” كان يا ما كان” بين المغرب وكرة القدم

عبد الحميد اجماهيري

لا الحظَّ يفسِّر أسطورة المغرب الكروية، ولا المعجزة، ولا الرغبة وحدها يمكنها أن تفكّ شيفرة هذا الإنجاز. لقد شغَّل المغربَ وقودٌ جمع بين العقل والسياسة والمخيال الجماعي والحكامة التقنية والتخطيط البيداغوجي (التربوي)، ونال من جرّاء ذلك ما كان يريده من تتويج في 2025، فالمغرب يختتم سنةً كرويةً غير مسبوقة في تاريخه وتاريخ دولٍ عديدة في الجنوب الشامل، بتنظيم كأس أفريقيا للأمم (“كان” بلغة أهل الرياضة)، ابتداءً من الأحد 21 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ولشهر كامل. وتشبه حصيلته حصيلة دعوة دينية، ما دامت كرة القدم أصبحت “الديانة” الجديدة للبشرية. شهد هذا العام تتويجه العربي فوق أرض قطر التي كانت منطلق مغامرته غير المسبوقة في 2022، وفألاً كروياً افتتاحياً بكأس العرب. وقبلها كانت تشيلي معبد تتويج أبنائه تحت 20 سنة، وحصوله على التتويج القارّي لتحت 17 سنة، والتتويج في “فوتسال” والمنتخب المغربي للسيدات، إضافة إلى التتويج الفردي لأبطاله الكرويين وفي مقدّمتهم أشرف حكيمي.
صهرت كرة القدم الانتماء المغربي لدى الأجيال الجديدة ومغاربة العالم، وصارت مواطنة ناجحة عابرة للحدود
أخرج المغرب كرة القدم، اللعبة الساحرة، من دورة السحر، وحرّرها من منطق المعجزة، واختار أن يصنع القَدَر لا انتظارَ حُكمه. في هذا الاختيار الذي صار مشتركاً بشرياً، خاضعاً لقوانين القوة وموازينها وقواعد الدبلوماسية ومنطق القوة المرنة؛ لم يعد يستجدي المصادفة في ما يفعله، ولا يعوِّل على السحر للنجاح، ولا على الرُّقى الغيبية، بل اختار بناء بنى تحتيةٍ ومقوّماتٍ سياسيةٍ بأهداف عالية العتبة.
فهم المغرب، منذ قرابة عقدَيْن، ومنذ 2008 بالضبط، كما سجّلت ذلك رسالة للملك محمّد السادس إلى المناظرة الوطنية حول الرياضة في المغرب، أن كرة القدم لا يمكنها أن تكون أقلّ من مشروع دولة: يقوم على استراتيجية واضحة، وتعاقد روحي وتقني ومؤسّساتي بين الفاعلين، وحلقة رئيسة في بناء الهُويَّة الجيوسياسية للبلاد، وأن كرة القدم أكبر من شيفرة أو “كود” ترفيه، بل قوة مرنة لا بدّ لها من مقوّمات لبناء هُويَّة جديدة. كانت تلك الترجمة الفعلية لاعتماد الرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً هواءً جديداً للقوة المرنة.
وبذل في بناء هندسة كروية تجمع الملاعب والتكوين الأكاديمي والتخطيط بالأهداف، ككل عمليةٍ “بيداغوجيةٍ” (تربوية) تتطلّب مقدّمات عملية ملموسة قائمة على التربية. لم تكن منظومة الكرة شبكة معزولة: اليوم والقارة في المغرب، نتذكّر ما قبلها عندما كان المغرب في القارّة، وحصل على حضور قوي من خلال شبكة اقتصادية بمقوّماتها البنكية والاستثمارية، والمواصلات الحديثة والاستثمارات العقارية، والوجود الديني عبر شبكة معاهد تأهيل المرشدين والعلماء، والتديّن المغربي بالحضور الروحي التاريخي عبر شبكات الزوايا… إلى المغرب الذي يستقبل القارّة.
إلى ذلك، طوّر لنفسه عتبات في التموضع الدولي عبر بناء الشراكات الدولية، إذ تابعت جماهيره، ومن خلالها جماهير العالم، أحداثاً رياضيةً كبرى. وأنشأت الدولة شراكات مع القوى الفيدرالية الكروية في العالم، وفتحت أحضانها وملاعبها للفِرق القارّية. صاحب ذلك عرض سياسي واستراتيجي واضح له أهدافه المُعلَنة، ومبنيٌّ على منظومة قيم مشتركة مع القارّة: سواء في بناء واجهات أفرو- أطلسية تجمع 22 بلداً أفريقياً، أو من خلال مشاريع الاندماج الإقليمية (مثلاً منظومة دول الساحل وفتح الطريق نحو المحيط الأطلسي)، وتطويع الجغرافية وترويضها لخدمة التنمية والموقع الجيوسياسي من خلال المغامرة المحسوبة لأنبوب الغاز المغربي – النيجري.
في قلب المشروع الكروي الدبلوماسي المغربي توجد القيم، وكانت الدولة فاعلاً أخلاقياً. الجدّية والانتماء و”المعقول”، تلك العبارة المغربية غير القابلة للترجمة، في بناء التعاقدات والطموح والبذل والشغف والرفاهية وفنّ العيش والفرح. كانت كرة القدم المواطنة الناجحة، وفي الوقت نفسه، مترامية الأطراف، صهرت الانتماء المغربي لدى الجيلين الثالث والرابع، ومغاربة العالم في القارّات كلّها.
لم يكن المغرب يبني لنفسه أسطورته الشخصية وحده، بل للجنوب الشامل والعالم الثالث؛ العالم المُقصى من كارتيلات الرياضة الدولية يرى نفسه ينجح: المغاربيون والأفارقة والعرب والشعوب في القارّات الجنوبية (آسيا وأميركا اللاتينية) وجدوا صورتهم في هذا الإنجاز. ولم يخضع لسقف زجاجي بناه الأقوياء، ولم يقارن نفسه بهم للحدّ من طموحه، بل صنع لنفسه سقفاً عالياً وبذل من أجله المجهودات الضرورية.
ليست كرة القدم لعبة ترفيه، بل صارت “قوةً مرنةً” لبناء هُويَّة جيوسياسية جديدة وتموضع دولي أشمل
لقد قدّم المغرب في قلب هذه الأسطورة “حضارةً ونضارةً وأماناً” كما تقول الأغنية، باستقرار سياسي وبروح التسامح التي طبعت تاريخه الخاص، عوض تغذية النفور والكراهية والمزاج السيّئ. واستطاع خلط الفهم البارد والحديدي للعبة الجيوسياسية بأريحية الدبلوماسية الرياضية وعواطفها وعرقها وصراعها وفرحها وتظاهراتها. لقد استطاعت المنافسات أن تحقّق كثيراً من وعودها قبل صفّارة الانطلاق، بالنظر إلى الملاعب التي هُيِّئتْ، ومن خلال جاهزية البنية البشرية التي بدأت تحتضن الكرة بشغف عميق، ومن خلال الانخراط الجماهيري الواسع عبر التذاكر (حديث رسمي عن مليون تذكرة إلى حدود يوم الافتتاح)، ومتابعة غير مسبوقة من خارج القارّة لقرابة 30 دولة. كما حطّمت مطارات المغرب الأرقام القياسية مع انطلاق الكأس، مع توافد إعلامي لم يعشه المغرب من قبل.
ويُنتظَر أن يتحوّل فصل الشتاء، الذي هو عادةً شهر كمون الشعوب، إلى صيف سياحي بالنظر إلى التوافد الأجنبي المُتوقَّع. ومن المُنتظَر كذلك أن يخلق المغرب تأهيلاً شاملاً لبنياته الاستقبالية وقدرته على ضمان سلاسة التنقل والتجاوب مع متطلّبات الزوار وجماهير كرة القدم الأفريقية، وتنسيق القرار الأمني مع تدبير الحشود الموجودة، وتأهيل العرض الصحّي والمواكبة الخدماتية… إلخ.
هو تمرين أيضاً للاستعداد لمونديال 2030، الذي يتطلّب خمس سنوات إضافية من رعاية الأسطورة وتحصين الإنجاز الواقعي. لقد أعطى المغرب لكرة القدم، فأعطته بدورها قوة، حتى صار هدف اللاعب أسامة طنّان، القريب من المؤثّرات الخاصّة في سينما الخيال، أحسن وصلة في استراتيجية التواصل الدولي.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى