بوادر تحول الكرملين من الإنكار إلى الاعتراف بفوز بايدن

سامي عمارة

بوتين يفضل التريث بالتهنئة إلى حين الإعلان الرسمي عن النتائج وصحافته تنطق بما لا يريد الإفصاح عنه. بعد صمت لم يطل كثيراً، أفصح الكرملين عن حقيقة مواقفه من النتائج التي تظهر تباعاً للانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ كشف المتحدث الرسمي باسم الرئيس فلاديمير بوتين، دميتري بيسكوف، عن الأسباب التي تحول دون إعلان الرئيس الروسي تهنئته للرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن. أعاد بيسكوف تأكيد ما سبق وقاله بوتين عن أن “روسيا على استعداد للعمل مع أي رئيس ينتخبه الأميركيون”، ونقل عنه قوله إنه “سيحترم خيار الشعب الأميركي، وأنه يظل على استعداد للعمل مع أي رئيس منتخب للشعب الأميركي”. وتعليقاً على تعجل الرئيس بوتين تهنئة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب عام 2016، في حين اختار الصمت تجاه نتائج الانتخابات الأخيرة، قال بيسكوف إن الأمر يختلف عن ذي قبل، إذ أن الأوضاع الآن تتطلب التريث إلى حين حسم عدد من جوانب العملية الانتخابية من الناحية القانونية، وبما تقتضيه أصول اللياقة من الانتظار حتى الإعلان الرسمي لمجمل نتائج العملية الانتخابية.

وعلى الرغم من كل ما قيل عن تأكيد فوز بايدن في الانتخابات الأميركية، تقف موسكو في حيرة من أمرها أمام كيفية التعامل مع الوافد الجديد إلى البيت الأبيض، وهو الذي طالما أعربت موسكو عن عدم ارتياحها لاحتمالات فوزه والتعامل معه، ما يفسر حال الارتباك العام التي تتسم بها تغطية القنوات الروسية الرسمية للنتائج “غير الرسمية” لانتخابات الرئاسية الأميركية.

ومن هذا المنظور يمكن تفسير ما تقوله بعض هذه القنوات من أن بايدن الذي أعلن نفسه رئيساً للولايات المتحدة سيكون “شريكاً غير مريح”، وهو الذي كان نائباً للرئيس السابق باراك أوباما الذي تدهورت في ظل سنوات رئاسته علاقات روسيا مع الولايات المتحدة، منذ اندلاع الحرب مع جورجيا في أغسطس (آب) 2008، وما تلا ذلك من أحداث في أوكرانيا، وما أسفرت عنه من تطورات انتهت بضم القرم إلى روسيا عام 2014. وأعادت موسكو في أكثر من برنامج تلفزيوني ما سبق وقاله بايدن عن أن موسكو “ستبذل قصارى الجهد للحيلولة دون انتخابي رئيساً للولايات المتحدة، لأنهم في روسيا يعرفون أني أعرفهم، وأنا أعرف أنهم يعرفونني”. وأعادت هذه البرامج الحوارية إلى الأذهان أهم القضايا الساخنة التي تثير مشاعر بايدن وتستفزه، وفي مقدمها قضية تسميم المعارض الروسي ألكسي نافالني، وما قيل عن أن الروس رصدوا المكافآت لـ “طالبان” لقاء قتل الجنود الأميركيين في أفغانستان، وهو ما نفته موسكو في حينه، فضلاً عما سبق وأعلنه من اهتمامه بالأزمة الأوكرانية.

وفيما يبدو أنه يشبه اليقين، من أن موسكو مدعوة إلى التعامل مع الرئيس الجديد في شخص بايدن سيد البيت الأبيض المقبل لا محالة، تحاول الأوساط الإعلامية الروسية تمهيد الأجواء للانتقال من مرحلة “الإنكار” إلى مرحلة “الاعتراف” بالأمر الواقع، استعداداً لبدء حوار تريده وإن كانت لا تتعجله، انتظاراً لتوقيتات أكثر مناسبة، بعيداً من أصداء الانتخابات وما شابها من أجواء اتسمت في معظمها بالتوتر والمشاحنة.

ومن هنا تفسح بعض البرامج الحوارية المحسوبة على الكرملين المجال أمام شخصيات “أجنبية” للإدلاء بآراء تقترب مما تريد أن تقوله، على غرار برنامج “سولوفيوف لايف”، الذي استضاف جنرال الموساد السابق ياكوف كيدمي، اليهودى – الروسي، والمنشق السابق الذي هاجر إلى إسرائيل بعد حرب يونيو (حزيران) 1967، وشارك في المعارك التي دارت بين مصر وإسرائيل منذ تلك الفترة وحتى العام 1973.

يقول كيدمي، كازاكوف السوفياتي، إن الأمر لم ينته بعد في الولايات المتحدة، وإن سارع ليصحح لنفسه بقوله، إنه لا توجد “فرصة لإنقاذ ترمب، وإن الرسائل والبرقيات بدأت تتوالى بتهنئة بايدن”. وعلى النحو نفسه من التعبيرات حمالة الأوجه، قال كيدمي إن بايدن لم يطرح برنامجاً معيناً ذا قيمة، وأن الأهم كان بالنسبة إليه هو إقصاء ترمب. وأضاف أن شيئاً جللاً لن يحدث قبل ستة أشهر قد تمتد إلى ما هو أقرب من العام، ويمكن أن تنحو الأوضاع بعدها صوب مرحلة الجدية والتصحيح مع تولي كامالا هاريس منصبها الذي جاءت من أجله، في إشارة إلى احتمال توليها منصب الرئاسة خلفاً لبايدن. أما عن الأسباب، فقال كيدمي إنها تكمن في نظام اختيار نواب الرئيس الأميركي الذي طالما جاء بضعاف القدرات، على حد قوله، لشغل هذا المنصب، والحديث لا يدور هنا حول هاريس التي وصفها بأنها “أكثر نذالة” من هيلاري كلينتون، وإن كانت أكثر ذكاء وعدوانية منها، بل المقصود هو بايدن الذي يضعه جنرال المخابرات الإسرائيلية السابق في عداد “ضعيفي القدرات، مثله في ذلك مثل ليندون جونسون مع الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي، وجيرالد فورد مع ريتشارد نيكسون”، بل ومضى إلى ما هو أبعد حين تذكّر نائب الرئيس هاري ترومان الذي خلف فرانكلين روزفلت عام 1945.

ومن اللافت في هذا الصدد أن سولوفيوف صاحب الصوت العالي، المعروف بمقاطعته الحادة التي تخرج عادة عن المألوف واللياقة مع كثير من ضيوفه، ترك الحبل على الغارب لضيفه الإسرائيلي، كي ينعت من يشاء بما شاء من أوصاف، على نحو يثير الشكوك حول المهمة المكلف بها.

مع ذلك فقد ظهرت بعض التغطيات الصحافية ومنها “رسائل” مراسلي القنوات التلفزيونية الروسية الرسمية في الولايات المتحدة، التي اقتربت أكثر من الحياد والموضوعية، وإن سقطت في شرك الاستشهاد بما يقوله الرئيس المنتهية ولايته، بكل ما تتضمنه من “اتهامات” بالتزوير والمخاتلة. ولم تكن الشخصيات الرسمية، ومنها رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الاتحاد قسطنطين كوساتشوف، بعيدة عن مثل هذا التوجه، إذ عزا كوساتشوف كثيراً من التوتر الحالي في الساحة السياسية الأميركية إلى القصور الذي يعتري النظام الانتخابي في الولايات المتحدة، وإن اضطر إلى الاعتراف ببايدن. أما نظيره في مجلس الدوما ليونيد سلوتسكي، فقد أشار إلى أن أحداً لا يتوقع تحسناً كبيراً في العلاقات الروسية – الأميركية خلال ولاية بايدن، وعزا ذلك إلى تشدد بايدن، وأنه كان في صدارة المبادرين إلى تأسيس نظام العقوبات ضد روسيا إبان سنوات حكم أوباما، فضلاً عن إعلانه خلال حملته الانتخابية أن روسيا هي العدو الأول لبلاده.

ومع ذلك، فقد أعرب سلوتسكي عن استعداد بلاده للتعاون مع أي رئيس أميركي، مؤكداً في الوقت نفسه عدم استبعاده احتمالات ظهور عناصر إيجابية في السياسة الخارجية لإدارة بايدن، ومنها العودة إلى اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي مع إيران، وهو ما نضيف إليه إعلانه عودة بلاده إلى الاضطلاع بكامل دورها في منظمة الصحة العالمية.

على أن الأهم يظل في ما تطرحه بعض الأقلام عن احتمالات التعاون خلال الفترة المقبلة مع الرئيس الجديد، فثمة ما يشبه الإجماع على أنها ستشهد كثيراً من التجاذب السياسي والتشدد من جانب الرئيس المنتخب، في توقيت مواكب لترقب واسع النطاق من جانب الأوساط السياسية الروسية التي تعكف على درس الموقف تجاه الأصعدة كلها، الإقليمية منها والدولية، وفي هذا الشأن يتوقع المدير التنفيذي لمنتدى فالداي المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الكرملين، ورئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع، فيدور لوكيانوف، أن تتسم العلاقات الروسية – الأميركية بكثير من التشدد والتوتر على خلفية المنافسة بين موسكو وواشنطن في الفضاء السوفياتي السابق، إلى جانب منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك سوريا وليبيا.

ونقلت وكالة أنباء “تاس” الروسية عن شون جيللوري من مركز دراسات روسيا وشرق أوروبا التابع لجامعة بيتسبورغ تصريحاته حول أن “فوز بايدن سيؤثر سلباً في العلاقات الروسية – الأميركية، بالقدر نفسه الذي ترى فيه واشنطن سياسات العاصمة الروسية”. ويتوقع كثير من ممثلي مراكز صناعة القرار في موسكو توجه الرئيس المنتخب نحو إحياء وترميم ودعم التحالفات القديمة، لا سيما مع بلدان الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، واستعادة زخم التعاون الذي تأثر كثيراً بعد تولي الرئيس المنتهية ولايته إدارة البيت الأبيض.

ونقلت المصادر الروسية عن الرئيس المنتخب بايدن وبحسب ما أشرنا إليه آنفاً، اهتمامه في العلاقات الروسية – الأميركية بقضيتين قد تكونان في مستهل نشاطه على الصعيد الثنائي مع موسكو، وهما قضية تسميم نافالني، والسبل المقترحة الخاصة بحل الأزمة الأوكرانية، لا سيما ما يتعلق منها باستعادة أوكرانيا شبه جزيرة القرم، والأوضاع في جنوب شرق أوكرانيا الخاصة بإقليم الدونباس الذي أعلن الانفصال عن أوكرانيا من جانب واحد عام 2014. وتقول المصادر الرسمية الروسية في هذا الصدد، إن موضوع شبه جزيرة القرم غير قابل للنقاش بحكم التعديلات الجديدة للدستور الروسي في أبريل (نيسان) الماضي، والتي تحرم التباحث أو النقاش في أية مسألة تخص وحدة أراضي الدولة السوفياتية واستقلالها وسيادتها. والقرم صارت منذ عام 2014 جزءاً لا يتجزأ من أراضي روسيا الاتحادية. أما عن إقليم الدونباس، فقد وقّعت أوكرانيا مع ممثلي هذه المنطقة اتفاقات “مينسك” في 2015، والتي تنص على الحلول المقترحة والتزامات كل من الجانبين تحت رعاية رؤساء روسيا وألمانيا وفرنسا.

وذلك كله يعني تزايد احتمالات تجدد الحرب الباردة التي لم تكن عملياً انتهت بالاتفاق الذي توصل إليه الرئيسان السابقان السوفياتي ميخائيل غورباتشوف والأميركي جورج بوش الأب بمالطا في ديسمبر (كانون الأول) 1989، وذلك ما أكده اليهودي – الروسي الذي هاجر إلى الولايات المتحدة، والمدير الحالي لمركز المصالح العالمية في واشنطن، نيكولاي زلوبين، الذي نقلت عنه وكالة “نوفوستي” توقعاته بأن بايدن سينقل روسيا إلى المركز الأول بدلاً من الصين في قائمة أعداء الولايات المتحدة الأميركية، وكانت “نوفوستي” نقلت أيضاً عن المساعد السابق لوزير الخزانة الأميركية في إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان بول كريغ، ما قاله عن أن بايدن لن يعارض في أغلب الظن توجهات الأجهزة الأمنية المناوئة لروسيا، وكذلك ما أعرب عنه من توقعات حول احتمالات توجهات ودية الطابع وإن كانت “ضيقة النطاق”، معيداً إلى الأذهان ما انتهجه الديمقراطيون مع أجهزة الأمن الأميركية من سياسات للحيلولة دون تطبيع الرئيس المنتهية ولايته للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا”.

وكان الرئيس بوتين سبق وأعاد إلى الأذهان كثيراً من هذه المعاني حين اصطدم بتراجع الرئيس جورج بوش الابن عن معاهدة الحد من الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ في ديسمبر (كانون الأول) 2001، وهو ما كان البداية العملية لسباق تسلح جديد بمبادرة من الجانب الأميركي، وأعلنه بوتين في خطابه أمام مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي بميونيخ في فبراير (شباط) 2007، إذ رفض نظام القطب الواحد، وشدد على عزم بلاده تعزيز قواتها المسلحة.

المصدر: اندبندنت عربية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى