إلغاء العقوبات الثانوية بقانون قيصر.. تحول قانوني وآثار امتثال مالي واستثماري

فضل عبد الغني

يمثل إلغاء العقوبات الثانوية لقانون قيصر في ديسمبر/كانون الأول 2025، والذي أُقرّ ضمن قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2026، إعادة تشكيل جوهرية للإطار القانوني والامتثالي الذي يحكم المعاملات المرتبطة بسوريا من قبل الكيانات غير الأميركية. ويُعدّ هذا الإجراء التشريعي حصيلة جهود دبلوماسية مكثفة، كما يعكس انتقالاً عن نموذج الإنفاذ العابر للحدود الذي طبع سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا منذ عام 2019.
ويكتسب الإلغاء أهمية خاصة لكونه غير مشروط، ولا يتضمن آليات لإعادة فرض العقوبات تلقائياً، بما يدل على تعديل بنيوي في هندسة العقوبات. وتمتد آثاره العملية إلى مجالات متداخلة، تشمل وضوح الاختصاص القضائي في القانون الدولي، وعلاقات المراسلة المصرفية، والاستثمار الأجنبي المباشر، وتمويل إعادة الإعمار. ومن ثمّ، يتطلب فهم هذا التطور تحليل كيفية عمل العقوبات الثانوية في تقييد السلوك التجاري، وكيف يُعيد رفعها ضبط بيئة الامتثال لدى الجهات الفاعلة الدولية التي تنظر في الانخراط الاقتصادي مع سوريا.
التحول القانوني: من الإنفاذ خارج الحدود إلى استعادة وضوح الاختصاص القضائي
يؤدي إلغاء المادة 7412 من قانون قيصر إلى تعطيل آلية الإنفاذ خارج الحدود الإقليمية التي كانت الولايات المتحدة تعتمد عليها لتوسيع نطاق سلطتها العقابية خارج حدود ولايتها القضائية التقليدية. ففي الإطار السابق، كان الأفراد والكيانات الأجنبية معرضين لاحتمال فرض عقوبات أمريكية، تشمل تجميد الأصول وقيود التأشيرات، لمجرد تقديمهم دعماً مالياً أو مادياً أو تقنياً كبيراً للحكومة السورية، أو لإجرائهم معاملات كبيرة مع كيانات مُدرجة على قوائم العقوبات، حتى إذا تمت تلك الأنشطة بالكامل خارج الولاية القضائية الأميركية، ومن دون أي صلة بأشخاص أميركيين أو أراضٍ أميركية أو بنية مالية أميركية.
وقد جسّد هذا النظام نموذجاً للعقوبات الثانوية يقوم على ما وصفه فقهاء القانون الدولي بتأكيد الولاية القضائية الخارجية المتوسعة، إذ سعت الولايات المتحدة إلى تنظيم السلوك التجاري لجهات أجنبية استناداً إلى وجهة المعاملة أو طرفها المقابل، لا إلى رابطة مباشرة بمصلحة أميركية محددة. وتمحور الجدل القانوني حول ما إذا كانت هذه التدابير تمسّ بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتتجاوز الأسس المعترف بها لممارسة الولاية القضائية التزاحمية بموجب القانون الدولي العرفي.
ويُعيد الإلغاء قدراً أكبر من وضوح الاختصاص القضائي إلى بيئة الامتثال، إذ لم يعد غير الأميركيين معرضين للعقوبات الأميريكية لمجرد ممارسة نشاط تجاري مشروع مع سوريا؛ كما يخفف هذا التطور حالة عدم اليقين الهيكلي التي طبعت المعاملات العابرة للحدود، حين كانت الكيانات الأجنبية تواجه احتمال إدراجها أو معاقبتها بناء على تقديرات تقديرية لما يُعدّ “دعماً كبيراً”. واعتقد أن ترك هذا المصطلح من دون تعريف محدد كان مقصوداً لتعزيز سلطة السلطة التنفيذية التقديرية، بما أفضى إلى بيئة امتثال يتعذر فيها على الفاعلين التجاريين توقع العواقب التنظيمية لقراراتهم على نحو موثوق.
مع إلغاء العقوبات الثانوية، يتحول المشهد الاستثماري من إطار يغلب عليه الردع إلى إطار يقوم على العناية الواجبة. ويغدو بمقدور المستثمرين الأجانب هيكلة مشاريعهم على أساس فحص الكيانات..
الأثر المصرفي: تفكيك ديناميكيات الحد من المخاطر ورفع “الأثر المثبط”

أفضت العقوبات الثانوية بموجب قانون قيصر إلى ما يصفه مختصو الامتثال بـ“الأثر المثبط” الذي تجاوز، عملياً، الحدود القانونية الرسمية للنص، عبر ديناميكيات مترابطة شوّهت علاقات المراسلة المصرفية وقنوات الوساطة المالية.
فقد واجهت البنوك المراسلة، في ظل هذا النظام، مخاطر غير متكافئة؛ وحتى عندما لا تنتهك معاملة بعينها العقوبات الأميركية الأساسية، ظلّ احتمال اعتبار البنك “متورطاً” في تقديم دعم كبير قائماً إذا قام بمعالجة مدفوعات لبنوك مراسلة أخرى تضم في شبكات عملائها جهات سورية بوصفها مستفيداً نهائياً. وقد قاد هذا البناء إلى مفارقة امتثال واضحة: إذ تعجز البنوك، بحكم طبيعة علاقات المراسلة المتداخلة، عن التحقق الكامل من المالكين المستفيدين والاستخدام النهائي للأموال، ومع ذلك قد تتحمل تبعات جسيمة عند وقوع خرق داخل تلك الشبكات.
وفي مواجهة هذا الغموض الهيكلي، تبنّت مؤسسات مالية عديدة استراتيجيات صارمة للحد من المخاطر، تجسدت في إنهاء واسع لعلاقات المراسلة مع مؤسسات تعمل في بيئات تُصنّف عالية المخاطر أو تتعامل معها. وقد بدا هذا السلوك متسقاً اقتصادياً من منظور المؤسسة الفردية، لأن كلفة الانكشاف المحتمل، بما في ذلك إجراءات الإنفاذ من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، ومخاطر السمعة، واحتمال فقدان إمكانية الوصول إلى مقاصة الدولار الأميركي، تفوق بمراحل العائد المتوقع من أي نشاط مرتبط بسوريا.
وترتب على ذلك ما يمكن وصفه بـ“العقوبات الخفية”، أي قيود مالية تُنفّذ عملياً عبر قرارات إدارة المخاطر في القطاع الخاص، لا عبر حظر قانوني صريح. ووجدت منظمات سورية غير حكومية، وقنوات تحويلات المغتربين، ومستوردون تجاريون أنفسهم محرومين فعلياً من الخدمات المصرفية، ليس لأن معاملاتهم مخالِفة، بل لأن مجرد ورود إشارة إلى سوريا في وثائق المعاملة كان يؤدي إلى إغلاق الحسابات تلقائياً أو رفض المدفوعات.
ويُغيّر إلغاء العقوبات الثانوية جذرياً حسابات المخاطر هذه، إذ يمكن للبنوك غير الأميركية إجراء معاملات مرتبطة بسوريا من دون التعرض لخطر عقوبات أميركية ثانوية. وينقل ذلك إطار الامتثال من نموذج ثنائي يعتبر سوريا نطاقاً محظوراً على نحو شبه مطلق، إلى مقاربة قائمة على المخاطر تركز على فحص قوائم العقوبات، والالتزام بمتطلبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والتقيد بالمعايير التنظيمية في بلد المنشأ. ولا يعني هذا التحول أن سوريا تصبح بيئة منخفضة المخاطر، لكنه يحول المخاطر من تهديد هيكلي غير قابل للقياس إلى عملية امتثال قابلة للإدارة تعتمد على العناية الواجبة بالعملاء، ومراقبة المعاملات، والتحقق من الملكية المستفيدة.
تمويل التجارة والاستثمار وإعادة الإعمار: الانتقال من الردع إلى العناية الواجبة القابلة للتمويل
استهدفت العقوبات الثانوية، في بنيتها، القطاعات المرتبطة بإعادة الإعمار، بما في ذلك البناء والهندسة والطاقة والطيران، بما أوجد ما يصفه الاقتصاديون بـ“عبء عقوبات” أدى إلى ردع الاستثمار الأجنبي حتى في المجالات التي لم تكن محظورة صراحة بموجب العقوبات الأساسية.
وقد خلقت الصياغات القانونية التي تُجيز فرض عقوبات على من يقدمون دعماً كبيراً أو يشاركون في معاملات كبيرة مستوى مرتفعاً من عدم اليقين لدى المستثمرين المحتملين؛ إذ أشارت التوجيهات الرسمية إلى أن تقييم “أهمية” المعاملة يقوم على مجمل الحقائق والظروف، بما في ذلك حجم المعاملة وتكرارها وطبيعتها وسياقها التجاري. ويعني هذا المعيار التقديري أن المستثمرين لا يستطيعون بناء توقعات دقيقة حول ما إذا كانت مشاريعهم قد تُعرّضهم لعقوبات ثانوية، الأمر الذي يضيف عملياً علاوة مخاطر سياسية يصعب تسعيرها لأي استثمار يرتبط بسوريا.
وقد اتسمت هذه التقلبات بضرر بالغ على مشاريع البنية التحتية وإعادة الإعمار التي تتطلب تمويلاً متعدد السنوات، وعقود توريد طويلة الأجل، وتحالفات مقاولين دولية. فالمؤسسات المالية لا تستطيع، بطبيعتها، تمويل مشاريع قد يتغير وضعها التنظيمي في منتصف دورة التنفيذ بسبب قرارات سياسية خارجية للسلطة التنفيذية لا ترتبط بسلوك المستثمر ذاته. وبناء عليه، ظلت حتى رؤوس الأموال الأكثر استعداداً لتحمل المخاطر مترددة، رغم الاحتياجات الكبيرة لإعادة الإعمار المقدرة بنحو 216 مليار دولار.
ومع إلغاء العقوبات الثانوية، يتحول المشهد الاستثماري من إطار يغلب عليه الردع إلى إطار يقوم على العناية الواجبة. ويغدو بمقدور المستثمرين الأجانب هيكلة مشاريعهم على أساس فحص الكيانات، والتحقق من الامتثال القطاعي، وبناء ضمانات تعاقدية تتسق مع التدابير المستهدفة المتبقية، وتطبيق عناية واجبة على سلاسل التوريد. ويتيح ذلك تطوير هياكل تمويل للمشاريع تكون قابلة للتمويل المصرفي بمعايير مخاطر محددة، وهو شرط لازم لتعبئة رأس المال اللازم لإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي.
يُمكن النظر إلى رفع العقوبات الثانوية بوصفه تفكيكاً للآلية الأكثر تأثيراً في سلوك القطاع الخاص، أي الآلية التي وسّعت إنفاذ القانون الأميركي ليطول غير الأميركيين.
خاتمة
يمثل إلغاء العقوبات الثانوية لقانون قيصر انتقالاً نوعياً من الحظر الهيكلي إلى الامتثال القائم على المعاملة. ففي النظام السابق، واجهت الكيانات غير الأميركية خطر التعرض لعقوبات أميركية بسبب أي مشاركة جوهرية في الاقتصاد السوري، بما خلق بيئة امتثال كان فيها التجنب الكامل هو المسار الأكثر أمناً. وقد ترتب على ذلك انكماش واسع في الانكشاف، وقطع علاقات مراسلة مصرفية، وتجميد للاستثمار.
ويتيح الإلغاء استعادة تدريجية لعلاقات المراسلة المصرفية، وتمويل التجارة، وتدفقات التحويلات، والاستثمار في إعادة الإعمار، بشرط تطبيق عناية واجبة صارمة، وفحص دقيق للعقوبات، وإدارة مخاطر فعالة ومستمرة. وبذلك، يُمكن النظر إلى رفع العقوبات الثانوية بوصفه تفكيكاً للآلية الأكثر تأثيراً في سلوك القطاع الخاص، أي الآلية التي وسّعت إنفاذ القانون الأميركي ليطول غير الأميركيين، وخلقت أثراً مثبطاً واسع النطاق عطّل اندماج سوريا في النظام المالي العالمي.
المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى