بين تدمر وبوندي: داعش بلا دولة وخطر بلا حدود

سمير صالحة

ما الذي يقوله لنا العمل الإرهابي الأخير على خط بوندي–تدمر؟ وهل يمكن لتنظيم إرهابي مسلح أن يُهزم عسكريًا دون أن يُهزم أمنيًا وفكريًا؟
يستدعي حراك داعش في المكانين التعامل مع السؤالين بجدية، خصوصًا حين تتحول الهزيمة الميدانية إلى حالة من السيولة الأمنية، تتيح للتنظيم إعادة تعريف نفسه خارج منطق “الدولة” والولاية، ولكن داخل منطق “الخطر المستمر”.
لم يكن سقوط تنظيم داعش في الموصل العراقية والبادية السورية قبل سنوات مجرد إعلان نهاية بقدر ما كان إعلان تحوّل بحسب هذه المجموعات. فالتنظيم الذي خسر الأرض والراية يعلن أنه لم يخسر القدرة على التكيف، ولا قابلية فكرته على إعادة إنتاج نفسها داخل فراغات أمنية وجغرافية تمتد من بوندي إلى تدمر. وهنا، لا يعود السؤال متعلقًا بمكان السقوط بقدر ما يتعلق بكيفية استمرار التهديد.
انهار مشروع الدولة والإمارة، لكن الخلايا والذئاب المنفردة ما زالت تتحرك وتنشط.
انتقل داعش اليوم من تنظيم أفقي–عامودي إلى التركيز على التحرك العامودي فقط، بعدما ضاقت مساحة تحركه وفقد المئات من كوادره. الرسائل تأتي بأساليب وأدوات مختلفة، لكن بأهداف مشتركة؛ بين 2014 و2024 خسر التنظيم الكثير، لكن وسائل التحريض والتعبئة والاستفادة من أدوات التواصل وإثبات الوجود لم تتراجع بعد.
تمتد بين بوندي وتدمر مساحة تبدو للوهلة الأولى بعيدة وهامشية، لكنها في الحسابات الأمنية ليست كذلك. فالجغرافيا التي شهدت سقوط داعش ميدانيًا تحولت إلى مختبر مفتوح لمسار جديد من التهديد: أقل ضجيجًا وأكثر تعقيدًا. ما سقط على خط هذا الامتداد قد يكون السيطرة، لكن الذي بقي فهو الوجود والتأثير.
المشهد القائم يكاد يقول إن بوندي وتدمر ليسا مجرد مواقع جغرافية متباعدة، بل يمثلان محورًا حيويًا لفهم ديناميات استمرار داعش، وأن الموقعين يشكلان عقدتين رئيسيتين في شبكة الفراغات الأمنية التي تسمح للتنظيم بالتحرك وإعادة تموضعه.
تخلى التنظيم منذ أعوام عن فكرة السيطرة على الأرض والاحتفاظ بها، لكنه لم يترك أسلوب المرونة في التحرك والاختفاء السريع، ما جعله يتحول إلى تهديد منخفض الكلفة وعالي التأثير.
إذا كان سقوط داعش يعني نهاية الخطر، فلماذا يواصل التنظيم تنفيذ عمليات متفرقة على هذا الخط الممتد بين بوندي وتدمر؟
صحيح أن بعض القراءات لا تستبعد توظيف هذه الهجمات في سياق رسائل سياسية أو استهداف سياسات دول بعينها، إلا أن ما جرى يعكس في جوهره انتقال التنظيم من منطق السيطرة الميدانية إلى حروب الظل والخلايا النائمة، حيث لا تتوقف مواجهة الخطر على النصر العسكري وحده، بل أيضًا على استراتيجيات منع داعش من التكيف مع الفراغات الأمنية.
لماذا يواصل داعش تنفيذ هجمات في مناطق مثل تدمر وبوندي؟ وهل هذا النوع من العمليات دليل على أن التنظيم تحول إلى شبكة خلايا نائمة تحافظ على حضورها الرمزي؟ هذه التساؤلات تؤكد أن تقييم الهدف بالنسبة لداعش لا يبدأ وينتهي بالنصر العسكري، بل بإظهار قدرته على التكيف واستغلال الفراغات الأمنية المتاحة عبر مواجهة طويلة الأمد.
من هنا يعتبر هجوم تدمر، الذي قُتل فيه ثلاثة أميركيين، ليس مجرد حادث عابر بهدف رسالة إثبات وجود، بل هو استعراض لقدرة التنظيم على التحرك داخل بيئة أمنية معقدة، واستعراض قوته الرمزية بعد خسارته السيطرة الفعلية على تلك الأرض.
ومن هنا أيضًا لا يمكن قراءة الهجوم على خط تدمر–بوندي بوصفه حدثًا أمنيًا معزولًا، بل إشارة واضحة إلى تمسك التنظيم بالتحرك في إطار الفعل المحلي والتأثير العابر للحدود في الوقت نفسه. يريد داعش أن يظهر أنه قادر على العمل ضمن بيئة صراع محلية تقليدية، لكنه يستطيع التحرك داخل المجتمع المدني، مستثمرًا في الرمزية والصدمة بدل السيطرة.
الذئاب المنفردة هي ما يجمع تدمر وبوندي؛ ففي تدمر استُثمر الفراغ الأمني، وفي بوندي تحركوا بأدوات محدودة لإرسال رسالة محددة، بعيدًا عن ساحات القتال. ومن هنا فإن أي تقييم يعتمد على مجريات ونتائج الميدان وحده لن يكون كافيًا للتنبؤ بالخطر المستقبلي.
فقد التنظيم “دولته” وسيطرته المباشرة على العديد من المناطق، لكن الخطر يبقى قائمًا على آلاف الكيلومترات، بقدر ما يراجع داعش أساليبه وخططه في التحرك. لا بد لخطط المواجهة أن تكون حاضرة بما يتفوق ويتقدم عليه بمسافات. الخطر لم يعد في الانتقال الميداني، بل في نشاط عناصر غير مرتبطة تنظيميًا.
كان الاختراق في الشرق دائمًا أسهل لداعش، لأنه يعرف البيئة أكثر، لكنه في الغرب أيضًا استفاد من الأجواء الاجتماعية، والعزلة الفردية، وأزمات الهوية، وهو ما يحتم التنسيق السياسي والاجتماعي والاقتصادي بقدر ما يبرز التنسيق الأمني والعسكري .
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى