المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله
في لقاء متلفز للمرشد الإيراني علي خامنئي، بمناسبة أسبوع الحرب الذي يُعرف في الأدبيات السياسية للنظام الإيراني بـ”أسبوع الدفاع المقدس”، مع قادة القوات المسلحة الإيرانية، وصف خامنئي القرارات التي اتخذها مؤسس الجمهورية الإسلامية المتعلقة بدخول الحرب مع الجارة العراق عام 1980 واستمرارها، بالرغم من رغبة بغداد بالصلح بعد عامين من بدء هذه الحرب، وموافقة الخميني عام 1988 على قرار مجلس الأمن الرقم 598 الذي أدى إلى وقف إطلاق النار بين البلدين، والذي اعتبره الأخير بمثابة كأس السم التي تجرعها رغماً عنه، بالقرارات الأكثر عقلانية وحكمة في تاريخ البلاد. اللافت في الأمر هنا، بل المستغرب، هو أن تكون الموافقة على قرار وقف حربٍ أتت على الأخضر واليابس ودمرت الحجر والبشر وشرّدت مئات الآلاف من المواطنين بمثابة تجرع للسّم! ثم يأتي المرشد الحالي علي خامنئي، بعد ثلاثة عقود من انتهاء تلك الحرب، ليبرر تلك القرارات العبثية ويصفها بالأكثر عقلانية وحكمة في تاريخ البلاد! هذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على عقلية الطغمة الحاكمة في طهران التي تعتقد أن نظام الجمهورية الإسلامية هو نظام مقدس، والمرشد هو خليفة المهدي المنتظر، ومن واجبهم المذهبي تهيئة الظروف المناسبة لظهوره، وإن تراكمت الجثث تحت أقدامهم أو في الإقليم برمّته.
من الواضح أن تعمّد المرشد وصف تلك القرارات على أنها كانت قرارات عقلانية وحكيمة، كان رداً على السخط الشعبي المتزايد لهذه الحرب في المشهد السياسي الإيراني، خصوصاً ضمن الأكاديميين وأساتذة الجامعات، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها كانت حرباً عبثية ومدمرة أرجعت البلاد إلى الوراء عقوداً من الزمن وأعاقت المجتمع الإيراني من التطور والرفاه الاجتماعي، وما زالت تداعياتها مستمرة حتى الآن، خصوصاً في الأقاليم غير الفارسية وفي مقدمتها إقليم الأحواز الذي كان مسرحاً للحرب، حيث فقد السكان العرب أراضيهم بحج أمنية واهية.
في هذا اللقاء المتلفز مع قادة القوات المسلحة، هاجم المرشد الإيراني، كعادته، الولايات المتحدة، التي لطالما حمّل مسؤولو نظامه إدارة الأخيرة في تلك المرحلة مسؤولية تهيئة الظروف المناسبة للرئيس العراقي الراحل صدام حسين للهجوم على بلاده، متجاهلاً الوثائق الأميركية التي انتشرت بعد انتهاء الحرب الإيرانية – العراقية والتي أثبتت زيف ادعاءاته، حيث أثبتت هذه الوثائق أن الولايات المتحدة كانت قد زوّدت حينها حكومة مهدي بازركان (أول رئيس للحكومة بعد سقوط الشاه) بمعلومات وتقارير استخباراتية تحذر من هجوم عسكري عراقي وشيك على الأراضي الإيرانية، وزوّدت حينها السلطات في طهران بمعلومات تمركز القوات العراقية وانتشارها وتحركاتها. كما أكد إبراهيم يزدي، أول وزير للخارجية الإيرانية بعد إسقاط النظام البهلوي الشاهنشاهي، التقارير الاستخباراتية التي سلّمتها واشنطن لرجال الدين في طهران قبيل حرب الخليج الأولى بشهرين تقريباً!
إلا أن الأنكى في الموضوع، والذي يدحض ادعاءات المسؤولين الإيرانيين بالكامل ويكشف كذبهم وزيف ادعاءاتهم، هي تلك الوثائق التي نشرها الكاتب الأميركي، بيتر رازوكس، في كتابه “حرب إيران والعراق”، والذي نشرته جامعة هارفارد الأميركية، وفيه يتحدث عن المساعدات العسكرية الأميركية لطرفي النزاع، طهران وبغداد، على حد سواء. حيث أظهرت هذه الوثائق أن مجموع المساعدات العسكرية الأميركية التي قُدمت للنظام في طهران بلغت 650 مليون دولار أميركي، بينما بلغت المساعدات الأميركية للنظام العراقي بحدود الـ250 مليون دولار أميركي فقط. واللافت في هذه الوثائق، أن مساعدات دول الخليج العربي للعراق، والتي كانت تُتّهم من قبل طهران بتغطية كل تكاليف العراق العسكرية، لم تتجاوز الـ50 مليون دولار أميركي! فيما بلغت قيمة المساعدات السورية للنظام الإيراني الـ800 مليون دولار، والمساعدات التي قدمها النظام الليبي، والذي تتهمه طهران بقتل الإمام موسى الصدر، 2.5 ملياري دولار أميركي. ناهيك عن الفضائح الأخرى وبالوثائق التي تكشف التعاون الوثيق بين نظام رجال الدين في طهران مع “الشيطان الأكبر” (الولايات المتحدة) كـ”إيران غيت”، والدور الإيراني في الحرب على “القاعدة” في أفغانستان، واحتلال العراق 2003، والاتفاق الأمني برعاية نوري المالكي في بغداد، والمفاوضات السرية بين طهران وواشنطن برعاية عُمانية، وكذلك المفاوضات السرية بين البلدين التي لم تتوقف حتى هذه اللحظة.
هذه البروباغندا الإيرانية التي استخدمها رجال الدين خير استخدام، وعلى رأسهم المرشد علي خامنئي، على مدى أربعة عقود منذ تأسيس النظام الحالي وإلى يومنا، وتصوّر أنهم ضحية لسياسات الإدارة الأميركية والغرب عموماً، باتت مكشوفة للشعوب في إيران والإقليم برمّته، ولم يعد بيد المرشد والمؤسسة الدينية في طهران أي طرق لتمريرها على المجتمع الدولي الذي تعب من سلوك نظام طهران المزعزع للأمن والسلم الدوليين.
وبالعودة إلى كأس السم التي تجرعها الخميني عام 1988، فلربما في ما قاله المرشد في لقائه المتلفز الذي جمعه بقادة الحرس الثوري وزملائهم في الجيش والباسيج إشارة إلى استعداده لتجرع كأس أخرى من السم، كسلفه الخميني، أو “مرونة بطولية” أخرى، كما أسماه عند قبوله بالاتفاق النووي عام 2015. وقد يجهّز نفسه بالفعل ليتجرع كأس السم التي باتت مطلباً ضرورياً لاستمرارية نظامه الطائفي الذي يمر في أسوأ مراحله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وأما خلاصة القول، فإن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة ستحدد نوع وحجم كأس السم التي سيتجرّعها خامنئي لإنقاذ نظامه إذا ما قدّم تنازلات ترضي “الشيطان الأكبر” ليعبر بسفينة النظام المتهالكة بر الأمان. طبعاً إذا ما أتيحت له هذه الفرصة أساساً في حال فوز ترامب! هذا ما ستكشفه لنا الأيام والأسابيع القليلة المقبلة. إلا أن من يعتقد أن النظام الإيراني سيغيّر جلده “الثوري” ويتحول إلى دولة طبيعية كغيرها من دول الإقليم فهو واهم.
المصدر: النهار العربي