من ميدان التحرير إلى نيويورك: تأملات تجربة لم تكتمل

أحمد ماهر

لم تكن متابعتي صعود زهران ممداني مجرد اهتمام عابر بشخصية سياسية جديدة في الولايات المتحدة، ولا بسبب أصوله الشرقية ووجوده في مصر في فترة الثورة. لكن ما أثارني حقاً، الإحساس الذي عاد إليّ فجأة، ذلك الخليط بين الدهشة والغبطة الذي شعرنا به نحن (جيل الملينيوم) عندما اكتشفنا، أول مرة، أن الأدوات التي نبتكرها يمكن أن تُحدث أثراً في العالم. تذكّرت أحداثاً عديدة، حين رأيت كيف اعتمد ممداني على الشباب وجيل زد، وعلى شبكات العمل الأفقي واللامركزية، شعرتُ كما لو أن أجزاءً من قصتنا تعود لتطلّ برأسها من نافذة أخرى، في بلد آخر أكثر رحابة.
من نقاط التشابه أن تجربتنا أيضاً منذ 15 عاماً لم تخرُج من رحم الأيديولوجيا الثقيلة التي تشبّعت بها أجيال ما قبلنا. فمنذ البداية، كنا نحاول تجاوز الجدل العقيم بين اليسار واليمين، بين الإسلاميين والقوميين، بين ميراث الحرب الباردة ولغة السبعينيات، نحاول التعامل مع الواقع مباشرة بلا وسائط متخشّبة، وكنا نؤمن بقدرة التكنولوجيا على تغيير قواعد اللعبة، وقتها سخر منا بعض رموز المعارضة، وقالوا إن الجماهير لا يمكن أن تتحرك من خلال الدعوات على “فيسبوك” ووسائل التواصل الاجتماعي، فالجماهير، طبقاً لتجربتها، لا تستثار دون خطاب إيديولوجي أو دون مطبوعات وتحرّكات على الأرض، ولذلك حين ينجح سياسي أميركي اليوم في تسخير الأدوات ذاتها (الإعلام الرقمي، الأساليب الشبكية، الحشد غير الهرمي)، أشعر أن التجربة انتقلت إلى مكان آخر يملك شروط الحياة.
وبالطبع، يظل الفارق بين البيئتين صارخاً وجوهرياً. ففيما يستطيع ممداني أن يصعد من الهامش إلى مركز المشهد، ويجبر حتى رئيساً يمينيّاً، مثل ترامب، على احترامه، فيما يحصل، في بلادنا العربية، الإجهاض المبكر لأي محاولة لبروز سياسي مستقل، لا يحتاج الأمر إلا إلى التفاف الناس حول اسم جديد أو تزايد شعبية محدودة، حتى تبدأ المضايقات التي قد تنتهي بما لا تُحمد عقباه.
أصبحت السلطة المركزية تتحكّم حتى في تفاصيل الحياة اليومية، وأصبحت الكفاءة هامشاً والولاء شرطاً
لذلك، كان مشهد المصافحة الهادئة بينهما، على الرغم من التوتر السابق، بالغ الدلالة، كل طرف يعرف حجمه، ويعرف أن الصدام المباشر قد يكلّفه الكثير. يدرك ترامب أن هناك كتلة وازنة انتخبت ممداني ويجب احترامها، وممداني يدرك أن الاستمرار في التحدّي المفتوح قد يؤثر بمصالح سكان نيويورك الذين صوّتوا له. السياسة هناك لعبة موازين، وليست لعبة إقصاء.
عدت بذاكرتي إلى عام 2011، عندما قابلت مجموعات احتجاجية أميركية ذات مطالب اشتراكية ديمقراطية، تتحدث عن تقليل الضرائب والمستقطعات، سرعان ما انضمّت تلك المجموعات إلى حركة occupy wall street (احتلوا وول ستريت)، التي صرّحت في 2012 بأنها تستلهم تكتيكات شباب الثورة المصرية في تحرّكاتها ضد النظام الرأسمالي، كانت تلك واحدة من المرّات التي شعرنا فيها بأن ما نقوم به يتجاوز حدود القاهرة، وأن التغيير ممكن إذا تلاقت موجات صغيرة من أماكن مختلفة، حلم شبكة عالمية من الحركات الشبابية تتقاطع عبر القيم، لا عبر الحكومات، أحسستُ بسعادةٍ، عندما علمت أن هذه المجموعات كانت داعمة حملة ممداني، وقبل ذلك كانت داعمة للسيناتور بيرني ساندرز في حملته الرئاسية عام 2016.
لكن الواقع سرعان ما أعادنا إلى حدودنا الضيقة، أتذكّر جلسات لجنة صياغة الدستور المصري في 2012، حين حاول بعضنا الدفع نحو فكرة الحكم المحلي واللامركزية، كما كنّا نطالب قبل الثورات العربية. أن يكون المحافظ ورئيس الحي منتخبين، وتكون هناك مساءلة حقيقية لمسؤول السلطة المحلية المنتخب، لكن الرد جاء قاطعاً من عديد من قيادات جماعة الإخوان المسلمين (ذات الأغلبية المطلقة في لجنة صياغة الدستور) بأن هذه رومانسية سياسية، وقيل لنا إن انتخاب المحافظ قد يخلق “توجهاً منافساً” للرئيس، كانت تلك اللحظة، وربما لأول مرة، تيقنت أن الحفاظ على المركزية الراسخة سيكون هدف كل من يصل إلى السلطة في بلادنا.
صحيحٌ أن تجربة ممداني تثير شيئاً من الشجن، ولكن شيئاً من الأمل أيضاً، فهو سياسيٌّ يصعد من خارج الأطر التقليدية
وما تلا ذلك أثبت صحّة هذا الانطباع، فلا الإخوان المسلمون تخلّوا عن فكرة مركزية الدولة، ولا سلطة ما بعد يوليو 2013 كانت أكثر انفتاحاً. بالعكس، أصبحت السلطة المركزية تتحكّم حتى في تفاصيل الحياة اليومية، وأصبحت الكفاءة هامشاً والولاء شرطاً، والمجال العام مساحة محاطة بالأسلاك. أما الانتخابات، فتحوّلت إلى طقوس إجرائية وشكلية تُقام فقط لطمأنة الخارج بأن البلاد لا تزال “ضمن النظام العالمي”.
وهكذا، صار عزوف الشباب أمراً طبيعياً ومنطقياً، خصوصاً مع الانطباع بأن النتيجة محسومة، وأن الانتخابات سابقة التجهيز، تُدار بالمال السياسي وتُحسم عبر شبكات مصالح وجوائز ورشى انتخابية للفقراء. رغم ذلك، نحاول، في كل دورة، دعم القلة الجريئة التي لا تزال تُحسب على قيم ثورة يناير، يسعون وسط الناس بأقل الإمكانات، رغم أن قواعد اللعبة صارت تكافئ من يدفع أكثر، لا من يحمل برنامجاً أو رؤية. وفي وسط هذا المشهد البائس، تثير تجربة ممداني شيئاً أكبر من مجرّد المقارنة، إنها تُعيد طرح سؤال: هل كانت مشكلتنا في الحلم أم في المكان الذي حاولنا أن نحلم فيه؟ وكيف تحولت أحلامنا البسيطة في الديمقراطية والحكم الرشيد ونظام عادل للجميع إلى مجرّد محاولات للنجاة الفردية؟ كيف أصبح أكبر إنجاز لدى بعضهم أن يمرّ يومه من دون أن يطاوله البطش والقمع؟
صحيحٌ أن تجربة ممداني تثير شيئاً من الشجن، ولكن شيئاً من الأمل أيضاً، فهو سياسيٌّ يصعد من خارج الأطر التقليدية، وهاجر إلى مكان آخر، وجد فيه فرصة للحياة ومجتمعاً يمنحه فرصة، حتى لو كانت مشروطةً ومليئةً بالخصومات. … أتساءل عمّا لو كانت تجربتنا ستأخذ مساراً آخر، لو توفرت لنا نصف هذه المساحة فقط، هذا أقرب إلى شعور مزدوج بين حزنٍ على ما ضاع وأمل بأن ما حاولنا بناءه لم يُدفن، وأن الأحلام لا تموت، لكنها تغيّر عنوانها أو تبعث من تحت الركام.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى