كنت في منزل جدي بزحلة عندما توفي وأخذت أقلّب بين برقيات التعزية الكثيرة التي وردت. فوجئت لما وجدت بينها برقية من جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية المصرية. ملأتني البرقية زهواً، أنا اليافع الناصري المتحمس، أن يكون جمال عبد الناصر يعرف عن جدي المؤرخ عيسى المعلوف. كنا في العام 1956. ولولا الأحداث التالية لأمكنني أن اصرف الأمر بما هو إجراء إداري وقّعه الرئيس.
منذ سنتين كانت قريبتنا اديث معلوف، ارملة فيليب تقلا، وزير الخارجية اللبناني الراحل، تسترجع بعض ذكرياتها مع زوجها الراحل، فتحدثت عن حفل عشاء اقامه جمال عبد الناصر على شرف فيليب تقلا الذي كان في زيارة رسمية لمصر في ستينات القرن الماضي. كانت إديث جالسة الى جانب عبد الناصر واستباقاً للمحادثة اعتذرت انها ضعيفة في اللغة العربية، فقد ولدت ونشأت وقضت معظم حياتها في البرازيل. تطلع اليها مستغرباً: انت قريبة عيسى اسكندر المعلوف وابنائه الشعراء، وضعيفة بالعربية؟
اكتب هذا كي لا تمر ذكرى نصف قرن على وفاة جمال عبد الناصر من دون أن أروي عن وجه آخر لهذا الرجل الكبير: الحاكم الذي كان يقرأ.
وضع باحث هولندي دراسة عن قراءات عبد الناصر بناء على الكتب التي كان يستعيرها من المكتبة العسكرية. لم اطلع على الاطروحة لكن ورد انه اكتشف بين قراءاته “عودة الروح” لتوفيق الحكيم، والأطرف، مسرحية “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” لپيراندللو. كان كلوفيس مقصود يروي عن المقرّبين من الرئيس العربي انهم يتندّرون عن اتساع مطالعاته وسرعة وتيرتها، وكان يقترح عليهم قراءات أنجزها قبل ان يكونوا سمعوا بها. ويروى عن خالد محيي الدين، الضابط اليساري الذي أبعد لفترة الى سويسرا، انه عندما سمح له بالعودة الى مصر، العام 1956، طلب منه عبد الناصر أن يحمل له معه كتباً عن… الاشتراكية. على ان آخر خبر مرّ عليّ في الانترنت، منذ ايام فقط، هو عن محمد حسنين هيكل يروي ان عبد الناصر هو الذي اقترح عليه ان يقرأ ثلاثية المؤرخ الماركسي البولوني اسحق دويتشر عن سيرة تروتسكي! هذا ليس عبد الناصر وحده. هذه مصر.
(*) مدونة نشرها الباحث والمؤرخ فواز طرابلسي في صفحته الفايسبوكية
المصدر: المدن