغم من إشارة مواقف مقربة من وزارة الدفاع إلى تحديد أهداف دولية وإقليمية ستكون في دائرة الانتقام والرد.
معطيات الرد الإيراني
عدم المبادرة الإيرانية للرد السريع والانتقامي تعززه المرحلة الدقيقة التي تمر بها المنطقة في ضوء التغيير الحاصل في الإدارة الأميركية، وارتفاع منسوب الحديث عن إمكان عودة الحرارة على خط الاتفاق النووي والتفاوض الإيراني الأميركي، الذي قد يكون مباشراً هذه المرة. كما أن طهران تعتقد أن لجوء نتنياهو إلى هذه العملية بعد الحصول على ضوء أخضر من ترمب هدفه إرباك المسار السياسي المتوقع في المرحلة المقبلة، إضافة إلى أن أي حوار أو تفاوض حتى ولو أدى إلى قبول إيران بإدخال تعديلات على الاتفاق النووي القائم ووضع أسس للتفاهم مع واشنطن حول البرنامج الصاروخي والدور والنفوذ الإقليميين، لن يصب في مصلحة نتنياهو، لأنه سيعيد طهران إلى دائرة الشراكة الإقليمية بقوة، وهذه المرة بمزيد من التفاهمات مع واشنطن، من دون ترك أي ثغرات قانونية أو سياسية تسمح بضرب هذا المسار أو إرباكه. ما سيسهم في إعادة ترتيب أوضاع القوى الجيوسياسية الأميركية ومعها الترويكا الأوروبية في الإقليم بالتفاهم مع إيران، وعلى حساب حصة الأطراف الأخرى التي لا تقتصر على تل ابيب، بل قد تشمل تركيا والدول العربية أيضاً.
الموقف الذي أعلنه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تعليقاً على العملية ودعوته الدول الأوروبية إلى التخلي عن سياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع تل أبيب، وإعلان إدانتها العلنية والمباشرة كدولة تمارس الإرهاب، يبدو أنه يأتي من خارج السياق الذي جاءت منه مواقف القيادات الإيرانية الأخرى، التي رفعت مستوى التهديد والوعيد وأكدت الانتقام القاسي والساحق. إلا أنه يعبر عن حجم التحديات والصعوبات التي قد تنتجها هذه العملية على الجهود السياسية، بخاصة أمام إدارة بايدن ونيتها العودة إلى الاتفاق النووي. فهي وإن كانت تحمل رسالة إلى طهران بأنها مكشوفة أمام العمل الأمني والاستخباراتي للأجهزة الإسرائيلية، القادرة على الوصول إلى الأهداف التي تريدها داخل البلاد وخارجها، إلا أنها تحمل أيضاً رسالة أكبر للرئيس الأميركي الجديد بصعوبة الذهاب في خيار التفاهم مع إيران من دون الأخذ في الاعتبار مصالح إسرائيل وحلفائها، وإن بايدن وإدارته بحاجة إلى عقد تفاهمات مع هذه الأطراف في أي خطوة باتجاه طهران، لأنها ستكون قادرة على تعطيل مفاعيل أي تفاهم، وعرقلة مسار عودتها إلى الأسواق العالمية خصوصاً في قطاعي النفط والغاز عبر التأثير في قرار منظمة “أوبك”، فضلاً عن مغازلة اللاعب الروسي الذي بدأ يتحسس إمكان محاصرته مع الإدارة الجديدة، إضافة إلى القلق الذي يساوره جراء الطموحات التركية التي بدأت تصل إلى حديقته الخلفية ومجاله الحيوي في القوقاز وآسيا الوسطى.
هذه العوامل والمعطيات، تدفع إلى الاعتقاد بأن النظام الإيراني لن يبادر سريعاً بالرد على عملية الاغتيال هذه، بل سيلجأ إلى أسلوب شبيه بتعامله مع اغتيال سليماني، عندما استهدف قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق، مع احتفاظه بموقف تصعيدي وحديث عن انتقام سيأتي في الوقت المناسب.
المصدر: اندبندنت عربية