
بعد مرور عام على خلاص سورية من حكم الأسد، وهو الخلاص الذي لم يكن من الممكن أن ينفتح أي أفق وطني يشارك فيه الناس، لا تزال البلاد مثقلة بإرث عميق من الأزمات، وخاصة الطائفية والإثنية، أزمات تثقل كاهل البلاد وتضعف إمكانات النجاح في إعادة بناء الدولة الوطنية، وذلك من خلال ما تولده من غياب الثقة بين الجماعات الاجتماعية المختلفة وبين السلطة السياسية الوليدة. يمهد الخطاب السائد بشكل ما إلى إعادة إنتاج الحروب الطائفية والإثنية التي لا يزال شبحها يخيم فوق الأجواء السورية، وبالتالي يعيق أي مشروع يهدف لبناء دولة وطنية، ناهيك عن تعميق الانقسامات القائمة بالفعل منذ عقود.
منذ أيام، جرت اشتباكات خفيفة في حلب، بين قوات الأسايش (مخابرات حزب الاتحاد الديمقراطي) وداعميها مع قوات الحكومة (جيش وأمن عام)، ورغم أنها لم تدم سوى ساعات، وحصدت أرواح عدة مدنيين وعسكريين. لكن الملفت للانتباه، ما تلا ذلك، بعد هدوء الرصاص، هو الخطاب السياسي الذي تتبنّاه بعض الجهات المحلية، حيث يُقدَّم غالبًا بوصفه دفاعًا عن حقوق جماعات بعينها، لكنه ينطوي في كثير من الأحيان على إعادة إنتاج لمنطق الاصطفاف الهوياتي، وتضع شروطاً تعجيزية أمام مشروع بناء الدولة الوطنية.
أعادت التطورات الميدانية والسياسية خلال العام الماضي طرح مسألة وحدة الدولة السورية على نحو ملحّ.
يسهم الخطاب الذي يُؤطّر الصراعات بوصفها صراعات بين جماعات متجانسة إثنيًا أو طائفيًا في تثبيت هذه الجماعات كوحدات سياسية مغلقة، ويحدّ من إمكان بناء فضاء وطني قائم على المساواة القانونية. كان هذا النمط من الخطاب أحد أعمدة النظام الأسدي، الذي أنكر الطائفية في المستوى الخطابي، في حين أعاد إنتاجها عمليًا من خلال الامتيازات والمحاصصات غير المعلنة. والملفت للانتباه في خطاب الأطراف الثلاثة هو الازدواجية، تماماً كما كان يتعامل نظام الأسد مع مشكلة الطائفية، إنكارها في الخطاب وممارستها عملياً، وهنا تدعي هذه الأطراف حرصها على وحدة سوريا، في حين تمارس العكس من خلال مطالباتها بأن يكون لها وضع مميز غير بقية المواطنين ومكرس في الدستور بالقوة، وأن يكون لتشكيلاتها التي أسستها في ظل غياب الدولة استقلالية، وأكثر من ذلك، تصور نفسها ضمانة لمستقبل سوريا، ناهيك عن مبدأ المحاصصة في الثروة الوطنية الموجودة وخاصة في الجزيرة.
أعادت التطورات الميدانية والسياسية خلال العام الماضي طرح مسألة وحدة الدولة السورية على نحو ملحّ. فمن جهة، تسيطر قوات سورية الديمقراطية على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية مع بنى عسكرية وإدارية مستقلة نسبيًا عن المركز. ومن جهة ثانية، تشهد محافظة السويداء وضعًا سياسيًا خاصًا يتّسم بتراجع نفوذ السلطة المركزية وظهور مطالب سياسية تتراوح بين اللامركزية الموسّعة وتقرير المصير. وإلى جانب ذلك، برزت دعوات صريحة إلى الفدرالية السياسية وطلب الحماية الدولية في مناطق الساحل السوري. تطرح هذه الوقائع تساؤلات حول ما إذا كانت هذه المطالب تعبّر عن حقوق مشروعة في إطار إعادة بناء الدولة، أم أنها تعكس نزوعًا نحو تكريس كيانات سياسية شبه مستقلة، بما يحوّل الدولة إلى مجموعة من الوحدات المتجاورة والمرتهنة لتوازنات خارجية (فدرالية غزال ودولة الهجري وإقليم مظلوم عبدي).
يُظهر تحليل الخطابات الصادرة عن الأطراف الثلاثة حضورًا لافتًا للغة تُقدَّم بوصفها دفاعًا عن الجماعة، لكنها تقوم على افتراض وجود كتل اجتماعية متجانسة ذات مصالح واحدة. متجاهلاً واقع التنوع الداخلي والصراعات البينية داخل كل جماعة، وهي سمة ملازمة لأي تشكيل اجتماعي حديث. إن اختزال الجماعات في تمثيل سياسي واحد لا يخدم سوى قيادات الأمر الواقع التي تدّعي هذا التمثيل، في حين يُقصي قطاعات واسعة من الأفراد الذين لا تتطابق مصالحهم أو آراؤهم مع هذه النخب، هذا من ناحية،. ومن ناحية أخرى، تكشف هذه الخطابات عن ازدواجية واضحة: فهي تعلن التزامها بوحدة سورية ودولة المواطنة، لكنها في الوقت نفسه تطالب بترتيبات دستورية أو سياسية تمنحها وضعًا مميزًا خارج مبدأ المساواة بين المواطنين، سواء عبر الاستقلالية العسكرية، أو تقاسم خاص للثروة، أو صيغ حكم تتجاوز الإطار الوطني الجامع.
يشكل الخطاب الطائفي أو الإثني، حتى حين يتذرع بالمطالبة بحقوق الجماعات والدفاع عنها أحد أبرز العوائق أمام إعادة بناء الدولة الوطنية في سورية. فالانتقال من منطق الجماعات المغلقة إلى منطق المواطنة لا يمكن أن يتحقق من خلال الإقصاء أو الإنكار..
تكشف دعاوى الأطراف الثلاث عن منطق التفكير الأقلوي الذي كرسه نظام الأسد في وجه غالبية السوريين كفئات متميزة رغم ادعاءاتها بدولة المواطنة، ومساعيها هذه ليست أكثر من محاولة لإعادة التاريخ للوراء وتحديداً إعادة إنتاج المنظومة الأسدية التي خنقت سوريا لخمسة عقود، فهي تكذب بأنها ممثلة للجماعات التي تسيطر عليها بالقوة، وتمارس عملياً الخطف والاعتقال والإخفاء والقتل، وتحمي كثيراً من القتلة الأسديين، بل تجعل منهم رموزاً في بعض المناطق في تحدٍ واضح لمشاعر وحقوق ملايين السوريين، الذي لا يزالون حتى اليوم يبحثون عن مصير أحبتهم وذويهم، ناهيك عن الآلام التي ذاقوها طوال فترة حكم الأسدية، حيث يرون في مطالب الأطراف الثلاثة دعوة جديدة لإعادة قهرهم، وهو ما لا يمكن أن يقبلوه أبداً.
لا يعني نقد هذه الخطابات الدفاع عن نموذج مركزي يعيد إنتاج الاستبداد، بل يهدف إلى التأكيد على أن أي صيغة حكم قابلة للحياة في سورية المستقبل يجب أن تقوم على مبدأ التساوي بين المواطنين أمام القانون، وعلى تسوية سياسية تنظّم الاختلافات ضمن أطر قانونية مشتركة. تواجه سورية تحديات مركّبة تتجاوز البعد الدستوري أو الإداري، وتشمل استعادة الثقة المجتمعية ومعالجة إرث العنف والانتهاكات. ومن هنا، فإن الإسراع في بناء مؤسسات تمثيلية، ووضع آليات واضحة للمحاسبة والعدالة الانتقالية، وتنظيم الحياة الحزبية والنقابية، تمثّل خطوات ضرورية ليس فقط لبناء الدولة، بل أيضًا لتفكيك الخطابات التي تحتكر تمثيل الجماعات وتستثمر في مخاوفها.
يشكل الخطاب الطائفي أو الإثني، حتى حين يتذرع بالمطالبة بحقوق الجماعات والدفاع عنها أحد أبرز العوائق أمام إعادة بناء الدولة الوطنية في سورية. فالانتقال من منطق الجماعات المغلقة إلى منطق المواطنة لا يمكن أن يتحقق من خلال الإقصاء أو الإنكار، بل عبر سياسة تسوية شاملة تعترف بالتعدد، وتؤسّس في الوقت نفسه لإطار وطني جامع، يكون فيه الأفراد مواطنين متساوين لا رعايا لجماعات متمايزة.
المصدر: تلفزيون سوريا






