
في الحروب القذرة، لا تكتفي القوى الكبرى باستخدام ترسانتها العسكرية والإعلامية، بل تلجأ إلى أدوات محلية تؤدي عنها الأدوار القذرة التي لا تريد أن تتحمل تبعاتها السياسية أو الأخلاقية. تصنع هذه القوى من بعض الأفراد والجماعات ميليشيات وعصابات وكيانات أمنية ميدانية تعمل كأذرع غير معلنة، تُنفّذ المهام الخفية، وتوفر الغطاء المحلي للغزو أو الاحتلال، ثم، وبمجرّد أن تنتهي المهمة، يُلقى بهؤلاء في سلة المهملات كما تُرمى المناديل الورقية بعد الاستعمال. هذه القاعدة الثابتة في الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية منذ عقود، تتجلى اليوم بوضوح في مصير عصابة “أبو شباب” في غزة، تلك المجموعة التي استخدمها الاحتلال الإسرائيلي كأداة ميدانية في لحظة الحرب، ثم تخلّى عنها بلا تردد عندما انتهت صلاحيتها وانكشف دورها.
وجاء التطوّر الأبرز اليوم حين أعلنت مصادر ميدانية في غزة عن اغتيال ياسر أبو شباب نفسه – قائد العصابة العميلة – في عملية نوعية نفذتها مجموعات مقاومة يُرجَّح أنها تابعة لحركة حماس. تمت العملية بعد سلسلة من الضربات التي تلقّاها أفراد العصابة، لتكون تصفية قائدها تتويجاً طبيعياً لمسار الانهيار الكامل للشبكة التي أنشأها الاحتلال وعمل لسنوات على تغذيتها بالمال والوعود الفارغة. إن مقتل أبو شباب يؤكد ما حاول البعض إنكاره: أن الاحتلال لا يحمي أدواته، وأن العملاء لا يملكون في النهاية سوى الهروب أو الموت، وأن المجتمع الذي خانوه لن ينسى لهم ما فعلوا .
لقد شكّلت مجموعة “أبو شباب” نموذجاً فاضحاً لهذا النمط: جرى تجنيدها وتشغيلها في مناطق النزوح والمناطق التي انسحبت منها المقاومة الفلسطينية، لتكون عيناً وآذناً للاحتلال على الأرض، ترصد تحركات المقاومين، تراقب الطرق، وتؤمن المعلومات الميدانية الدقيقة للجيش الإسرائيلي من دون أن يتحمل الأخير مسؤولية مباشرة. لقد أدوا له دور “شرطة ظل” تحاول تفكيك الجبهة الداخلية، تحت عناوين كاذبة من قبيل “ضبط الأمن” أو “تأمين الممرات الإنسانية”، بينما كانت مهمتهم الحقيقية هي تمهيد الطريق أمام الاحتلال لضرب المقاومة من الداخل. وبمجرد أن انكشفت أوراقهم وصدرت بحقهم أحكام المقاومة بوصفهم خونة، رفضت إسرائيل إجلاءهم أو تأمينهم، وتركتهم يواجهون مصيرهم المحتوم. فهؤلاء لم يعودوا ذوي قيمة سياسية أو عسكرية، وأصبح وجودهم عبئاً أكثر منه فائدة.
لقد أكدت الفترة الأخيرة مجدداً هذه القاعدة الثابتة، حين أقدمت أجهزة أمن المقاومة في غزة على تنفيذ أحكام الإعدام بحق عدد من المتعاونين مع الاحتلال الإسرائيلي، في مشهد أعاد إلى الأذهان مصائر كل من اختار الاصطفاف إلى جانب العدو ضد شعبه. ففي الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر 2025، نفذت المقاومة أحكاماً علنية بحق ثلاثة من العملاء الذين ثبت تورطهم في تقديم معلومات أمنية للاحتلال، وسط حضور شعبي كبير، كما كشفت مصادر أمنية عن ارتباط بعضهم بعصابة “أبو شباب” التي شكّلت ذراعاً ميدانية للاحتلال في رفح ومناطق أخرى. ولم يمض وقت طويل حتى تكرّر المشهد في الثالث عشر من تشرين الأول/أكتوبر، حيث أُعلن عن تصفية العشرات من أفراد العصابات المتعاونة في مدينة غزة، ومن بينهم مساعد بارز لياسر أبو شباب نفسه، في إطار حملة أمنية واسعة لإعادة ضبط الوضع الداخلي بعد وقف إطلاق النار. إن هذا المصير هو خاتمة طبيعية لكل من اختار خيانة شعبه والانخراط في خدمة العدو، تماماً كما حدث في سايغون وكابول وبغداد وغيرها، حين لفظهم الحليف المحتل أولاً، ثم لفظتهم شعوبهم ثانياً.
لكن هذه ليست حالة استثنائية، بل هي سلوك راسخ في تاريخ القوى الاستعمارية. الولايات المتحدة، منذ الحرب الباردة، استخدمت عشرات التنظيمات والجماعات المحلية في معاركها المفتوحة، ثم تخلّت عنهم بلا رحمة. في فيتنام الجنوبية خلال الستينيات والسبعينيات، اعتمدت واشنطن على ما كان يُعرف بـ “قوات الدفاع الشعبي” وعلى شبكة واسعة من العملاء المحليين الذين تعاونوا مع وكالة الاستخبارات المركزية ضمن برنامج “فينيكس” الشهير، وهو برنامج اغتيالات واختراق للمجتمع الفيتنامي المعادي للاحتلال الأميركي. وعندما انهارت سايغون عام 1975، كان المشهد الرمزي الخالد لمصير هؤلاء هو مشهد طوابير العملاء والمتعاونين المتشبثين بعجلات الطائرات المروحية على سطح السفارة الأميركية، في محاولة يائسة للهرب من جحيم الانتقام الشعبي. لم تُجلِ الولايات المتحدة إلا أعداداً محدودة جداً من كبار المتعاونين، تاركةً آلاف المترجمين والمخبرين وضباط الجيش العميل لمصيرهم. مَن نجا منهم لجأ إلى الأدغال أو اعتُقل أو أُعدم، ومَن لم ينجُ، دخل كتب التاريخ كشاهد على خذلان الحليف الأميركي.
وفي أفغانستان، تكرّر المشهد بصورة أكثر مأساوية بعد قرابة نصف قرن. خلال عقدين من الاحتلال الأميركي (2001–2021)، أنشأت الولايات المتحدة أجهزة أمنية وعسكرية محلية، ودعمت ميليشيات مثل “القوات الخاصة الأفغانية” و”الميليشيات المحلية” التي ارتبطت مباشرة بالقوات الأميركية عبر برامج تمويل وتسليح وتدريب. هؤلاء خاضوا معارك دموية ضد طالبان، وعمل آلاف المترجمين والمخبرين مع القوات الأميركية على الأرض. لكن عندما قررت واشنطن الانسحاب في صيف 2021، انكشفت الحقيقة القاسية: لم يكن لدى الحليف الأميركي أي خطة جدية لإجلاء عشرات الآلاف من المتعاونين. مشهد مطار كابول سيبقى محفوراً في الذاكرة الجمعية: رجال ونساء وأطفال يتدافعون على الأسوار، متشبثون بعجلات الطائرات العسكرية الأميركية، يسقطون من الجو بحثاً عن مخرج، فيما القوائم الأميركية لإجلاء “المتعاونين” لا تشمل إلا أعداداً محدودة من الموظفين الكبار أو الحاصلين على تأشيرات خاصة. أما الباقون، فقد تُركوا يواجهون طالبان وحدهم، رغم كل الوعود السابقة بالحماية واللجوء.
في العراق، كان السيناريو مختلفاً في التفاصيل لكنه مطابق في الجوهر. بعد الغزو الأميركي عام 2003، أنشأت واشنطن ما عُرف بـ “قوات الصحوة” بقيادة بعض شيوخ العشائر، خصوصاً في الأنبار، لمواجهة تنظيم القاعدة. وقدمت لهم الأموال والسلاح والدعم السياسي لتأمين المناطق السنية لصالح الاحتلال. هذه القوات بلغ عددها في ذروتها أكثر من 90 ألف عنصر، ولعبت دوراً حاسماً في الحد من نفوذ القاعدة، لكنها ما إن أدت وظيفتها حتى بدأ تفكيكها. أوقفت واشنطن التمويل، وتخلّت الحكومة العراقية الموالية لها عن دمج أغلبيتهم في الجيش أو الشرطة. آلاف منهم تعرضوا للاغتيال أو التهميش أو البطالة، ومنهم من اضطر لاحقاً للانضمام إلى جماعات أخرى بحثاً عن حماية أو رزق، ليصبحوا هدفاً مزدوجاً: مكروهين من المقاومة ومعزولين من قبل الحليف الأميركي. كذلك، جرى تشغيل آلاف المترجمين والسائقين والمخبرين مع الجيش الأميركي، لكن مع الانسحاب عام 2011، لم يُسمح إلا لقلة محدودة بالحصول على تأشيرات لجوء إلى الولايات المتحدة، بينما تُرك معظمهم في العراء ليواجهوا الانتقام أو العزلة الاجتماعية.
وفي الصومال، خلال تسعينيات القرن الماضي، دعمت الولايات المتحدة أمراء حرب محليين ضد الجبهة الوطنية الصومالية وضد المجموعات الإسلامية. شخصيات مثل محمد فارح عيديد، الذي كان في فترة معينة حليفاً ضمنياً للأميركيين، سرعان ما تحوّل إلى “عدو” بعد أن استُخدم في عمليات محددة. كذلك أنشئت ميليشيات موالية للولايات المتحدة في مقديشو ضمن عملية “إعادة الأمل” عام 1992، لكنها تفككت بسرعة بعد فشل التدخل الأميركي ومقتل جنود المارينز في “معركة مقديشو” عام 1993، لتُترك هذه المجموعات لمصيرها وسط فوضى الحرب الأهلية. لم تنظر واشنطن إلى هؤلاء كحلفاء دائمين، بل كمجرد أدوات ظرفية لمهام أمنية محددة، وعندما تبيّن فشل المهمة، أغلقت الملف وغادرت.
هذا النمط تكرر كذلك في أميركا اللاتينية وأفريقيا خلال الحرب الباردة، حيث دعمت واشنطن مجموعات شبه عسكرية وانقلابيين في نيكاراغوا وأنغولا والكونغو، ثم تخلّت عنهم عندما تغيرت مصالحها أو تبدلت أولوياتها. ومن أبرز الأمثلة دعمها لمقاتلي “الكونترا” في نيكاراغوا في الثمانينيات، الذين تلقوا تمويلاً وتسليحاً هائلاً لإسقاط حكومة الساندينيين. وما إن فشلت خطط إسقاط النظام، حتى تُرك كثير من هؤلاء في العراء، وتحوّل بعضهم إلى عصابات تهريب وقتل خارج السيطرة. وفي أنغولا، دعمت واشنطن حركة “يونيتا” بقيادة جوناس سافيمبي لسنوات، ثم قلّصت دعمها فجأة بعد نهاية الحرب الباردة، ليُقتل سافيمبي لاحقاً ويُترك أنصاره لمصيرهم في الحرب الأهلية.
إذا عدنا إلى غزة اليوم، فإن مصير عصابة “أبو شباب” ليس إلا حلقة جديدة في هذه السلسلة الطويلة. الاحتلال الإسرائيلي، على غرار الولايات المتحدة، لا ينظر إلى عملائه باعتبارهم شركاء أو حلفاء حقيقيين، بل كأدوات مؤقتة في لحظة حرب. هم بالنسبة له أوراق في لعبة أمنية، تُستخدم لتفكيك الجبهة الداخلية الفلسطينية وإرباك المقاومة، ثم تُرمى عندما تنتهي الحاجة. لذلك رفض الاحتلال إجلاءهم، ولم يفتح لهم ممرات، ولم يمنحهم حتى الحد الأدنى من الحماية، لأنهم ببساطة لم يعودوا مفيدين. من يتعاون مع الاحتلال أو الغزاة يظن أنه يؤمّن لنفسه حماية مستقبلية، لكنه في الحقيقة يوقّع بيده على نهايته، لأن حسابات القوى الكبرى لا تعرف الوفاء، بل تُدار بالبرودة والنفعية القصوى.
إن قصة “عصابة أبو شباب” تكشف هشاشة الرهان على العدو، وتفضح في الوقت ذاته براغماتية أميركا وإسرائيل في استخدام “العملاء”. فهؤلاء ليسوا شركاء في مشروع، بل مجرد قطع شطرنج تتحرك حين يقتضي الأمر، وتُلقى خارج الرقعة حين تنتهي اللعبة. ومن لا يتعظ من مشهد سايغون، ولا من مطار كابول، ولا من مصير الصحوات، ولا من أمراء الحرب في الصومال وأفريقيا وأميركا اللاتينية، فسيجد نفسه ذات يوم في موقف منبوذ لا وطن يحميه ولا سيد يتبناه. إنها قاعدة لا تتغير: أدوات تُستعمل ثم تُرمى، وتبقى الشعوب هي صاحبة الذاكرة التي لا تنسى ولا تغفر لمن خانها في لحظة الاختبار.


