معبد الحسون كاتب سوري متميز، هذا أول عمل أقرؤه له. قبل حلول الظلام – حين يصير الدم ماء. نُشر على أنه رواية، رغم أنه أقرب لسيرة ذاتية وشهادة للتاريخ، للكاتب نفسه، يتحدث فيها عن اعتقاله وسجنه في بداية ثمانينات القرن الماضي، بدءاً من فرع الأمن العسكري في دير الزور إلى الأمن العسكري في دمشق، ومنها إلى سجن المزة العسكري، وبعدها إلى سجن تدمر الذي بقي فيه سنوات، ونقل بعد ذلك إلى سجن صيدنايا السياسي، وأُطلق سراحه بعد مضي حوالي أحد عشر سنة. يتحدث فيها عن نفسه والآخرين الذين جمعته بهم ظروف الاعتقال والسجن، مستحضرا نماذج إنسانية متميزة ومتنوعة، تظهر مفارقات مهمة، شارحاً الواقع الحياتي والمعيشي ومعاملة السجّانين السيئة، المحاكمات الصورية، الإعدامات وحياة الجحيم التي عاشها السجناء السياسيون، على خلفية أحداث الثمانينات في الصراع بين النظام والطليعة المقاتلة، والتي طالت الإخوان المسلمين، والقوى السياسية الوطنية الديمقراطية السورية أيضاً. هذه الأحداث التي يسميها الكاتب ثورة.
تبدأ السيرة الذاتية -الشهادة- من اعتقال معبد الحسون نفسه، على خلفية علاقة غامضة ربطت بعض أصدقائه بحزب البعث الجناح القومي المحسوب على العراق، وكان هذا الحزب وكوادره معتبرين في ذلك الوقت من حلفاء الطليعة المقاتلة، الذين أعلنوا ثورتهم على النظام منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، لذلك كان اعتقالهم والتنكيل بهم تحصيل حاصل. لم يستطرد معبد بالتحدث عن نفسه والتحقيق معه، بل بدأ من تحويله مع مجموعة من المعتقلين الآخرين من فرع التحقيق العسكري في دير الزور إلى فرع التحقيق العسكري في دمشق، بما يعني أن قضيتهم انتقلت إلى مركز السلطة في دمشق، وأن قضيتهم قد تطول وتتعقد.
في سيارة الزيل التي ركب فيها العديد من المعتقلين السجناء على عيونهم الطماشات وفي أياديهم الكلبشات، وتربط بينهم سلسلة من الحديد، يتأوهون ويتوجعون و يستفسرون إلى أين يأخذونهم، بصحبتهم بعض من الشرطة العسكرية لحراستهم، السجناء يعانون والشرطة تتعامل معهم بقسوة، لا راحة على الطريق، لا دخول إلى المراحيض، يتبولون ويتبرزون في ملابسهم، البعض يتألم ويحتج. يقتله الشرطي ليصمت للأبد، وآخر يموت من ألمه، والشرطة المصاحبة لا تهتم. يصلون بعد ساعات من المسير المتواصل إلى فرع التحقيق العسكري، ويودعون هناك في ظروف استقبال قاسية جداً، ليتم بعد ذلك نقلهم الى سجن المزة العسكري.
لا يتحدث معبد عن نفسه كثيراً، بمقدار ما يتحدث عن الآخرين الذين التقى بهم، وما ترسب في ذاكرته عنهم، بعد مضي عقود، مع التزام التوثيق بالأسماء والصور للبعض، إن أمكن، لعلّ دافعه العبرة، ولكي نعرف ولا ننسى ما حصل معنا وعندنا في جمهورية القمع والموت؛ سورية.
في سجن المزة العسكري الذي كان المحطة الاولى في رحلة سجن معبد الطويلة، التقى بالكثير، يطّلع على حكاياهم ويخزنها في ذاكرته ليوم يدونها و يعيد نشرها، كما حصل في هذا الكتاب. لقد ظهر من الكتاب أن معبد كان مسكوناً بهاجس العيش في الحالة، ومراقبتها وامتصاص العبرة وزرعها في ذاكرته. إنها قصص محددة لأشخاص محددين، كانوا في أسوأ الأمكنة وتحت أعلى درجات المظلومية.
نحن -هنا- لن نستطيع أن نورد الحالات الفردية والجماعية التي رصدها الكاتب، وإلّا أعدنا كتابة السيرة كلها، لكننا سنورد بعض العينات كشواهد، لنظهر رسالة الكتاب والكاتب.
في سجن المزة العسكري سيلتقي الكاتب ب “فؤاد” الشاب الذي كان على علاقة جنسية -لواطة- مع “خليفاوي” الذي كان رئيس مجلس الوزراء السوري وقتها أو قبل زمن، هذا الشاب الذي جنده الأمن وطلب منه أن يمارس الجنس مع خليفاوي وأن يصور ذلك على شكل فيديوهات أخذها الأمن واستعملها ادلة ادانة لخليفاوي بعد حين..!. وهناك تعرّف الكاتب على قيادات الدولة التي أودعهم حافظ الأسد السجن بعد انقلابه عليهم عام ١٩٧٠م التي أسماها حركة تصحيحية. الرئيس المخلوع نور الدين الاتاسي، صلاح جديد أمين عام حزب البعث والرفيق الأقرب لحافظ الأسد، وزير الداخلية السويداني.. الخ. رصد تحويلهم إلى رهائن في سجن المزة العسكري، في معاملة رعاية وتمييز -نسبياً- قياساً مع غيرهم من السجناء. لكنهم سيبقون محتجزين حتى الموت أو ما قبل الموت بقليل. كما يتحدث بإسهاب عن مجموعة العميد شعبان خطاب التي كانت تعدّ للقيام بانقلاب على النظام، استقطبت حوالي المئة ضابط في كل صنوف الاسلحة، ولكن كشفت المحاولة من خلال وجود اختراق أمني عبر أحد الضباط الذي أبلغ الأمن، حيث لاحقوا الجميع و اعتقلوهم و حاكموهم، البعض أُعدم والبعض استمر مسجوناً سنوات طويلة. وتحدث ايضاً عن مجموعة من الشبان في اللاذقية سميت مجموعة شغب اللاذقية، قامت بأعمال عنف ضد السلطة، بشكل مستقل ودون توجيه سياسي، خاصة أن وجه النظام الطائفي العلوي كان حاضراً بقوة في سورية كلها، وفي الساحل بشكل أوضح وأسوأ. كما تحدث عن نديم طابوشة ابن اللاذقية صديق حافظ الأسد منذ سنوات دراسته الثانوية، واستمرت العلاقة حتى التحق الأسد بالجيش ومن ثم تسريحه وعودته بعد حركة آذار ١٩٦٣م. وتحوله ليكون وزيرا للدفاع ومن ثم رئيسا مطلقا لسورية، لم يشفع لنديم طابوشة تلك العلاقة الوطيدة. وأودع في سجن المزة العسكري. كما التقى معبد في سجن المزة العسكري الضابط السابق في الاستخبارات السوري محمد وداد بشير، الذي كان له شرف القبض على الجاسوس الإسرائيلي كوهين، كان ذلك سببا لاعتقال كوهين واعدامه، ويقول الضابط إن الإعدام السريع لكوهين كان لكي لا يكشف عن شبكته الجاسوسية في سورية، والتي هي من كبار الضباط، ويقول إن حافظ الأسد نفسه جزء من هذه الشبكة، وأنه متوافق مع الصهاينة، وخاصة في الإعلان عن سقوط الجولان، وكيف اصطدم الأسد مع اللواء سويداني حول ذلك، وخون السويداني الأسد، وادى لاعتقال السويداني وإيداعه السجن. كما سجن الضابط الذي كتب عن “سقوط الجولان” متهما الأسد ببيعها للصهاينة.
لم يدم سجن معبد في سجن المزة العسكري كثيرا، حيث نقل بعدها الى سجن تدمر. السجن ذائع الصيت، في هذا السجن سينصبُّ ما يذكره معبد عن سجن تدمر، بأنه كان يعتمد على التعذيب المستمر والإذلال و اعتماد كل صنوف القهر الجسدي والمعنوي، الذي أدى في كثير من الحالات الى موت السجين، دون أي محاسبة أو مراجعة.
لقد كان مثل معبد أمام المحكمة الميدانية العسكرية في دمشق وحكم فيها خمس سنوات، بشكل صوري دون أي فرصة دفاع ذاتي أو توكيل محام. كانت هذه المحكمة مجرد واجهة للنطق بحكم مقرر من الأجهزة الأمنية سلفا. كذلك الحال في تدمر فقد كان فيها محكمة عسكرية ميدانية أخرى، لا يمثل المتهم أمامها أكثر من دقائق ليسمع الحكم بين سجن لسنوات والإعدام. كانت البراءة نادرة، ومع ذلك كل المحكومين يمكثون في السجن حتى تأتي قرارات إفراج من السلطة، ومن ينتهي حكمه يُمدد تلقائيا. أما أحكام الإعدام فقد كانت تنفذ بشكل دائم بمعدل مرتين أسبوعيا.
حفل الاستقبال في سجن تدمر كان وحشيا، بحيث يصل السجين الى جناحه وقد تلقى من الضرب والجلد ما يدميه وينهكه، كما أن الحياة اليومية كانت محكومة بتفاصيل كثيرة مقترنة مع التعذيب والإساءة والمهانة، كل الوقت.
يستقبل السجن المزيد من السجناء دوما، لذلك كانت المهاجع لا تتسع، ومع مضي السنين قام النظام ببناء مهاجع جديدة، كان التعذيب متنوعا مثل نقص الغذاء والماء، والنقل الاسبوعي للحمام، حيث حفلة تعذيب أخرى، وكذلك بالذهاب الى الحلاقة. هذا غير الاستهداف الشخصي العشوائي، ولا أحد خارج احتمال أن يستدعى ويعذب وقد يموت تحت التعذيب. ومع مضي الوقت بدأ السجناء بمحاربة واقعهم القاسي واللا إنساني من خلال تبادل المعلومات بينهم، حفظ الشعر والقرآن الكريم والحديث والتاريخ وجميع العلوم. كان في السجن مهاجع للنساء، لكنهم لم يطّلعوا على أحوالهم ابدا. وكذلك كان هناك مهاجع للأحداث دون الثمانية عشر عاما. انعكس التعذيب والإساءة عليهم بأسوأ صوره. كما يتحدث معبد عن التجويع المقصود، الطعام لا يصل الى بضع زيتونات او ملعقة صغيرة من اللبنة او قليل من الشاي في قعر الكأس. وكان اسوأ تعذيب عاشوه، هو انقطاع المياه عنهم، لقد توقفت عجلة الحياة عندهم لعدة شهور، نقص مياه الشرب، انعدام مياه الغسيل والاغتسال والوضوء، وهذا ادّى لانتشار جميع انواع الامراض بينهم، وخاصة السل، الذي أصبح جائحة أصابت الكل تقريبا. مما دفع مسؤولي السجن للاستعانة بطبيب السجن وأطباء من السجناء، وأمّنوا لهم الكثير من الادوية، لكن ذلك لم يقضِ على المرض بل خففه قليلا، مات الكثير، وبدأت حملة علاج، وعزل المتعافين في مهاجع خاصة، عيّن معبد مسؤولا لأحدها، يعني رئيس مهجع.
استمر سجن معبد في تدمر سبع سنوات تحدث فيها عن نماذج كثيرة لمن وصل الى ذلك السجن وعاش جحيمه. المفارقات كثيرة وعجيبة، بعض المهربين الذين سجنوا لأسباب مختلفة يتحدثون عن تهريب اليورانيوم بيقين مطلق! كنوع من التهويل عن جهل. ويتحدث عن بعض السجناء القضائيين الذين يتحاشون السياسيين، عبر وصفهم لأنفسهم؛ بأنهم جماعة نصب وسرقة وليسوا سياسيين، هم يحاكمون ويخرجون لاحقا، أما السياسيون فإلى تدمر وقد يعدمون، الحل أن يبتعدون عنهم؟ !. كما يتحدث عن بداية اعتقال بعض القوى السياسية من غير الإخوان والطليعة المقاتلة والمحسوبين على العراق، فقد اعتقل الكثير من حزب العمل الشيوعي ومن بينهم القيادي فاتح جاموس ودرجة الرعب مما سمعوا عما ينتظرهم في تدمر.
الأهم في كل ما يسرده معبد هو أنه ليس كل المساجين كان من الذين لهم علاقة بمن واجه النظام. مثلاً هنالك من شاهد مناما، او من آوى واحدا من الطليعة المقاتلة، او من شتم او كُتب به تقرير. مثل ذلك الجندي المتهم بأنه لم يبصق على جثة ابراهيم اليوسف عندما سُحلت في مدرسة المدفعية، لم نلحظ أي أحد قام بأي عمل عنيف ضد النظام من كل من التقى بهم معبد طوال سنوات سجنه الإحدى عشر. هناك مؤشر أن من قام بأعمال عنف قد قتلوا ولم يصلوا الى السجن ابدا ؟ !. وأن من وصل منهم للسجن راح ضحية مجزرة تدمر التي لم ينجُ من المهاجع المهاجمة فيها سوى خمسة عشر سجينا، سيلتقي بهم معبد في سجن صيدنايا لاحقا. والناجون لم يكونوا مقاتلين كان أغلبهم رهائن عن مطلوبين للنظام .
كما يتحدث معبد عن نماذج انسانية فريدة داخل السجن خاصة الأطباء الذين تفانوا في محاربة السل الذي انتشر بين جميع السجناء تقريبا. كما تحدث عن وقائع مأساوية مثل الأخوين الذين حكم الكبير بالإعدام والصغير خمس سنوات، وكيف أصر الصغير على أن يعدم بدل أخيه لأن العائلة بحاجة للأخ الأكبر، وهكذا حصل واعدم الصغير، لكن القدر كان قاسيا فقد مرض الأخ الأكبر بعد سنتين ومات في السجن.
ينقل لنا معبد الكثير من قصص السجناء المتنوعة. تحدث عن مجموعة يشار الإسلامية الموغلة في التزمّت والسلفية، او من يهجس بالخلود، ويحقق في ذاته الوهية ما. وذلك الذي سجن بسبب اجابة على سؤال كيف الهمة، بكلمة تمام، سنوات في سجن تدمر. حكايا لا يتقبلها عقل وغير قابلة للفهم، الّا في حالة اننا امام نظام استباح الشعب وارواح الناس وكل ما يملكون، دون حسيب أو رقيب.
يقضي معبد في سجن تدمر سبع سنوات، ومن بعدها ينقل وكثير من السجناء السياسيين الى سجن صيدنايا الذي كان قد بناه النظام خصيصا للسجناء السياسيين، كان على شكل اشارة سيارة المرسيدس، البناء ذو طبقات ثلاث. جمع به السياسيون من كل السجون في سورية، ومن كل التيارات السياسية؛ طليعة مقاتلة وإخوان مسلمون، ورابطة عمل وبعث عراقي وبعث ديمقراطي، وغيرهم كثير. صار الاحتكاك والتواصل بين الجميع ممكنا و متاحا. كان سجن صيدنايا أفضل بكثير من سجن تدمر ولم يعد يحصل فيه تعذيب، تحسنت الخدمات والتهوية والحركة ، لقد أصبح مكان احتجاز وليس مكان تعذيب واذلال واساءة، كما سجن تدمر والمعتقلات الأخرى. وهنا في سجن صيدنايا ايضا، عاد معبد ليتحدث عن نماذج إنسانية متنوعة. مضى على سجنه في سجن صيدنايا اربع سنوات أخرى، أفرج عن معبد الحسون بعد مضي أكثر من أحد عشر عاماً في سجون النظام. كان ذلك في أوائل التسعينات من القرن العشرين.
يختم معبد الحسون سيرته الذاتية بالانتقال الى التحدث بالمختصر وبتركيز جديد عن الزمن الحاضر عام ٢٠١٩م، مشيرا الى أن واقع الحال لم يتغير على السوريين، ها هم قد قُتلوا في بلادهم، التي دمرت فوق رؤوسهم، والفاعل نفس النظام المجرم عبر خمسين عاما، ومن نجى تشرّد لاجئا في الدنيا، يبحث عن خلاص مستحيل.
ختم موضحا أن حراك الشعب في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي صمت عنه العرب والعالم. وأن ما حصل مع السوريين والجرائم المرتكبة بحقه، في ثورته الحالية في عام ٢٠١١م. قد أكد أن العالم يعتمد ثلاثية القرود في التعامل مع المظلومية السورية: لا ارى، لا اسمع، لا اتكلم…
إنه العار السوري يجلل العالم.
هنا تنتهي الشهادة – السيرة الذاتية-.
وفي التعليق عليها نقول: نحن أمام شهادة جديدة تنضم للعديد من الشهادات عن أحداث سبعينات و ثمانينات القرن الماضي، وأكثر دقة، عن السجناء السياسيين وخاصة في تدمر. وأن هذه الشهادة كانت مختلفة عن سابقاتها، بطريقة العرض، حيث جعل معبد الحسون صاحب الشهادة، مسافة بين ذاته وبين الموضوع الذي هو جزء منه، وهو السجن والاعتقال. استطاع بنجاح أن يسبر حالة السجن والسجناء وأن يتعمق في متابعة أوضاعهم، وكأنه مكلّف ببحث علمي، يتابع ويلتقط المختلف والنوعي والمتميز والغريب، ويرصد حالات وأشخاص بعينهم ساردا حكاياهم. بحيث تحولت شهادته الى شهادة عن نفسه وعن العشرات، ممن كانوا معه في السجون التي انتقل فيها من فرع التحقيق العسكري في دير الزور، الى فرع التحقيق العسكري في دمشق، الى سجن المزة العسكري، إلى سجن تدمر، ثم سجن صيدنايا، في حوالي الأحد عشر عاما.
هنا تتميّز شهادة معبد الحسون. وامتيازها، على ما فيها من رصد لمظلومية السوريين جميعا في أضعف حالة انسانية عاشوها، انهم المعتقلون السياسيون. القضية التي لم تلتئم جراحها مع الثورة الحالية للسوريين، بل زادت وتوسعت وتعمقت، حيث مئات آلاف المعتقلين والمقتولين والمغيبين والكثير ممن لم يعرف مصيرهم. مازال جرح الثورة السورية نازفا. وما زالت مطالب الشعب السوري بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، تنزف المزيد من الضحايا، وما زال طريق الوصول الى هذه الاهداف طويل ومليء بالقرابين السورية.