عائد الى حلب، هي الجزء الثاني من ثلاثية الروائي السوري المتميّز عبد الله مكسور عن الثورة السورية، أولها أيام في بابا عمرو، ثم هذه عائد الى حلب، والقادمة درب الآلام.
كانت رواية أيام في بابا عمرو قد تحدثت عن الثورة السورية، على لسان الكاتب نفسه، حيث ستكون الرواية رحلة للكاتب الذي عاد من بلاد الغربة، ليعيش الربيع السوري وبداية الثورة في منتصف آذار ٢٠١١م، ويكتب عن ذلك، ويصنع بعض الافلام الوثائقية عن الثورة السورية، واكب في أيام في بابا عمرو، بدايات الثورة والتظاهر واندفاع الناس والتجمعات، التظاهرات المليونية، وبداية استعمال العنف من النظام، القتل، وسقوط الشهداء، مهاجمة الأمن والشبيحة للتظاهرات، وبداية تشكل التنسيقيات، وخلايا الجيش الحر، وبداية الانتقال الى مواجهة النظام بالقوة العسكرية على تواضع تلك الأعمال. كان الكاتب قد عايش كل ذلك وفي اغلب مناطق التظاهر والحراك الثوري، سواء بحضوره او عبر التواصل مع الناشطين. وفي نهاية الرواية التي واكبت الثورة في بداياتها. جاءه طلب أن يعود إلى حلب ليغادر منها إلى خارج سورية.
في هذه الرواية عائد الى حلب سنشارك الكاتب مسارين للحدث الروائي عنده، الاول وهو تحركه على الارض السورية، تابع مسارات الثورة، تارة يتواجد بين الثوار، وتارة في قبضة النظام وجيشه وأمنه ومعتقلاته. أما المسار الآخر فهو العيش في الحالة النفسية الاسترجاعية للكاتب نفسه، فنحن -كقرّاء- موجودين معه في كل ما يخطر في نفسه، فهو ابن للحدث المباشر، وابن للتاريخ الذي عاشه و عرفه و أدركه، يعود إلى ذاته كل الوقت. هناك عدم انضباط في السرد، فقد يكون مع الثوار في احدى مناطقهم المحررة، ونجد أنه يقفز بنا الى حالة اعتقال وتعذيب أو سجن وما عايشه هناك. لا نتشتت بذلك. بل يزيد الرواية فرادة، لأن الكاتب متمكن من ناصية الرواية؛ التي يجعلنا نعيشها بصفتها خبرة شخصية له.
فالرواية تظهر على كونها شهادة شخصية للروائي أكثر منها رواية عن حالة وحدث ومسارات تنمو لتصل لذروة الرواية واهدافها كما رسمها الكاتب قبل كتابة روايته.
في هذه الرواية، نحن أمام رواية تستمر بالحديث عن الثورة السورية بكل تفاصيلها، بلسان شاهد عيان، هنا الزمن دائري حول ذات الموضوع، الثورة والشعب والنظام والصراع ومسارات ذلك على الأرض وفي الميدان.
في هذه الرواية نتابع فعل النظام بعد أن قرّر القضاء على الثورة، ولو قضى على الشعب، ولو دمر البلد. كما قرّر الثوار أن يواجهوا النظام ولو كانوا كلهم مشاريع شهادة، ومصيرهم الموت او الاعتقال، وكان مصير الناس القتل والتشرد والضياع، ومصير البلاد الدمار.
هذه الرواية هي رواية المقتلة السورية التي استفتحها النظام، والتي توالدت و تناسخت وتوسعت لتشمل كل السوريين في رقعة سورية الوطن.
يعايش الكاتب في عودته إلى حلب واقع تحول سورية الى بلدات ومدن محررة وبلدات ومدن مازال تحت سيطرة النظام، والانتقال الى الصراع العسكري المسلح، بداية تشكيل المجموعات المسلحة للجيش الحر، الدخول عميقا في هذه التشكيلات، وأنها ليست وليدة الصدفة، أغلبها استنبت على أنقاض مظلومية عاشها أغلب قادة هذه الفصائل في سجون النظام، الذين خرجوا من سجونه مثل صيدنايا وغيرها، من الإسلاميين الذين تم الإفراج عنهم في بداية الثورة السورية، هؤلاء القادة الذين كانوا قد اعتقلوا لسنوات طويلة في سجون النظام، واغلبهم كان قد شارك في القتال في أفغانستان لمواجهة الروس، كما العراق بعد احتلاله من الامريكان عام ٢٠٠٣م، تحت داعي الجهاد ذهبوا، هؤلاء القادة يشكلون الفصائل المسلحة لقتال النظام، تحت مسميات الأحرار والتوحيد والصقور و.. الخ. وسيكون بينهم فصيل سيعلن انتماءه لفكر القاعدة بما علق به من أدوار دولية؛ منها الهجمات على أمريكا، عام ٢٠٠١م. ويتشكل بعد ذلك تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام داعش، ينفصلان بعد ذلك بين العراق والشام، ويسمي نفسه فرع الشام “جبهة النصرة”. يحمل ذات فكر القاعدة، العمل لبناء الدولة الاسلامية، وتناضل في بنية جهادية منضبطة تنظيميا، معبأة فكريا، تؤمن بالعمليات “الإستشهادية” والتضحية بالذات، تفكر بالآخرة اكثر من الدنيا، بنية تحوي من المجهول والمخفي أكثر بكثير من المعروف والمعلن، السوريون منهم يسمون الأنصار، والقادمون من البلاد العربية والعالم يسمون المهاجرين، لقد أصبحت سورية دولة جاذبة لكل من يريد أن يَقتل ويُقتل، من يدعمها من أين المال والعتاد ومن وراءه؟!. القتل والموت حاضر وسهل ويحصل كل الوقت، هناك قادة مطلقي الصلاحية وشرعيين يفتون بما يرضي أولي الأمر منهم، والدين مطاطة ومطيّة لأهوائهم. كل ذلك يعايشه صاحبنا في الثورة السورية وسؤال يتوارد لنفسه، اين اصبحت الثورة السورية؟!.
وعلى المقلب الآخر يعيش صاحبنا فعل النظام، لقد ظهر البعد الطائفي العلوي فيه، بشكل فج، وبدأ حملة تقتيل وتشريد للناس؛ كل الناس، وتدمير للبلاد وكأنه ينتقم من الشجر والحجر والبشر. عايش صاحبنا السجون والمعتقلات، لا يوجد حد للظلم واستباحة انسانية الانسان، القتل لأتفه الأسباب، اعتقال النساء واغتصابهم، صورا وحشية تخزي الضمير الفردي والجماعي والعالمي. لا محرمات عند النظام ولا ممنوع يوقفه عن فعل أي شيء لإيقاف الثورة وإبادة الشعب. أما خارج المعتقلات، سنواكب مع صاحبنا الكاتب تدمير المدن فوق رؤوس اصحابها، ليس فقط حلب وحمص ودرعا، بل كل سورية . البلاد التي دمّرت واصبحت خاوية تبكي أهلها. الناس الذين تشردوا في الأرض، المخيمات التي بنيت على عجل في دول الجوار السوري، تركيا والأردن ولبنان. المآسي التي عاشها الناس.
في الشهادة التي يقدمها الكاتب، يستوقفنا أمام كل إنسان سوري بصفته حياة وذات انسانية ومأساة وتوابع لملايين الحكايا والكرامات الإنسانية المهدورة والمكلومة ،الحياة المدمرة لأسباب وجودها وإنسانيتها. تتوالد المآسي تباعا من قتل النظام للناس وتشريدهم، إلى اعتقالهم وسجنهم، الى دفعهم مدخراتهم لإخراج أولادهم من المعتقلات إن أمكن، انتشار تجّار الحروب ومافيا الأزمات، الخطف والفدية و الأمتثال بدفع الفدية وقتل الرهينة بعد ذلك. مخيمات اللجوء ومآسي العيش في ظروف الفاقة وفقدان كل أسباب الحياة الانسانية، مع حكايا الحياة لكل الناس؛ حيث فقدت الكرامة والأعراض والارزاق وهجرت البيوت التي تحولت الى انقاض، وقد يكون تحتها بعض من الأهل ابن او أم او أب او عزيز، تُرك هناك تحت أنقاض البيوت المدمرة فوق رؤوس أصحابها. الحرب التي أعادت إنتاج الجشع والوحشية والتكسب من مآسي الناس. خيانة الإنسانية ووجود بعض الذين تحولوا لمرتزقة بدماء الناس واعراضهم. كما تواجد بعض الشباب الذين استمروا منتمين لروح الثورة الأولى الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية وإسقاط النظام المستبد؛ مازال بوصلتهم. لكنهم ضعفاء متفرقين لا داعم لهم يحاربهم الكل ويعملون لافنائهم. لا يخوض صاحبنا في اجندات الداعمين بل يرينا منعكساتها في تغول النصرة وهيمنتها وقوتها المالية والعسكرية، تفرق وضعف وتشتت الجيش الحر، محاولة بعض الدول إرضاء ضميرها بتقديم بعض الدعم الإغاثي للشعب الذي أصبح مشردا في بلاد الدنيا.
في الرواية يعايش الكاتب كل ذلك ليروي عنه، وفي ذات الوقت ينير البعد الذاتي للإنسان داخله اولا فهو يحب ويشتاق الحبيبة، وله في كل بلد حبيبة، وله زوجة وطفلين ويحن لهم ويخاف إن مات هنا على مستقبلهم، يخالط الموت يصر على الاستمرار ليقدم رسالته ككاتب روائي ويحول بعض ما عاشه إلى أفلام وثائقية؛ لكي لا تموت الحقيقة ، وليعرف العالم كله ما حصل الآن في سورية، وفي المستقبل. سيطلّ على حكايا الناس ضحايا الحرب السورية، وفعل النظام بالشعب قتل واغتصاب وتهجير وتدمير للبلاد. وعن الثوار والمجموعات المسلحة ويتحدث عن الصحفيين ما دفعوا من ثمن قد يصل لحياتهم من خلال صحفي اجنبي كان معه حيث قبض عليهم النظام وكيف قتلوه إذابة بالأسيد. يبدع الكاتب في وصف فعل النظام بحق من يعتبرهم ضده. بدء من الشعب الذي يقتله بالقنص والقصف والبراميل المتفجرة، يتحدث عن التعذيب حد الموت، وإجبار المعتقلين على اللواطة، واغتصابهم النساء والقتل التعسفي؛ دائما دون أي حساب او رادع. سيطل على حالات يظهر فيها قانون الحرب الذي يعني أن التوحش ودفع القتل عن النفس، يجعل كل الاطراف، أن ترى بالقتل طريقتها للحفاظ على النفس. فالحرب تلوث الكل، هنا قتل لمصلحة طغمة حاكمة ظالمة. وهناك قتل لرفع العدوان والانتصار لحقوق الشعب ايضا. وفي تبعيات نتائج الحرب نتوقف مليا أمام القتلى الذين فاق عددهم مئات الآلاف وكذلك المصابين والمعاقين والملايين المشردة والبلاد المدمرة والمهجورة تبكي على أهلها.
كان لسان حال صاحبنا كل الوقت يتساءل عن المأساة السورية: “أين أنت يا الله عما يجري في سورية؟!!”. كتعبير مرّ عن المأساة السورية بأقسى معانيها.
تنتهي الرواية وصاحبنا معتقل عند النظام في مطار حماه العسكري، يحقق معه الضابط، جربوا معه كل ادوات التعذيب، وهو بلا اوراق ثبوتية شخصية، وهو ينكر أي دور في الثورة، أو أنه صحفي أو كاتب، أو انه ينوي كتابة رواية عما يحصل في سورية، أو يجهّز لصناعة افلام وثائقية، يُعذب ويفقد الوعي ولا يستسلم. لكنه يواجه باحد اصدقائه ممن يعرفونه ويعرفون ما ينوي، يحضر امامه ويعترف أنه جاء ليكتب عما يوجد وليصنع افلاما وثائقية. يعلم أن صديقه انهار من التعذيب وتحدث عنه. وأن الإنكار لم يعد ينفع وواجه المحقق، بلحظة استعداد للموت، بأنه نعم جاء ليكتب ويوثق جرائمهم وافعالهم ضد الشعب السوري وتوثيق كل شيء. وانتظر ان يقتله الضابط، لكن انفجارا قريبا حصل، اربك الضابط ثم انفجار اقرب….
تغير الجو…
انتهت الرواية بكلمة: يتبع.
في التعقيب على الرواية اقول:
أن الرواية ابدعت في المزج بين الخاص والعام من خلال سردها بصفتها شهادة شخصية للكاتب نفسه.
نجحت في الخوض عميقا في حقيقة النظام القاتل الوحشي وأفعاله التي انحدرت إلى أسوأ الأفعال ضد انسانية الإنسان: القتل الفردي والجماعي والتشريد والتعذيب والتلذذ بمآسي الناس والإضرار بها.
نجحت الراوية في وضع صورة مفصلة عن طور الثورة في سنواتها الأولى وانتقالها للعمل العسكري، و تبعيات ذلك على واقعها كمجموعات عسكرية، استقطابات وأفكار وأخطاء وانحرافات، وأنها من خلال جبهة النصرة -كنموذج- اصبحت ضد الثورة واقعيا وفعليا، وصورة عن النظام.
نجحت الرواية بسرد واقع الناس و عذاباتهم؛ الموت الملاحق لهم مع تشردهم، واعتقالهم وسجنهم وتعذيبهم واستباحة أعراضهم. واقع حياة اللجوء بكل ما يعني من ذل وفقر وفاقة ومأساة.
نجحت الرواية في اظهار تجّار الحروب وبائعي ضمائرهم على قلتهم، لكنهم العار المصاحب لكل الحروب والمقترنين بأفعال النظام الوحشية.
تنتصر الرواية للانسان داخل الناس والثوار المتمسكين بنصاعة الثورة على قلتهم، عبر الاصرار على القيام بالدور المطلوب ولو كان الثمن الشهادة. هم نقطة الضوء في ظلام الواقع الذي عاشه الشعب السوري.
اخيرا لا بد من التنويه إلى أن الرواية ومثيلاتها من روايات الثورة السورية، جعلتها تحت الضوء دائما: لكي لا ننسى… ولن ننسى.