قراءة في رواية: شجن على ضفاف اللّاين

عبد المجيد عرفة

د. عواد جاسم الجدي روائي سوري متميز ومثابر في الابداع. قرأت له سابقا روايتي: صداع في رأس الزمن و رواية الدم الأسود وكتبت عنهما.
تبدأ شجن على ضفاف اللّاين بطريقة الخطف خلف السينمائية. هذا هو سرحان الذويب يحمل أوراقه التي دون بها حكاية غربته في ألمانيا، في مدينة على ضفاف نهر اللّان تاركا سابينا زوجته ميمما شطر بلاده المسطاحة السورية على ضفاف الفرات مع شاحنة متوجهة الى اربيل في العراق.
الشخصيات الأساسية في الرواية متعددة فهي سرحان وحبيبته حوراء كذلك سليمان وحبيبته شيحة. وكلهم من بلدة المسطاحة التي تتربع على شط الفرات في سورية والرواية تمتد زمنيا لحوالي الخمس عقود.
ولأن الرواية تنتقل في الزمان ذهاب وإياب بين الماضي والحاضر ولأنها تنتقل حسب المسار الروائي في المكان بين المسطاحة وبقية مدن سورية والعراق وحتى الكويت. وعايشت هذه العقود مرورا عابرا أو متعمقا. وتناولت حال الثورة السورية وتبعاتها في المنطقة الشرقية المسطاحة وما حولها. وتناولت أيضا حياة اخرى عايشها سرحان وآخرون في لجوئه الالماني.
لكل ذلك سنعتمد في هذه القراءة على الكتابة المركزة والمباشرة والمتسلسلة زمانيا ومكانيا. وبحيث تكون أقرب لمضمون الرواية ورسالتها.
المسطاحة بلدة تتربع على شط الفرات في الشرق السوري. يعيش الناس فيها بالعمل الزراعي ويستفيدون من النهر وما يلقيه إليهم في فيضاناته المتكررة من طمي يفيدهم في زراعتهم السنوية. كما انها بلدة محكومة بالعرف العشائري والعائلي وهي مجموعة من العائلات التي تتعايش وفق قواعد متعارف عليها منذ قرون.
يبدأ السرد زمنيا منذ عقود مضت حيث كان اهل المسطاحة يعملون ويتاجرون وحتى يدرسون متنقلين بين سوريا والعراق، وخاصة ان سورية والعراق كانا محكومين بنظامين بعثيين متعاديان بالمطلق. ولم يكن يمنع هذا من التنقل بين البلدين. خاصة الهاربين من ثأر أو معارضي النظام أو الذاهبين للدراسة ومن المهربين الذين يقتاتون من نقل السلع بين البلدين.
كانت الحرب العراقية الإيرانية على أشدها والفرس في صراعهم التوسعي يغطون انفسهم بادعاء الاسلام. والنظام السوري يدعمهم على انهم يريدون تحرير القدس وفي الحقيقة لأنهم ضد النظام العراقي المعتبر عدوا للنظام السوري.
في المسطاحة في ذلك التاريخ بدأت تتوسع المدارس وينتشر التعليم واصبح ابناء المسطاحة يتعلمون ويكتبون مستقبلا مختلفا لهم عن مصير الزراعة والعيش كما ابائهم.
سليمان وشيحة تعلموا في المدرسة سوية. سليمان نشيط ومتفوق وكذلك شيحة متفوقة وجميلة. سلبت قلب سليمان وهكذا تحابا وتعاهدا على الزواج وبناء حياة مشتركة . لكن العرف الاجتماعي القبلي كان لهما بالمرصاد فقد علم أحد أولاد عمومتها بهذا الحب فقرر أن يتزوج ابنة عمه . مستخدما عرفا اجتماعيا. وهو “التحيير” وهذا يعني أن ابنة عمه له زوجة في المستقبل. وهذا جعل الحب المتوقد بين سليمان وشيحة مهددا بهذا الزواج الإجباري من شيحة وابن عمها.
في ذات الوقت كانت جدة سليمان “الحبابة” قد رعت احد ابناء قريباتها التي استقرت بالعراق قي زواج جديد وأعيد الطفل ابن الخامسة إلى جدته. انه سرحان الذويب الذي أصبح يعيش في كنف جدته التي يدعوها امه. ليكون شاهدا على حب سليمان وشيحة وليكون مرسالهم كل الوقت.
لم تتقبل شيحة زواجها من ابن عمها. ومع ذلك أرغمت على الزواج منه . وتمنعت عن الوصال الجسدي معه. وهددها بالسلاح ولم تستجب فأطلق عليها واصيبت قدمها. وهرب خارج المسطاحة. أنقذها سليمان الذي أخبره الطفل سرحان بما حصل وتم معالجة شيحة وعادت للبلدة. بينما استمر سليمان مخلصا لحبه لشيحة واستمر في متابعة دراسته ودخل الجامعة كلية الحقوق وتطوع بعد تخرجه ليكون ضابط شرطة و بعد وقت مديرا لناحية. وفي ذات الوقت تم التوافق العائلي على تطليق شيحة من ابن عمها ومن ثم تزويجها من سليمان واصبحوا عائلة ناجحة في بلدتهم المسطاحة. بينما كبر سرحان الذي لقب بالذويب لأنه اعاد للذئبة جراءها في مغامرة مميتة. وفي الجامعة التي تابع بها دراسته في الرقة تعرف على حوراء التى أحبها وأحبته وقررا الزواج. ومن ثم تزوجوا وأنجبوا باسل وشام. وأصبح مديرا للمركز الثقافي في المسطاحة. بقيت علاقة سليمان وشيحة مع سرحان وحوراء على احسن حال.
كان لا بد أن يمر عقود لتحصل كل هذه المتغيرات في المسطاحة وفي حياة سرحان وحوراء من جهة. وسليمان وشيحة من جهة أخرى.
لكن الواقع العام اختلف كثيرا بعد ذلك.
ما أن حصل الربيع العربي مطلع عام ٢٠١١م. وانتقل إلى سورية التي كانت جاهزة موضوعيا للثورة. فهناك الظلم والفساد والمحسوبية. ووصل إلى المسطاحة حيث يعمل سرحان مديرا للمركز الثقافي . أما سليمان وهو مدير احد النواحي في محافظة الحسكة حيث بدأت الشرطة تحمي المتظاهرين ولكن أجهزة الأمن بدأت تقتل الناشطين، وكان قتلهم اغتيالا منهم الناشط مشعل تمو الذي كان السبب المباشر لقرار اعلان سليمان انشقاقه وهروبه وعائلته الى تركيا ومن هناك إلى إحدى الدول الأوروبية . حيث سيلتقي هناك صدفة في مسار الحياة مع سرحان في احدى المدن الالمانية.
أما سرحان فقد قرر العمل في المركز الثقافي على دحض دعوات المتظاهرين بداية وانهم ارهابيين وعملاء أعداء سورية كما يدعي النظام ، ولكن تبين له بعد ذلك اختلاط الأوراق وأن النظام ليس بريئا وبدأ يقتل بالناس في المسطاحة وفي كل سورية تقريبا. ليوقف حراك الشعب السوري المطالب بحقوقه بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل.
تطورت الأحداث داخل المسطاحة فقد حضر الجيش السوري بداية وكان وحشيا في تعامله مع الشعب الثائر او الحيادي المهادن، وبدأ يستعمل السلاح الثقيل الطيران والبراميل المتفجرة والقصف، وطبعا ظهرت جماعات مسلحة من الجيش الحر واجهت النظام وأصبحت المسطاحة ساحة صراع. وسرعان ما ظهر تنظيم الدولة الإسلامية داعش بأعماله الوحشية ضد الشعب وضد الثوار والبلدات الثائرة. ودعم تحركها النظام من الجو . ثم ظهرت مجموعات الحشد الشعبي الطائفية العراقية ومعها الإيرانيين وبدؤوا بحملة قتل وقصف وتدمير يطال كل المناطق الثائرة فقتل الالاف وبدأ الناس حملة نزوح عامة. وفي ذات الوقت كان النظام قد سلّم الشمال الشرقي السوري الى ربيبه حزب العمال الكردستاني ممثلا بما سمي روجآفا كدولة كردية انفصالية شمال شرق سورية.
في ظل هذه المتغيرات الكبيرة والمتسارعة قرر سرحان النزوح مع عائلته من المسطاحة الى بلدة اخرى في الطرف المقابل من الفرات الأقل عنفا. وادى ذلك الى كارثة بالنسبة له حيث قصفت طائرات النظام السفن المحملة بعائلته وغيرها وغرقت زوجته حوراء وابنه باسل وابنته شام. وكان ذلك أكبر كارثة حياتية عاشها سرحان في حياته.
لم يعد أمام سرحان حل الا ان يلجأ كما الملايين من السوريين إلى خارج سورية حيث خرج إلى تركيا بمساعدة المهربين ومنها انتقل إلى ألمانيا حيث استقر هناك في كمب يعيش على المعونة التي تقدمها الدولة .
في الكامب سمع سرحان الكثير من حكايا هروب السوريين من بلادنا وطرق انتقالهم الى الدول الاوربية من الشمال الشرقي السوري ومن الشمال ومن سورية عموما. البعض أخذ طريق البر بعد الوصول إلى اليونان عبر بلغاريا وبقية الدول الأوروبية للوصول للدولة التي يرغب أن يعيش بها. والبعض أخذ طريق البحر وكانت رحلة الجميع مقترنة بالمصاعب وقد غرق الكثير وضاع الكثير وأصبحت حياة أغلب من وصل الى مبتغاه منكوبا بعائلته أو أملاكه والاهم هو نكبته بضياع وطنه وعائلته كما حصل مع سرحان.
بدأ سرحان الاندماج فعلا في المجتمع الألماني فهو خريج جامعي وعمل معلما، دخل في دورات تعلم اللغة الألمانية بمستوياتها الخمس ونجح بها جميعا وحصل على شهادة الاندماج التي تخوله أن يعمل ويبني حياته متجاوزا معونة الدولة التي لا تكفي إلا الحد الأدنى للعيش.
كان يعيش مع أحمد لاجئ آخر . وكان يعاني من عدم قبول الألمان لأي عمل يتقدم إليه. نعم هناك عنصرية مبطنة حيث لا يتقبل الألمان اللاجئين في أعمالهم رغم كفاءتهم. لقد استمر يرسل طلبات العمل على مدار سنتين بالعشرات ولم يقبل في أحدها.
و للمفارقة فإن معاناة سرحان ما حصل مع إحداهن التي فضلت العمل في مبغى بدل العيش مع سحاقية ، ومن عملها في المبغى ودفع الضرائب حصلت على الجنسية . أما هو فبقي منبوذا وبلا عمل.
ولأنه يعيش في بلدة على ضفاف نهر اللّان ويتحدث بأحواله مع صديقه أحمد ومع جاراته من نساء الحي وأنه لم يجد عملا للآن ، فقد قرروا ان يجعلوه مرافقا لكلابهم في نزهات مرتين يوميا. وان يعطوه نقابلا متواضعا. نعم هناك في كل بيت كلب أو أكثر ويتم الاعتناء به وكأنه فرد من العائلة، وقد يكون أحيانا هو العائلة. قبل سرحان بالعرض وليس أمامه غيره.
وهكذا ومع مرور الوقت التقى سرحان بكثير من النساء الجميلات اللواتي سلبنّ لبه وخاصة أنه كان قد قاطع مشاعره الذكورية بعد ما عاشه من غرق عائلته في الفرات قبل سنوات.
وبمضي هذه السنوات و بلقائه بكثير من النساء وهو من خلفية مسلمة ملتزمة فقد التقى سابينا في يوم مثلج ورافقها لمنزلها والتقى بعد ذلك بابنتها وتوطدت العلاقة. لتجد سابينا به ملجأ لمعاناتها التي عاشتها قبل سنين بعيدة عندما التقت بأحد الضباط الأمريكيين وتناولت المسكرات معه وفقدت وعيها وصحت على نفسها وقد فقدت عذريتها. واعتبرت انه اغتصبها. غادر بعد وقت لكنه ترك فيها بذرته التي ستكون ابنته التي التقت بسرحان والتي تذهب الى والدها في امريكا وتعود ثانية الى امها. لقد أخذت سابينا موقفا من الجنس مع الرجال وبعد تعرفها على سرحان وتعايشها معه، تجاوزت عقدتها الجنسية وتوطدت العلاقة، وتزوجا هي وسرحان الذي اكتشف أن رجولته لم تنضب، وهكذا حصل. وعاش حياته غير هذه المنغصات متوافقة ومتناغمة جسديا ونفسيا مع سابينا التي أخلصت له وأخلص لها.
ومع ذلك لم يكن سرحان راضيا عن حياته تلك سواء عمله مرافقا للكلاب ولا عن زواجه من سابينا رغم ما تغدق عليه من عواطف وإشباع جسدي. لكنه يصطدم بعنصريتها المتأصلة عميقا في شخصيتها. وتعاملها الفوقي معه . وهذا سبب جرحا قاسيا في نفسه. جعله يعيد التفكير مجددا بأن ألمانيا ليست له وأمثاله من اللاجئين. بل لاهلها. وان عليه ان يعود الى المسطاحة لعله يلتقي ببعض أهله هناك. لأن هاجسا قويا يسيطر عليه بأن ابنته شام تم انقاذها وانها اصبحت صبية جميلة وأنه سيلتقي بها يوما ما.
كل هذه المعاناة والأفكار كانت تراود سرحان الذي وجد نفسه مترددا بين ما عاشه في ألمانيا. وأنه يحب سابينا فعلا ورغم عيوبها فهي سرعان ما تعتذر عن اخطائها معه فقد قرر العودة إلى المسطاحة. مرافقا شاحنة متوجهة الى اربيل في العراق ومن هناك يعود الى المسطاحة التي مازال له اقرباء واصدقاء فيها.
وبالفعل يذهب الى اربيل ويزور بيت السائق الذي رافقه الطريق ويلتقي هناك بمفاجآت جديدة قد تغير حياته كلها….
سابينا تبعث له انها تعتذر منه وانها تحبه وتطالبه بالعودة إليها في المانيا مجددا…
إلى هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
لقد نجح د عواد جاسم الجدي أن يغرينا بالغوص معه عميقا في واقع الحياة على ضفاف الفرات لعقود خلت وعلى كل المستويات المجتمعية والانسانية وخاصة في تتبع خطى الحب وما يصنع في حياة البشر وكيف يقود أقدارهم.
كما غصنا عميقا في واقع الثورة السورية وكيف واجه النظام المجرم -الساقط الآن – الشعب السوري بكل الطرق الوحشية قتل واعتقال وتدمير طال كل شيء، وزاد الامر سوء خلق داعش تفتك بالشعب وكذلك الانفصاليين الأكراد وإحضار الطائفيين من الحشد الشعبي ومن إيران ولبنان وغيرها . ليكونوا وحوشا ينهشوا في جسد الدولة السورية وشعبها.
كما غصنا عميقا في رحلة اللجوء السوري هربا الى اوروبا بدوله المتعددة. وكيف احتضنت السوريين واعطتهم فرص العيش وفرص التعلم والاندماج ولكن اصطدموا بواقع العنصرية الغربية عموما. وفي ألمانيا حيث لم يستطع البعض أن يجد فرصة عمل وأصبحوا ضحية التنمر احيانا. لقد عاشوا شعورا بالدونية لم يستطيعوا التحرر منه. لذلك كان طبيعيا أن يفكر السوريون في جميع أنحاء العالم بالعودة الى بلادنا سورية رغم كل ما أصابها. كما تعرفنا على البنى المجتمعية الغربية وأن لكل مجتمع عيوبه ومشكلاته.
نقول ذلك والرواية لم تقترب من لحظة التحرر النظام المجرم الساقط منذ أكثر من عام. وكيف بدأ الملايين من السوريين يعودون من بلدان اللجوء في الجوار ومن كل العالم. يعودوا إلى بيوتهم ولو كانت مدمرة. وإلى بلدانهم في سورية التي كانت تخرج من الموت السريري بكل بطئ ولكن بإصرار وعزيمة صادقة.
الرواية مهمة جدا وتوثق حال عقود من الحياة الفارقة في سورية حيث لن تتكرر عبر مئات السنين القادمة. تؤرخ الرواية لحياة السوريين بكل عراقتها وعمقها المجتمعي سلبياتها وايجابياتها. وتؤرخ لثورة قامت تتحدى المستحيل وتواجه نظاما قاتلا دمويا . وضحت بالملايين شهداء وجرحى ومصابين وملايين المشردين داخل سورية وخارجها. لكن لم يستسلموا وانتصروا في معركتهم ضد النظام المجرم وأصبحت سورية وشعبها أحرار يعملون لتحقيق العدالة ويصونون كرامتهم الإنسانية ويبنوا الحياة الافضل في دولة المواطنة والديمقراطية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى