
في الأيام الأخيرة، عاد إلى الواجهة النقاش حول الدعوة إلى عقد “مؤتمر فلسطينيي سوريا”، وقد قُدِّم في خطابه التعريفي بوصفه “مساحة حوار مجتمعي، بعيدة عن الفصائلية والتبعية، تنطلق من واقع المخيمات والتجمعات الفلسطينية، بهدف تبادل الآراء، وتنسيق الجهود، وطرح أفكار عملية تخدم الناس، من دون ادعاء تمثيل أو سعي إلى مناصب أو أطر بديلة”.
هذا التعريف، للوهلة الأولى، يبدو مطمئناً ومفهوماً في سياق سياسي شديد الحساسية، غير أنّ التمعّن فيه يفتح الباب أمام أسئلة مشروعة حول منطق الخطاب نفسه، وحدوده، ووظيفته الفعلية.
“خطاب يعرّف نفسه بالنفي”
أولى الملاحظات أن الخطاب يعرّف المؤتمر بما ليس هو أكثر، مما يعرّفه بما هو، فهو ينفي التمثيل، وينفي السياسة، وينفي البدائل، وينفي السعي إلى المناصب، من دون أن يقدّم تعريفاً إيجابياً واضحاً لوظيفته النهائية.
تبرز هنا فجوة أخرى بين الاسم والمضمون، فمصطلح “مؤتمر فلسطينيي سوريا” يحمل دلالة شمولية ورمزية عالية، توحي بتمثيل جماعي أو مرجعية جامعة..
في التحليل السياسي، يُعرف هذا النوع من الخطاب بـ”خطاب النفي الدفاعي”، وغالباً ما يظهر في مراحل انتقالية يسود فيها الخوف من سوء الفهم أو الاتهام، غير أن الإفراط في النفي قد يتحوّل من أداة حماية إلى مصدر غموض.
“الحوار كوسيلة لا كغاية”
لا خلاف على أن الحوار المجتمعي ضرورة، خاصة في واقع فلسطيني سوري ممزق بفعل الحرب والتهجير، لكن الحوار، بطبيعته، وسيلة لا غاية. فهو يفترض مساراً لاحقاً: بلورة أولويات، صياغة مقترحات، أو إيصال صوت جماعي إلى جهة ما.
حين يُقدَّم الحوار بوصفه سقفاً نهائياً، لا مرحلة ضمن مسار، يصبح السؤال مشروعاً: هل المطلوب مجرد تبادل آراء، أم تنظيم إرادة جماعية؟ وإن كان الأول فقط، فما الذي يميّز هذا المؤتمر عن عشرات اللقاءات والورش التي عُقدت خلال السنوات الماضية من دون أثر تراكمي؟
تنسيق الجهود”.. مع من؟ ولماذا؟
يستخدم الخطاب مصطلح “تنسيق الجهود”، وهو مصطلح إيجابي في ظاهره، لكنه يحتاج إلى تفكيك. فالتنسيق يفترض: أطرافاً محددة، أهدافاً واضحة، جهة تُنسَّق الجهود نحوها.
إذا لم يكن المؤتمر إطاراً تمثيلياً، ولا يسعى إلى مخاطبة مؤسسات رسمية أو دولية، ولا يطمح إلى إنتاج موقف جماعي، فماذا يعني التنسيق هنا؟ هل هو تنسيق بين مبادرات أهلية فقط؟ أم بين أفراد؟ أم مجرد تبادل خبرات؟ غياب الإجابة يجعل المصطلح واسعًا إلى حدّ التفريغ.
“نفي التمثيل وممارسة وظيفته”
يُصرّ الخطاب على نفي أي ادعاء بالتمثيل، وهو نفي مفهوم أخلاقيًا. لكن من زاوية تحليلية، لا يمكن تجاهل أن أي مؤتمر: يختار قضايا بعينها، يحدّد أولويات، يتحدث عن “واقع المخيمات”، ويطرح “أفكاراً عملية تخدم الناس”، إنما يمارس شكلاً من التمثيل الوظيفي، حتى لو لم يكن تفويضاً انتخابياً، إنكار هذه الوظيفة لا يلغيها، بل يجعلها غير معرّفة وغير خاضعة للمساءلة.
تبرز هنا فجوة أخرى بين الاسم والمضمون، فمصطلح “مؤتمر فلسطينيي سوريا” يحمل دلالة شمولية ورمزية عالية، توحي بتمثيل جماعي أو مرجعية جامعة، في المقابل، يقدّم الخطاب نفسه كمساحة محدودة بلا طموح سياسي أو تنظيمي.
ذا التناقض بين الاسم الواسع والتعريف المتواضع ليس تفصيلًا لغويًا، بل مسألة سياسية، لأن الأسماء تصنع توقّعات، والرمزية تولّد معاني تتجاوز النيات المعلنة.
“أسئلة لا بدّ منها”
من هذا المنطلق، يصبح طرح الأسئلة التالية ضرورة صحية لا اعتراضاً:
⦁ إذا لم يكن المؤتمر إطاراً تمثيلياً، فما الجهة التي ستتلقى مخرجاته؟
⦁ ما مصير “الأفكار العملية” التي سيطرحها؟ ومن يملك تنفيذها أو الدفاع عنها؟
⦁ هل المؤتمر مرحلة تمهيدية لمسار أوسع، أم حدث قائم بذاته؟
⦁ كيف يمكن ضمان ألّا يتحوّل نفي التمثيل إلى ذريعة لمنع تطوّره مستقبلًا؟
⦁ هل يكفي توصيف “الحوار” لتلبية حاجة الفلسطينيين السوريين في لحظة يعانون فيها من غياب المرجعية والحماية؟
هذه الأسئلة لا تنطلق من التشكيك، بل من محاولة فهم وظيفة المبادرة وحدودها.
“بين التطمين والوضوح”
قد يكون الخطاب الحالي ناتجًا عن رغبة في الطمأنة وتجنّب الصدام، وهو أمر مفهوم في سياق معقّد. لكن الوضوح لا يقلّ أهمية عن الطمأنة، فالمبادرات العامة لا تُقاس فقط بحسن نياتها، بل بقدرتها على تسمية نفسها بدقة، وتحديد مسارها بصدق.
ومن هنا، لا تكمن الإشكالية في عقد مؤتمر، ولا في اختيار الحوار مدخلًا، بل في الاكتفاء بتعريف يُفرغ الحدث من وظيفته.. الفلسطينيون في سوريا لا يعانون من نقص في النقاش، بل من غياب الأفق والقرار. وبين الحوار بوصفه أداة، والحوار بوصفه بديلًا عن التنظيم والتمثيل، فرق جوهري يستحق النقاش الصريح.
السؤال ليس متى نصل إلى التمثيل، بل كيف نبدأ الطريق إليه بوضوح، من دون التفاف، ومن دون أن يُطلب من الناس أن يكونوا وسيلة في مسار لم يُصارَحوا بوجهته..
ربما يكون هذا المؤتمر خطوة أولى مهمة، وربما يكون مساحة ضرورية في هذه اللحظة. لكن نجاحه الحقيقي سيقاس بقدرته على الإجابة عن سؤال بسيط ومؤجل: إلى أين بعد الحوار؟
“الشرعية تبدأ من الناس”
لا تكمن الإشكالية في التدرّج ولا في البحث عن صيغ مرحلية، فكل مسار وطني جاد يحتاج إلى خطوات محسوبة، الإشكالية الحقيقية تبدأ حين تُفصل الوسيلة عن غايتها، وحين يُطلب من الناس أن يدخلوا في مسار من دون أن يُقال لهم إلى أين يقود.
الحوار أداة ضرورية، والتنسيق وسيلة مفهومة، لكن كليهما يفقد معناه إن لم يُفضِ إلى تنظيم الإرادة الجماعية على أساس تفويض واضح ومعلن، فالتمثيل لا يُستنتج بالتراكم، ولا يُبنى بالنيات الحسنة، بل يُمنَح من الناس صراحة، لأنهم مصدر الشرعية لا موضوعها، وأي محاولة لتأجيل هذا الاعتراف، مهما كانت دوافعها، تُعرّض الثقة العامة للاهتزاز.
من هنا، فإن السؤال ليس متى نصل إلى التمثيل، بل كيف نبدأ الطريق إليه بوضوح، من دون التفاف، ومن دون أن يُطلب من الناس أن يكونوا وسيلة في مسار لم يُصارَحوا بوجهته.
ملاحظة أخيرة:
هذا المقال لا يعلن موقفاً شخصياً، ولا يتهم القائمين على المؤتمر، ولا يدعو إلى المقاطعة أو المشاركة، بل يضع الخطاب المعلن نفسه تحت مجهر التحليل.
المصدر: تلفزيون سوريا


