
قد يكون لكلّ من الأجيال الفلسطينية، وربما لكل من أفرادها، ذاكرته وروايته عن مأساة فلسطين والفلسطينيين المتعاظمة جيلًا بعد جيل، كأنها قدرٌ تتعاقب فصوله الفاجعة منذ “نكبة” 1948. فمنذ تلك النكبة ولدت وعاشت في فلسطين وفي بلاد اللجوء والشتات أجيال فلسطينية، يراود كل منها حلم تحرير وعودة، سرعان ما يتكشف عن فجيعة تتلوها فجيعة، منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين حتى اليوم.
نروي هنا قصةً من قصص عودة فلسطينيين من الشتات والكفاح إلى بلادهم، بدءًا من صيف 1994، بعد “اتفاق أوسلو” للسلام بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993.
أمضى راوي هذه القصة- الشهادة 24 سنة من عمره متنقلًا، مترحلًا ومناضلًا في سبيل تلك العودة التي روى -إلى وقائعها- فصولًا من حياته وإقامته في قريته بالضفة الغربية وفي رام الله. وننشر هنا شهادته على حلقات في صيغة المتكلم.
وبعد حلقات ست (راجع “المدن”…) من هذه الشهادة، هنا حلقة سابعة وأخيرة عن حال الضفة الغربية بعد 7 أكتوبر 2023.
إرث الهوية الأليم
بعد 7 أكتوبر 2023 وما حدث ويحدث في غزة، صرنا مهجوسين بخوف متصاعد من أن تنفذ إسرائيل سياساتها المبيتة ضد الضفة الغربية المحتلة وأهلها المحاصرين بالبؤر الاستيطانية ومستوطنيها الأشد على الفلسطينيين عنفًا وكراهية لهم من الاحتلال الإسرائيلي.
فإذا صارت نسبة من يؤيدون طرد فلسطينيي 1948 من أرضهم 62 في المئة من الإسرائيليين، بعد عملية “طوفان الأقصى”، فإن من يؤيدون منهم اقتلاعنا وطردنا جماعيًا، ورمينا في التهجير والشتات، نحن أهالي الضفة الغربية، لابد أن تكون أكثر من الأولى بكثير. والتيار الإسرائيلي اليميني المتطرف المتصاعد، يعتبر أن فلسطينيي فلسطين التاريخية جميعًا هم من مخلفات الاحتلال العربي الإسلامي في أرض الميعاد التوراتية. لذا يجب طردهم منها وتشتيتهم.
وفي ذاكرة أجيال من الفلسطينيين لا تزال صور اقتلاع فلسطينيي النكبة محفورة كإرثٍ أليم لهويتهم الوطنية. وجدّد احتلال إسرائيل الضفة وغزة في حرب 5 حزيران 1967 تلك الصور في ذاكرتهم. وآنذاك كنت وأمثالي في مطالع شبابنا، فمكثنا أوقاتًا متفاوتة في بلداتنا وقرانا في الضفة، قبل أن يرغمنا الاحتلال على الفرار منفردين إلى بلاد الشتات.
أما عودتنا نحن العائدين إلى الضفة وغزة بعد “اتفاق أوسلو” في العام 1993، فسرعان ما أضافها انهيارُ الاتفاق واحتلال الضفة مجددًا وتوسع الاستيطان فيها، إلى ذاك الإرث، بل فاقمه وعمّق انغراسه في الهوية الفلسطينية، كأنه قدر فلسطين والفلسطينيين المقيم: الاحتلال والاستيطان، الطرد والتهجير والتشرّد.
وبعد 7 أكتوبر 2023 استبق أصحاب الكفاءات والنخب والمقتدرون ماليًا في الضفة، احتمال أن يدركهم مصير أهل غزة، ففروا من ديارهم إلى الشتات، مكررين ما فعله أمثالهم وأشباههم من أهالي فلسطين المحتلة في العام 1948: استباقهم النكبة ومجازر الاحتلال الإسرائيلي بفرارهم من البلاد.
الاستيطان واليمين و”حماس”
قد تصلح رام الله كمثال أو كعيّنة لشتات الفلسطينيين المزمن: هناك رام الله سان فرانسيسكو، أو رام الله الجديدة، البالغ عدد سكانها 85 ألف نسمة، فيما لا يتجاوز عدد سكان رام الله الضفة اليوم 5 آلاف نسمة. وفي الضفة الغربية كان عدد المستوطنين لا يتجاوز 100 ألف نسمة قبيل “اتفاق أوسلو”. أما اليوم فبلغ عددهم 700 ألف نسمة. وكان انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1989، قد أدى إلى تدفق مليون يهودي روسي إلى فلسطين المحتلة/ إسرائيل. شطر كبير منهم يمينيو الميل والهوى، فانضموا إلى البؤر الاستيطانية القائمة، أو أنشئت لهم مستوطنات جديدة. ومن هؤلاء برز وزير خارجية إسرائيل السابق، اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان.
هذه الكتلة الاستيطانية اليمينية غير المسبوقة بضخامتها، والوافدة من الاتحاد السوفياتي السابق، كان دورها حاسمًا في توسع الاستيطان وكثافته في مدة زمنية لا تتجاوز السنتين (1989- 1990)، شأن دورها الحاسم في صعود اليمين واليمين المتطرف إلى السلطة في إسرائيل. وهي الكتلة الاستيطانية التي مهدت لاحقًا لانهيار “اتفاق أوسلو”، ولتصاعد قوة منظمتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ولضعف السلطة الفلسطينية، بعدما أُضيف إلى فسادِها المقيم منذ نشأتها، تهالُكها وتهتُّكها والتوقف عن دعمها ماليًا. وهذا كله أدى إلى انهيارها وفشلها.
وكان لسياسة بنيامين نتانياهو دور كبير في ذلك، وفي السماح لـ”حماس” أن تنمو وتتضاعف قوتها، ما دامت ضد “أوسلو” وسلامه اللذين تؤيدهما السلطة وجعلتهما قبلة سياستها ومطلبها الوحيد. وفيما كانت السلطة تتآكل وتتهاوى، كان نتنياهو في عشيات 7 أكتوبر 2023 يفاوض “حماس” في شأن اعترافه بسلطتها على غزة وفك الحصار عنها، كي تقوى وتتشبث بحكم غزة ويتكرس انقسام الفلسطينيين، تشرذمهم وعداواتهم.
وربما علينا الاعتراف اليوم بالحقيقة: عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها “حماس” ضد إسرائيل في 7 أكتوبر، والرد الإسرائيلي عليها بمحق غزة وارتكاب المجازر والإبادة بأهلها الذين صاروا مشردين تائهين فيها، والحال المزرية التي وصلت إليها السلطة في الضفة المحتلة، أدت مجتمعة إلى تبني نحو 80 في المئة من الفلسطينيين في غزة والقدس وعموم الضفة الغربية، ثقافة وتوجهات الإسلام السياسي، من دون أن يكونوا بالضرورة مؤيدين لـ”حماس” وسياساتها.
فالمناهج المدرسية في الضفة، ومشاعر الناس على وجه الإجمال والعموم فيها، وفساد السلطة التي لم يعد الأهالي يرون من أعمالها وتوجهاتها سوى تعاونها مع الاحتلال، ليست سوى عوامل متقاطعة وحاسمة في إشاعتها ثقافة الإسلام السياسي وتوجهاته، حتى في دوائر اجتماعية واسعة موالية لمنظمة “فتح” والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
تآكل اليسار الإسرائيلي
وفي ظل الخوف من الاقتلاع والتدمير اليومي للبيوت والاستيلاء على الممتلكات، والحصار والاختناق اللذين يفرضهما الاحتلال، إضافة إلى حملات الاعتقال التي يقوم بها يوميًا إلى جانب توغلاته العسكرية في مناطق سكنية، يعيش أهالي الضفة الغربية في حال من الفراغ السياسي شبه التام، حيث تآكلت الطبقة والفئات الاجتماعية الوسطى التي غالبًا ما يعوّل عليها في بعث روح ونشاط سياسيين في المجتمع الفلسطيني.
نعم، تعيش الضفة الغربية في حال من الخوف والخواء السياسي. ولا أدري إن كان من المجدي والمفيد في شيء الكلام بعد عن عشرات الناشطين من اليسار الإسرائيلي، أولئك المصرّين على استمرار تضامنهم مع الفلسطينيين وعلى ما يقومون به من حملات لحمايتهم من العسف اليومي للسلطات الإسرائيلية والمستوطنين.
يأتي هؤلاء الناشطون متطوعين في حملات لحماية فلاحين فلسطينيين من هجمات مستوطنين يمنعونهم من قطاف الزيتون، ويعتدون عليهم ويعملون على طردهم من أرضهم. ويعمل هؤلاء الناشطون الإسرائيليون – وبينهم بعض الأوروبيين في منظمات حقوقية وإنسانية – ضد التطهير العرقي وهدم المنازل في مناطق من الضفة تتوسع فيها حركة الاستيطان في حماية الجيش الإسرائيلي. وبعد 7 أكتوبر 2023 قام المستوطنون بطرد فلسطينيين من 24 موقعاً سكنياً في نواحٍ من الضفة الغربية، من دون أن تجدي حملات تضامن ناشطين إسرائيليين معهم بغير إقدام الجيش الإسرائيلي والمستوطنين على ضربهم وطردهم مع الفلسطينيين.
بعض المنظمات الحقوقية الإسرائيلية المناوئة للسلطات اليمينية والمستوطنين، تنشط في مراقبة تنكيل الجيش الإسرائيلي بالفلسطينيين على الحواجز الأمنية والطرق الالتفافية، فتعد ملفات وتكتب تقارير حول هذه الممارسات. ومن هذه المنظمات هناك منظمة “نساء إسرائيليات ضد الحواجز”، يحاولن مواجهة الجنود لفتح بعض الطرق. وهناك أيضًا منظمة إسرائيلية تدعى “يتذكرون”، وينشط العاملون فيها بقيامهم بزيارات إلى قرى فلسطينية دُمرت وطُرد منها أهلها، في محاولة لإعادة بنائها وإعادة سكانها إليها.
الأرجح أن هذه النشاطات صارت شديدة الهامشية في المجتمع الإسرائيلي. وإلى مناصرتهم الفلسطينيين، يهدف الناشطون في هذه المنظمات والمبادرات إلى حماية أنفسهم من التطرف اليميني المتصاعد في إسرائيل.
ألا يمكن القول أخيرًا إن حال الفلسطينيين، جميع الفلسطينيين، صارت اليوم أشد قتامة وسوادًا مما كانت عليه في ما مضى من تاريخهم؟
المصدر: المدن


