في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني الجاري، أحبطت إدارة الجمارك في ميناء “دمياط” المصري، محاولة تهريب كمية كبيرة من مادة الحشيش المخدر قادمة من سوريا ومتجهة إلى السودان.
ووفق وسائل إعلام مصرية، تبيّن وجود 30 ألف (فرش) حشيش، مخبأة داخل ألواح خشبية، زنة كل فرش منها 200 غرام تقريبًا، وصل وزنها الإجمالي لنحو 6 أطنان، بقيمة تصل، مع التعويضات المستحقة، لقرابة 900 مليون جنيه مصري (نحو 57،5 مليون دولار أميركي).
قبل ذلك بأقل من أسبوع واحد، تم إحباط عملية تهريب شحنة تزن 2،3 طن من الحشيش المخدر، في ميناء الإسكندرية، قادمة من الموانئ السورية.
وفي نيسان من العام الجاري، تم ضبط نحو 4 أطنان أيضاً من مادة الحشيش المخدر مهربة داخل علب لحليب الأطفال، في ميناء “بور سعيد” المصري.
وفي بور سعيد أيضاً، في تشرين الثاني من السنة الفائتة (2019)، تم إحباط عملية تهريب ما يقرب من 3 أطنان من مادة الحشيش المهربة داخل شحنة لفاكهة التفاح قادمة من الموانئ السورية أيضاً.
إلى هنا نكتفي بحصة مصر من عمليات التهريب المتكررة عبر أراضيها، خلال سنة واحدة، والمتعلقة بالشحنات التي تم ضبطها فقط ومجموع أوزانها يصل لنحو 15 طناً (بقيمة تصل لنحو 165 مليون دولار أميركي)، أما أوزان وأحجام باقي الشحنات التي نجحت بالعبور والدخول إلى مصر وتسليمها لأصحابها من زعماء ترويج المخدرات فيها، فلا يعلم بها إلا الجهة التي صدّرتها عبر الموانئ السورية.
رقم حطّم أرقام “غينيس”
بدأت تثار قضية المخدرات القادمة من مناطق وموانئ النظام بصورة أكثر جدية بعد ضبط خفر السواحل اليوناني في كانون الأول 2018، سفينة شحن سورية، احتوت أكثر من 6 أطنان من الحشيش وقرابة 3 ملايين حبة مخدر، وبلغت قيمتها نحو 120 مليون دولار، وكانت حينها الشحنة الأكبر ليس في تاريخ البحرية اليونانية فحسب، بل في تاريخ العالم.
وإذا كانت قيمة شحنة واحدة تتجاوز المئة مليون دولار، فنحن نتحدث إذن عن مبالغ تتجاوز ميزانيات بعض دول العالم حين نتناول لاحقاً شحنات أكبر منها بكثير، وليس بمقدور عقوبات قانون “قيصر” ولا العقوبات الأوروبية، أن تضبطها. فهي ليست ناقلات نفط ولا معدات حربية، ولا عملة صعبة تتم مراقبتها عبر شبكات المال والبنوك؛ وإنما عبارة عن منفذ مفتوح ربما يخيب مرة ولكنه يفلت عشرات المرات، سواء على شكل معلبات أو ألواح خشب أو خضار وفواكه أيضاً.
فما قصة المخدرات التي تفجّرت فجأة داخل سوريا، وتجاوز تدفقها جميع ما تدفّق لدى عصابات الدول المرتبطة تاريخياً بالمخدرات، كأفغانستان وإيران وكولومبيا وغيرها؟
تعاطي القانون السوري مع قضايا المخدرات
في فترات زمنية سابقة، كانت سوريا تعدّ من الدول الأولى في محاربة إنتاج وزراعة وترويج وتعاطي المواد المخدرة بجميع صنوفها، وهي من بين الدول الموقعة على اتفاقية عام 1922 الخاصة بالمخدرات، وأيضاً من الدول الموقّعة على الاتفاقية الدولية لمكافحة المخدرات في الأمم المتحدة 1961، وكانت تصادق على تعديلاتها خلال أعوام 1972 و1987. وفي عام 1993 أقرّت الحكومة السورية قانوناً خاصاً بجرائم المخدرات.
ووفق ذلك القانون، جاءت العقوبات مشدّدة على مرتكبي جرائم المخدرات، حيث نصّ على: تنفيذ عقوبة الإعدام بحق زارع النباتات المخدرة ومهرب وصانع المواد المخدرة منها، والاعتقال المؤبد مع غرامة تتراوح بين نصف مليون إلى مليون ليرة سورية، لجرائم الحيازة والنقل وشراء وبيع المواد والنباتات المخدرة بهدف الإتجار بها.
ويعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين 10- 15 سنة وغرامة بين نصف مليون إلى مليون ليرة، كل من يقدم المواد والنباتات المخدرة للآخرين أو يسهل تعاطيها، والاعتقال من 3 إلى 15 سنة مع غرامة تتراوح بين 100- 500 ألف ليرة سورية، لكل من حاز أو نقل أو اشترى أو سلم أو تسلم مواد مخدرة. وجميع العقوبات تشمل تجريد صاحبها من الحقوق المدنية.
من جهتها، خصصت وزارة الداخلية فرعاً خاصاً لجرائم المخدرات (فرع المخدرات) في معظم المدن السورية، (بعد اندلاع الثورة السورية، ألحق هذا الفرع إلى بقية فروع الأمن والمخابرات المختلفة ومورس فيه الأعمال الوحشية وأساليب التعذيب بحق المعتقلين والناشطين المعارضين لنظام الأسد).
التعاطي مع جرائم المخدرات عقب اندلاع الثورة في آذار 2011
يذكر “أبو عامر موصللي” وهو أحد الموظفين السابقين في القصر العدلي (كاتب محكمة) بالعاصمة دمشق، في حديث خاص لموقع تلفزيون سوريا، بأن أوامر وصلت من مكتب الرئاسة إلى قضاة التحقيق والجنايات في القصر العدلي، في شهر أيار2011، تطلب منهم تعميم كفّ بحث بحق 11 مطلوباً في جرائم المخدرات يمثّلون الشخصيات السورية الكبرى في تجارة وتهريب وترويج المواد المخدرة داخل سوريا وخارجها.
ويضيف الموصللي أن أحكام غالبيتهم تصل إلى الإعدام (غيابياً). وذكر أن بعضهم ينحدرون من عائلة آل “برّي” في حلب، بينما ينتسب 3 منهم لطائفة رئيس النظام، وينحدر الباقي من ريف دمشق الغربي وحمص وحماة ودرعا، مشيراً إلى أنهم كانوا يتزعمون عصابات تمتلك مختلف صنوف الأسلحة الخفيفة والرشاشة لحمايتهم.
كما لفت الموصللي إلى أن بعض المحكومين والمسجونين من مجرمي المخدرات تم إخلاء سبيلهم بعد مضي فترة وجيزة على وجودهم داخل السجن.
استثمر نظام الأسد أولئك المجرمين في بداية الأمر بعمليات قمع المظاهرات واعتقال المتظاهرين وتسليمهم إلى الفروع الأمنية، ثم أسندت لهم مهام تشكيل عصابات وميليشيات ضمن ما بات يعرف بـ “الدفاع الوطني” مع إطلاق يدهم في توسيع أعمالهم بتجارة وتهريب وترويج المخدرات.
التحوّل من “الترانزيت” إلى التصدير المباشر
قبل آذار 2011، كانت تصنّف سوريا كدولة مرور “ترانزيت” وليست كدولة منتجة للمواد المخدرة، لتمتعها بموقع استراتيجي يربط بين مختلف الدول؛ وذلك بحسب تصنيفات “مكتب منع الجريمة والمخدرات” التابع لمنظمة الأمم المتحدة.
أما بعد انطلاق الثورة السورية، وخصوصاً بعد تدخّل الميليشيات الإيرانية والمدعومة من إيران لمساندة نظام الأسد، وفي مقدمتها “حزب الله” اللبناني، تحوّلت سوريا من تصنيف الترانزيت إلى دولة منتجة ومصدّرة للمخدرات.
والمعروف أن “حزب الله” يعدّ من كبار نشطاء زراعة وتصنيع مختلف أنواع المخدرات داخل مناطق نفوذه في الدولة اللبنانية، وهذا النشاط يتم تداوله على العلن عبر الإعلام الرسمي للبنان ودون تدخّل يذكر من قبل السلطات الأمنية اللبنانية.
قام الحزب بتوسيع دائرة نشاطه ليشمل مناطق واسعة داخل الأراضي السورية، ولا سيما بعد سيطرته على المدن والبلدات الحدودية السورية المحاذية لحدود لبنان، كالقصير في ريف حمص والزبداني والقلمون بريف دمشق، قبل أن ينتقل إلى مناطق داخلية أخرى.
بعد سيطرته على تلك البقاع، صار “حزب الله” يتحكم بصورة مباشرة بأكثر من ضعفي المساحة التي تقع تحت نفوذ أنصاره في لبنان، والتي يستثمرها في زراعة وتصنيع المواد المخدرة.
يضاف إلى ذلك أيضاً، أن الحزب بات يتحكم بطرق نقل المخدرات وتوزيعها سواء داخل مناطق سيطرة النظام أو المناطق الخاضعة للمعارضة وكذلك الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد” أيضاً، بحيث يتم إدخال المخدرات إلى المنطقتين الأخيرتين عبر وسائل وقنوات سرية خاصة.
ليس ذلك فحسب، بل أضحى الحزب من أكبر المتحكمين بالموانئ البحرية السورية وكذلك المعابر الحدودية البريّة الجنوبية المحاذية للأردن بعد إتمام سيطرته على محافظة درعا وهضبة “اللجاة”، فأصبح طريق التهريب ممهداً أمام الحزب وأعوانه من السوريين الموزّعين في منطقة الساحل غرباً للتهريب عبر البحر إلى مختلف دول العالم، وفي درعا والسويداء جنوباً للتهريب باتجاه الأردن ودول الخليج.
أعوان الحزب المسيطرون على منطقة الساحل يتكونون من كبار شخصيات وشبيحة عائلة الأسد، وهم بالطبع لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تجارة الحزب وعائداته من تجارة المخدرات، خصوصاً أن إدارة الميناء تقع تحت سلطة آل الأسد وأقربائهم، فتشكلت حالات شراكة بين الطرفين لقاء تسهيل عمليات التهريب عبر موانئ الساحل السوري.
وانتشرت صور كثيرة تجمع أفراداً من عائلة رئيس النظام مع كبار تجار مخدرات الحزب، وعلى رأسهم “نوح زعيتر” الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بابن عم رئيس النظام “وسيم الأسد”.
كما أظهرت صور أخرى لقاءات جمعت بين “زعيتر” وضباط ومقاتلين من الحزب مع عناصر لقوات النظام في ريف حمص والقلمون.
أمّا “أيمن الجابر”، المصاهر لعائلة الأسد، فكان يعدّ المخطط الرئيس لتهريب مخدرات “حزب الله” إلى بعض الدول، حيث كان يدير ميناء اللاذقية بعد استبعاد “فواز الأسد” عن إدارته.
واستطاع الجابر تكديس أموال طائلة من فتح أبواب المرفأ أمام عمليات تهريب مخدرات “حزب الله”، وتمكّن بواسطة تلك الأموال من تشكيل ميليشيا خاصة به أطلق عليها “صقور الصحراء” وأخرى اسمها “مغاوير البحر”.
واتضح أن عناصر الميليشيا التابعة للجابر كانوا يعملون في تجارة ونقل المخدرات بالإضافة إلى الدخان المهرب والكحول، وتوزيعها في بعض مناطق الساحل والداخل السوري وكذلك لتأمين حراستها وتهريبها عبر الميناء.
وشيئاً فشيئاً، أخذ نفوذ الجابر يزداد في الساحل، مدعوماً من الحزب وإيران، ما أثار قلق النظام وحلفائه الروس، لينتهي الأمر بمصادرة جزء من أملاكه بعد صدام مع قوات الأسد داخل معاقل الطائفة في اللاذقية، قصف خلاله الجابر مدينة “القرداحة”، وقبل أن تتطور الأمور إلى حرب كبرى بين الطرفين، تم إنهاء الصدام بعد تقاسم الحصص.
الكبتاغون للعناصر والمخدّرات تحتل الشوارع
بحسب تقارير صادرة عن وزارتي العدل والداخلية في حكومة النظام، تَبيَّن أن متعاطي المخدرات تتراوح أعمارهم بين 15 -30 عاماً. وبأن نسبة قضايا المخدرات المنظور بها في المحاكم تتجاوز 15%.
كما تشير وزارة صحة النظام إلى ضبط حالات تعاطي للمخدرات داخل المدارس والجامعات، وسط انتشار واسع لمادة الحشيش المخدر، وتفشي حالات الإدمان، بسبب ظروف الحرب التي سهّلت تهريب مادة الحشيش بالدرجة الأولى والترويج لها بين فئة الشباب واليافعين، إضافة إلى انتشار شمّ مادة “الشّعلة” بين الأطفال .
ويصرّح إعلام النظام الرسمي عن وجود حالات وفاة بين صفوف الطلبة في المدارس والجامعات بسبب تناول جرعات زائدة من الحبوب المخدرة، وانتشار تعاطي حبوب “البالتان”، و”الترامادول”، حيث أصبحت تباع في “الأكشاك” المجاورة للمدارس وعلى البسطات التي غالباً ما يكون البائع فيها عنصراً أمنياً.
أما حبوب “الكبتاغون” المصنفة بين المواد المنشطة (إم فيتامين) فتنتشر بين عناصر قوات النظام والدفاع الوطني بصورة شبه مستدامة.
شحنات المخدرات المليونية وتمويل نظام الأسد
على مدار أكثر من خمس سنوات مضت، تمكنت إدارات جمارك كل من الأردن السعودية وقبرص وتركيا واليونان وإيطاليا، بالإضافة إلى مصر؛ من ضبط كميات هائلة من أصناف الحبوب المخدرة (الكبتاغون) يتجاوز عددها المليار حبة (دون معرفة عدد ما تم تهريبه وتصريفه دون ضبطه)، وجميعها قادمة من موانئ سوريا البحرية أو المعابر البرية، وجميعها مسيطَر عليها من قبل النظام.
ففي شهر تشرين الثاني 2018 ضبطت الأردن أربعة ملايين حبة كبتاغون قادمة من معبر “نصيب” الحدودي. وفي كانون الأول 2019، ضبطت السلطاتُ الأردنية أيضاً سيارة حاولت اجتيازَ معبر نصيب ليتبيّن أنها تحمل ما يقرب من مليونين و700 ألف حبة كبتاغون.
وفي السعودية، ضبطت إدارة الجمارك في نهاية العام الماضي أكثر من 25 مليون حبة كبتاغون، مصدرها سوريا.
وبحراً، ضبط خفر السواحل اليوناني، في الخامس من تموز 2019، سفينة محمّلة بشحنة تحوي أكثر من 5 أطنان من “الكبتاغون” المخدر، ومصدرها موانئ سوريا. ووصفت الحمولة آنذاك بأنها الأكبر من نوعها في تاريخ جرائم تجارة المخدرات على الإطلاق، لتحطم الرقم اليوناني القديم.
كانت الشحنة عبارة عن 3 حاويات (كونتنيرات) حوت قرابة 33 مليون حبة “كبتاغون”، قادمة من الموانئ السورية، وقدّر سعرها آنذاك بنحو (580 مليون يورو/ 690 مليون دولار أميركي).
ولكن الشحنة التي ضبطتها البحرية الإيطالية، في مطلع تموز من هذا العام، ضمت كمية من الكبتاغون تبلغ 14 طنًا قادمة من سوريا، محطمة بذلك رقم الخفر اليوناني القديم، لتحتل مرتبة العملية الأكبر في تاريخ العالم.
وفي مطلع آب من السنة الحالية، ضبطت الجمارك الرومانية شحنة تضمّنت 1480 كيلوغرامًا من الحشيش، و751 كيلوغرامًا من حبوب الكبتاغون المخدرة (أكثر من أربعة ملايين قرص مخدر)، بقيمة تقدّر بنحو (60 مليون يورو) قادمة أيضاً من ميناء اللاذقية.
ووصفت الشرطة الرومانية عملية ضبط شحنة المخدرات تلك بأنها أكبر عملية ضبط لحبوب الكبتاغون والحشيش في هياكل مكافحة تهريب المخدرات بتاريخ الشرطة الرومانية.
وتبقى عشرات وربما مئات الشحنات التي تمكنت من العبور دون أن تضبطها سلطات البلاد، لتحتل بذلك المخدرات المرتبة الأولى في قائمة إيرادات نظام الأسد على الإطلاق.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا