شيفرة النهوض السوري بعد عام مضى

نضال منصور

أفاق العالم قبل عام على نبأ هروب الرئيس بشّار الأسد من دمشق وسيطرة قوات المعارضة، بقيادة هيئة تحرير الشام، على مقاليد السلطة في سورية. كانت الصور من هناك أشبه بالحلم، بعد نحو 14 عاماً على حربٍ دموية قادها نظام الأسد ضدّ الجماهير التي طالبت بالحرية والعدالة.
لم يكن متوقّعاً سقوط النظام بين ليلة وضحاها، وأن تصل قوات هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) إلى القصر الرئاسي، وتُحكِم سيطرتها في أيام على معظم التراب السوري، ويصبح الشرع، الذي كان مُصنَّفاً إرهابياً، رئيساً لسورية تُفتح له الأبواب، ويُستقبل في عواصم العالم يسعى إلى تغيير سورية بعد خمسة عقود من الاستبداد، وبعد بحور من الدم سالت من السوريين لمواجهة نظامٍ لا أقلّ من أن يوصف بأنه ديكتاتور.
المكسب الأول لإسقاط النظام حرية التعبير للشعب السوري، التي فقدها وغابت منه سنين طوالاً
زرت في الصيف الماضي دمشق لاستكشاف الحال، رغم تحذيرات بأن الوضع ليس آمناً، خصوصاً بعد أحداث الساحل السوري والسويداء. ولكنك منذ لحظة وصولك إلى الحدود الأردنية السورية تشعر بالتغيير؛ فالفساد الذي عرفناه عقوداً في المعابر الحدودية السورية اختفى، وخلال دقائق تنجز ختم جواز سفرك من دون مضايقات أمنية أو دفع رشىً للعبور.
في دمشق، كل شيء هادئ، والحركة اعتيادية، ولا تلمس وجود حواجز أمنية أو مضايقات. وأكثر ما يلفت الانتباه أن الناس تُجاهر بآرائها، بعد أن شاع طويلاً أن “السوريين لا يفتحون أفواههم إلا عند طبيب الأسنان”، كنايةً عن الخوف من الكلام في زمن النظام المخلوع. وخلال لقاءات مع صحافيين وقادة مجتمع مدني، تدرك أن المكسب الأول لإسقاط النظام حرية التعبير للشعب السوري، التي فقدها وغابت منه سنين طوالاً. تجوّلتُ في أحياء دمشق وشوارعها، ولم ألحظ أن الأمن السوري الجديد (مجموعات هيئة تحرير الشام) بلحاهم المميّزة موجودون بشكل لافت، أو أنهم يفرضون على أهل الشام أنماطاً من السلوك.
رغم الاستقرار الأمني، ظلّ سؤال المستقبل مقلقاً لدى معظم من التقيتهم. الجميع يخشون هشاشة الوضع الأمني، ويبدون مخاوف من صراعات تتكرّر كما حدث في الساحل والسويداء. وهم يعلمون أن هناك من يعمل ويراهن على صراعٍ أهلي وتقسيم سورية، وفي المقدّمة إسرائيل التي احتلت 400 كيلومتر إضافية من الأراضي السورية، وتحاول دعم جماعات متمرّدة في السويداء تروّج الانفصال، وتستغيث بالجيش الإسرائيلي لحمايتها.
حقّقت السلطة السورية الجديدة في عام نجاحاتٍ لا يمكن إنكارها؛ فقد أحرزت اختراقات سياسية بارزة، وحلّ الرئيس الشرع ضيفاً في البيت الأبيض، وأُسقط قانون قيصر، وفُتحت الأبواب لعلاقات واعدة مع السعودية. وفي الوقت نفسه، لم تُغلق دمشق الباب أمام روسيا، صديق نظام الأسد، وتقترب حالياً أكثر نحو بكين. والتحدّيات التي تواجه النظام كثيرة، والتركة التي خلّفها النظام السابق تحتاج سنوات لحلحلتها، وموارد اقتصادية كبيرة للتغلّب عليها. لكن الرئيس الشرع يبشّر السوريين بأنه استطاع تحقيق نمو اقتصادي يبلغ 1%، واستقطاب 28 مليار دولار استثمارات عام 2025، والأهم عودة أكثر من مليون لاجئ سوري في عام.
ليس التغلب على الخراب في سورية سهلاً، ولن يتحقّق بعصا سحرية؛ فالبنى التحتية متهالكة، والبيوت مدمّرة، والناس مسحوقون اقتصادياً، والتوجّس بين مكوّنات المجتمع صاعقُ انفجارٍ معلّق. وبعد سنوات من الاستبداد، خلّفت آلافاً من المفقودين والقتلى، ومتوقّع أن تسكن عقلية الانتقام لدى فئات مجتمعية تريد الثأر من نظامٍ استباح كرامتها الإنسانية. وقد يكون التورّط في مثل هذه الاتجاهات والأفعال مقتلاً يعصف بأحلام دولة المؤسّسات والمواطنة والعدالة وسيادة القانون. وما لم تتحرّك الدولة السورية، بحزم وجدّية، لتطبيق العدالة الانتقالية، فإن الانفلات يهدّد استقرار الدولة ويعرّضها للمخاطر.
أول الاختبارات بعد عام على سقوط نظام الأسد منع الإفلات من العقاب في أحداث الساحل السوري والسويداء، وأي أحداث أخرى. والمطلوب إنفاذ توصيات لجان تقصّي الحقائق، ومساءلة من يثبت تورّطهم، سواء كانوا من السلطة أو ممَّن يُسمّون “فلول النظام السابق”. وتبقى مهمّة المجتمع المدني السوري الرقابة على التطبيق، والتأكّد من التزام السلطة مبدأ سيادة القانون.
يفتح العالم أبوابه للنظام الجديد في سورية، وفي الوقت نفسه يراقبه، ولا يُلغي أو يستبعد المخاوف من توليفته وتاريخه. وهناك من يجاهر بأنه “إذا كان الجولاني/ الشرع قد استطاع خلع بزّته الجهادية والتحوّل إلى قائد براغماتي، فمن يضمن سيطرته على مجموعاته الأيديولوجية التي ينظر بعضهم إليه باعتباره مرتدّاً خان مبادئهم؟”. ولهذا تخضع مسيرة التحوّلات في الدولة السورية للتقييم والمراجعة، وليس لدى القادة الجدد في السلطة شيك على بياض؛ هم تحت المجهر، وحسابهم يجري خطوةً بخطوة.
ليس لدى القادة الجدد في السلطة شيك على بياض؛ هم تحت المجهر، وحسابهم يجري خطوةً بخطوة
في هذه الظروف الصعبة، تبدي الحكومة السورية حراكاً سياسياً لكسر الحواجز وفكّ العزلة التي أطبقت على سورية طويلاً، وتستمرّ في سياسة ضبط النفس في التعامل مع الاستفزازات والخروقات والجرائم الإسرائيلية. والأكيد أن النظام الحالي، كما سلفه، لن يغامر في مواجهة إسرائيل مهما فعلت، لكن المؤكّد أنه لن يطبّع علاقاته معها. وفي أحسن الأحوال، قد ينجز اتفاقاً أمنياً إذا وافقت تل أبيب على الانسحاب من الأراضي التي احتلتها مقابل ضمانات سورية وبرعاية أميركية.
يحظى نظام الشرع بدعم إقليمي مؤثّر؛ فهو تحت الرعاية التركية الكاملة، وقطر تسانده سياسياً واقتصادياً. والملاذ الآمن لسورية الجديدة محطّة الرياض، التي يعتبرها الشرع بوابته إلى العالم وجواز سفره إلى الشرعية الدولية. لم تنته المخاطر بمرور عام على تسلّم السلطة. والشيفرة للنهوض والاستقرار بناء التفاهمات والتوافقات الوطنية في الداخل السوري، والاستباق بمنع اشتعال الحرائق، بدءاً من ملفّ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وليس انتهاءً بالسويداء.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى