
منذ انحسار تنظيم داعش جغرافيًا في سوريا والعراق، ارتكب كثيرون خطأ التعامل مع هذا الحدث بوصفه نهاية التنظيم، في حين الواقع أن ما انتهى فعليًا هو شكل واحد فقط من أشكال داعش، أما التنظيم كفكرة ووظيفة فقد دخل مرحلة أكثر تعقيدًا وخطورة؛ مرحلة لا تقوم على السيطرة المكانية ولا على إدارة المدن، بل على استثمار الفوضى، وإعادة إنتاج التوتر، والعمل داخل المناطق الرمادية التي لم تُحسم سياسيًا ولا عسكريًا حتى الآن.
وفي الحالة السورية تحديدًا، لا يبدو أن داعش يتحرك وفق منطق “العدو البعيد” أو “العدو العقائدي” بقدر ما بات يتحرك وفق منطق اللحظة السياسية، مستهدفًا نقاط الضعف، ومبدّلًا خطابه وتكتيكاته بما يخدم بقاءه كفاعل مزعج.
فالتغير في خطاب التنظيم داخل سوريا، والذي يركّز على تصوير الحكومة السورية الجديدة بوصفها متعاونة مع الولايات المتحدة، ووصفها بمصطلحات مثل “الصحوات”، لا يمكن فصله عن محاولة واعية لإعادة إنتاج شرعية العنف داخليًا، وكسب ولاءات جديدة، وتحويل الصراع من مواجهة خارجية بين فاعلين أو أكثر إلى اقتتال داخلي طويل النفس. وهي استراتيجية معروفة في تاريخ التنظيمات المتطرفة عندما تخسر قدرتها على المواجهة المباشرة؛ إذ يصبح الهدف ليس السيطرة بل منع الاستقرار لتحقيق نفوذ.
وفي هذا السياق، تصبح لغة التهديد أداة تُستخدم لإعادة فرز المجتمع، وزرع الشك، ودفع الأطراف المحلية إلى صدامات تستنزف الجميع، وتخلق بيئة مناسبة لعودة التنظيم إلى قدرته على السيطرة المكانية.
يزداد الجدل حين يُطرح سؤال غياب داعش شبه الكامل عن ساحات قريبة جغرافيًا مثل إسرائيل، أو عن دولة مثل إيران، رغم الاختلاف الديني في الأولى والمذهبي في الثانية.
التحول الخطابي وحالة اللاحسم
بموازاة هذا التحول الخطابي، لا يمكن تجاهل أن استمرار ظهور داعش في مناطق معينة من دون غيرها يرتبط بشكل وثيق بحالة اللاحسم في شمال شرقي سوريا على وجه الخصوص، حيث تتقاطع المصالح الدولية والإقليمية، وتبقى السيطرة منقوصة، ويظل المجتمع المحلي محاصرًا بين قوى متعددة لا تمثل مشروعًا للعمل مع الدولة ولا تقدم أفقًا سياسيًا مستقرًا.
وفي مثل هذه البيئات تحديدًا تزدهر التنظيمات المتطرفة، لا لأنها قوية، ولا لأنها تملك حاضنة واسعة، بل لأن الدولة لم تنضج كاملًا بعد، ولأن الفراغ يسمح لها بالحركة.
فالمنطقة الواقعة تحت سيطرة قسد، مع وجود أميركي عسكري بلا توجه سياسي واضح، وتهديد تركي دائم من دون حسم، وغياب فعلي لسيادة الدولة السورية، تحولت إلى مساحة مثالية لنشاط خلايا صغيرة قادرة على تنفيذ عمليات أمنية محدودة داخل الجغرافيا السورية، لكنها ذات أثر إعلامي وسياسي كبير.
وهنا يصبح السؤال أكثر تعقيدًا من مجرد: هل داعش موجودة؟ إلى: كيف يُدار وجود داعش؟ ومن يستفيد من استمراره؟
وظيفة التنظيم
وهي أسئلة لا تُطرح عبثًا، خاصة في ظل ما يعرفه الباحثون اليوم عن حجم الاختراقات الاستخباراتية التي تعرضت لها هذه التنظيمات خلال العقد الأخير، حيث لم تعد كيانات مغلقة عقائديًا كما في بداياتها، بل شبكات مخترقة يتقاطع داخلها الإيمان الأيديولوجي مع الحسابات الأمنية ومع أدوار وظيفية مُجنّدة خارجيًا.
ومن هنا تبرز فرضيات لا يمكن الجزم بها، لكنها يصعب تجاهلها، حول إمكانية توظيف خطر داعش، أو على الأقل تضخيمه أو السماح بحركته ضمن سقوف معينة، كأداة ضغط سياسي وأمني، سواء لإرباك تركيا في حساباتها، أو لإرسال رسائل إلى دمشق، أو لإقناع واشنطن بأن جهة معينة هي الخيار الوحيد القادر على ضبط الفوضى ومنع انفجار أكبر.
وفي هذا الإطار تصبح داعش، أو بالأحرى “اسم داعش”، عنصرًا حاضرًا في لعبة توازنات غير معلنة، لا كعدو مطلق بل كتهديد مُدار يُستدعى عند الحاجة، وهو ما يفسر جزئيًا هذا الحضور المتقطع للتنظيم.
انتقائية الجغرافيا
وفي المقابل، يزداد الجدل حين يُطرح سؤال غياب داعش شبه الكامل عن ساحات قريبة جغرافيًا مثل إسرائيل، أو عن دولة مثل إيران، رغم الاختلاف الديني في الأولى والمذهبي في الثانية. وهو غياب غذّى سرديات واسعة عن الطبيعة الوظيفية للتنظيم.
فانتقائية الجغرافيا تكشف عن حقيقة أعمق، وهي أن داعش لا تعمل حيث تعلن عداءها الأيديولوجي فقط، بل حيث يُسمح لها بالعمل، وحيث تخدم حركتها بشكل مباشر أو غير مباشر توازنات إقليمية معقدة.
وفي هذا المعنى، يصبح داعش أقل شبهًا بتنظيم عقائدي مستقل، وأكثر شبهًا بأداة فوضى متنقلة تُستخدم لإشغال المنطقة، واستنزاف المجتمعات، ومنع أي مسار استقرار حقيقي، خاصة في دول منهكة كسوريا.
انتهاء صلاحية قسد
يمكن النظر إلى سلوك قسد بوصفه سلوك قوة تشعر بأن دورها الوظيفي يقترب من نهايته، أو على الأقل من تحوّل جذري لم يعد يضمن لها الموقع نفسه الذي شغلته خلال السنوات الماضية.
فالقوة التي بُني حضورها السياسي والعسكري أساسًا على كونها الشريك المحلي الأكثر فاعلية للولايات المتحدة في محاربة داعش، تجد نفسها اليوم أمام معادلة مختلفة تمامًا، حيث عادت قنوات التواصل بين الحكومة السورية الجديدة وواشنطن إلى الواجهة، ولو بصيغ حذرة وغير معلنة بالكامل، الأمر الذي يضرب جوهر الرواية التي اعتمدت عليها قسد لتبرير بقائها كقوة مستقلة عن الدولة، ويطرح سؤالًا وجوديًا حول ضرورتها في المرحلة المقبلة.
وفي هذا السياق، تبدو مخاوف قسد مفهومة من زاوية سياسية بحتة؛ فحين تفقد أي قوة مسلحة وظيفتها الأساسية في ميزان القوى الدولي، تميل غريزيًا إلى البحث عن أوراق بديلة لإثبات أنها ما تزال لاعبًا لا يمكن تجاوزه.
إن استمرار قسد في اللعب على حافة الفوضى، واستخدام أوراق داعش أو غيرها من شبكات التوتر، قد يمنحها مكاسب مؤقتة، لكنه في الوقت ذاته يراكم الغضب الشعبي عليها، ويضعها في مواجهة سردية وطنية آخذة في التشكل.
ذريعة داعش
هنا تحديدًا تبرز محاولات زعزعة الاستقرار كخيار غير معلن، بوصفها وسيلة ضغط ورسالة مفادها أن إقصاء قسد أو تهميشها سيقود إلى فوضى أمنية لا ترغب بها الأطراف الدولية.
ومن هذا المنطلق يُقرأ الحديث المتزايد عن استخدام ورقة داعش، ليس بالضرورة عبر إدارة مباشرة، بل من خلال غضّ الطرف عن خلايا نائمة لإرباك الداخل السوري، أو لإرسال إشارات إلى الخارج بأن البديل عن قسد هو انفلات أمني واسع.
وتتقاطع هذه المقاربة مع تقارير وتحليلات غير رسمية تتحدث عن محاولات قسد أيضًا مدّ خطوط تواصل مع مجموعات مسلحة، ولا سيما في السويداء والساحل، ليس بالضرورة بهدف السيطرة، بل بهدف خلق نقاط توتر إضافية تُستخدم في لعبة شد الحبال على مستقبل سوريا.
الخاتمة
في الوقت نفسه، لا يمكن فصل هذا السلوك عن منطق “تقاسم الكعكة” الذي يحكم المراحل الانتقالية في الصراعات الطويلة، إذ تحاول كل قوة فرض أمر واقع قبل الوصول إلى أي تسوية سياسية شاملة لتحسين شروطها على طاولة التفاوض.
لكن المعضلة الأساسية تكمن في أن هذا السلوك يصطدم بشكل مباشر مع تطلعات شريحة واسعة من السوريين الذين أنهكتهم سنوات الدم والحرب، والذين باتوا يعوّلون اليوم أكثر من أي وقت مضى على إيقاف النزيف والانتقال إلى مسار سياسي هادئ يضمن حقوق جميع المكونات من دون استثناء، ومن دون ابتزاز أمني أو استخدام المدنيين كورقة ضغط.
وأخيرًا، فإن استمرار قسد في اللعب على حافة الفوضى، واستخدام أوراق داعش أو غيرها من شبكات التوتر، قد يمنحها مكاسب مؤقتة، لكنه في الوقت ذاته يراكم الغضب الشعبي عليها، ويضعها في مواجهة سردية وطنية آخذة في التشكل، سردية تقول إن سوريا، مهما طال نزيفها، لا يمكن أن تُدار إلى الأبد بمنطق التهديد والفزاعة، وأن الشعب الذي أسقط أشنع الأنظمة الدكتاتورية قادر، في غضون ساعات، على إسقاط أي منظومة تهدد أمنه واستقراره.
المصدر: تلفزيون وسريا






