“ردع العدوان”.. ساعات الانطلاق الأولى التي غيّرت المشهد في سوريا

سعيد اليوسف

عندما دقّت عقارب الساعة فجر يوم الأربعاء (27 تشرين الثاني 2024)، كانت جبهة شمال غربي سوريا على موعد مع لحظة مفصلية أنهت أربع سنوات من الجمود فرضته اتفاقية “خفض التصعيد”، عام 2020.
ففي ذلك الفجر، لم تبدُ عملية “ردع العدوان” كاشتباك محدود أو مناوشة اعتيادية، بل اتّضحت سريعاً بوصفها تحوّلاً عسكرياً أعاد خلط أوراق المشهد الميداني في سوريا، منذ ساعاتها الأولى.
ولم يتوقف أثر العملية عند حدودها الميدانية، إذ شكّلت أوّل اختراق نوعي للجبهة منذ أربع سنوات، وأعادت إحياء مسارٍ ظنّت بعض الأطراف الإقليمية والدولية أنه طُوي مع محاولات العديد من الدول، قبل أشهر، إعادة تعويم “الأسد”.
وخلال الساعات الممتدة من فجر اليوم الأوّل للمعركة حتى ليلته، شهدت المنطقة أكثر مراحلها حساسية وحسماً، إذ انهارت الخطوط الدفاعية للنظام على نحو متسارع، وتبدّلت خريطة السيطرة في مشهد غير مسبوق، منذ عام 2011، ووضعت عملياً اللبنة الأولى في مسارٍ انتهى بسقوط “الأسد”، بعد 12 يوماً فقط.
قراءة الساعات الـ24 الأولى، تُظهر أن زخم البداية كان عاملاً حاسماً في مسار المعركة، وأن سرعة انهيار قوات نظام الأسد -المدجّجة بعشرات الميليشيات الطائفية- ارتبطت أيضاً بتوقيت انطلاق المعركة، الذي جاء بعد ساعات من دخول وقف إطلاق النار بين الاحتلال الإسرائيلي و”حزب الله” في لبنان حيّز التنفيذ، عقب ضربةٍ قاصمة للظهر استهدفت قيادات الحزب في الضاحية الجنوبية، وقيادات “الحرس الثوري” الإيراني في طهران.
فجر 27 تشرين الثاني.. محور ريف حلب الغربي
مع الساعات الأولى من فجر الـ(27-11-2024)، شنّت فصائل “إدارة العمليات العسكرية” بقيادة “هيئة تحرير الشام” هجوماً واسعاً انطلق من بلدة قبتان الجبل في ريف حلب الغربي.
و”إدارة العمليات العسكرية” اسم لم يكن معروفاً سابقاً، وغالباً هو الاسم الجديد لـ”غرفة عمليات الفتح المبين”، وأُشير إلى انضوائها ضمن “القيادة العامة”، التي أعلنتها “هيئة تحرير الشام”، وتتشكّل الإدارة من:
هيئة تحرير الشام بقيادة “أبو محمد الجولاني” (الرئيس أحمد الشرع حالياً)، وهي من تقود إدارة العمليات العسكرية ومعركة “ردع العدوان”.
حركة أحرار الشام في إدلب بقيادة عامر الشيخ.
فصائل الجبهة الوطنية للتحرير، وهي مظلة لفصائل الجيش السوري الحر المتبقية في إدلب، والمنضوية تنظيميّاً في الجيش الوطني السوري، أبرزها: (فيلق الشام، صقور الشام، كتائب نور الدين الزنكي، الفرقة الوسطى).
مجموعات إسلامية-جهادية، أبرزها: (الحزب الإسلامي التركستاني، أنصار التوحيد).
فصائل الجيش الوطني السوري في ريف حلب، والتي أطلقت لاحقاً معركة “فجر الحرية” لاستعادة مناطق تسيطر عليها “قسد”، ولا سيما منبج وتل رفعت ومطار منغ العسكري.
في تلك اللحظات، التي ستنكشف أبعادها تباعاً خلال الأيام التالية، أعلنت “إدارة العمليات العسكرية” رسمياً، انطلاق معركة “ردع العدوان”، والتي وُصفت بأنها معركة وجود، هدفها المعلن تنفيذ “ضربة استباقية” ضد قوات نظام الأسد والدفاع عن ملايين المدنيين، وسط تصاعد التهديدات العسكرية من قبل النظام وميليشياته.
وعند الساعة الواحدة ظهراً، خرج الناطق باسم “إدارة العمليات العسكرية” حسن عبد الغني، مؤكداً أنّ المعركة “ليست خياراً بل واجباً”، وأنّها جاءت لحماية الأهالي من اعتداءات عصابات الأسد وميليشيات إيران، موجهاً رسالة واضحة لهم: “لن نسمح لكم بتحقيق أهدافكم، ولتعلموا أن معركة الحق قد بدأت”.
وبحسب مصادر عسكرية لـ موقع تلفزيون سوريا، نُفذ الهجوم بعدة آلاف من المقاتلين، مع دعم مدفعي واستخدام مسيّرات “شاهين” محلية الصنع، في أوّل إعلان رسمي عن استخدامها في المعارك، حيث لعبت دوراً حاسماً في مسار المعركة.
كذلك، استخدمت الفصائل مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، إلى جانب قناصات بعضها محلي الصنع، كما شاركت لاحقاً “سرايا القتال الليلي” المجهزة لعمليات ومعارك ليلية.
وخلال ساعات، استهدفت فصائل “ردع العدوان”، مراكز اتصالات ميدانية وغرف عمليات فرعية ونقاط مراقبة حول “الفوج 46″، كما قطعت طرق الإمداد بين دارة عزة وجبل سمعان، ما شلّّ حركة النظام.
“تقدم خاطف.. ست ساعات قلبت الخريطة”
بعد ساعات من انطلاق معركة “ردع العدوان”، تبدّلت خريطة السيطرة بسرعة هائلة، إذ تمكّنت الفصائل من السيطرة على بلدات وقرى (أورم الكبرى، أورم الصغرى، الشيخ عقيل، تقاد، السحارة، بشقاتين)، إضافة إلى أجزاء من محيط “الفوج 46” في منطقة الأتارب.
وبحلول ظهر يوم الـ27، بدأت قوات نظام الأسد تنسحب من مواقع يُفترض أنها حصينة، وسط فرار مجموعات من ميليشيا “الدفاع الوطني”، وفقدان الاتصال بين الحواجز، وانتقال ضباط إلى مواقع خلفية من دون أوامر واضحة.
وحين حاول نظام الأسد إرسال تعزيزات من الأكاديمية العسكرية في مدينة حلب، لم تصل تلك القوات إلى خطوط التماس بعد قطع طرق الريف الغربي، ما دفع مئات العناصر إلى الفرار، تحت ضربات الفصائل ومسيّراتها.
ومع تصاعد القصف الروسي وقصف النظام بالصواريخ والقذائف والقنابل العنقودية، ووقوع ضحايا مدنيين، بينهم نساء وأطفال، نزحت مئات العائلات من ريفي حلب الغربي وإدلب الشرقي، في حين ظلّ تقدّم الفصائل نحو مشارف مدينة حلب مستمراً.
“خريطة السيطرة خلال 24 ساعة”
عند الساعة الـ12 ليلاً، وثّق الرصد الميداني أكبر تغيّر جغرافي في سوريا، منذ معارك 2015، حيث سيطرت فصائل “ردع العدوان” على مساحة تقدّر بنحو 140 كليومتراً في محيط مدينة حلب، بعد سيطرتها على أكثر من 30 نقطة بين حاجز وموقع وبلدة وقطعة عسكرية، فضلاً عن انهيار أوّل عقدة عسكرية مهمة هي “الفوج 46″، مفتاح السيطرة على كامل ريف حلب الغربي.
والبلدات التي سيطرت عليها الفصائل في ريف حلب الغربي هي: (قبتان الجبل، عينجارة، الشيخ عقيل، أورم الكبرى، أورم الصغرى، بالا، حير دركل، السلوم، جمعية المعري، القاسمية، كفربسين، حور، عاجل، الهوتة، جمعية السعدية).
وقد قُتل خلال ذلك أكثر من 15 ضابطاً وعنصراً -وفق إعلام النظام- كما أسرت الفصائل نحو 20 عنصراً من قوات النظام، بينهم اثنان من الميليشيات الإيرانية، واستولت على خمس دبابات وعربة “BMP”، ومستودع صواريخ “كورنيت”، في حين قضى أوّل مقاتل من فصائل “ردع العدوان”، وهو الشاب (محمد معتوق)، ابن مدينة قطنا في ريف دمشق.
ومع هذا الانهيار، فقد النظام القدرة على شن أي هجوم مضاد، إلّا أنّه ردّ بقصفٍ جوي مكثّف على ريفي حلب الغربي، كما استهدف مناطق متفرّقة من ريف إدلب، في أوّل خرق كبير منذ اتفاق وقف إطلاق النار بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، عام 2020.
ومع ساعات المساء الأولى، كانت فصائل “ردع العدوان” تضع نصب عينيها هدفين رئيسيين، يشكّلان خطراً وجودياً على نظام الأسد:
الوصول إلى مدينة حلب: حيث بات المقاتلون على مسافة قريبة من الأحياء الغربية لمدينة حلب، ما أجبر النظام على سحب جزء من قواته لإعادة التموضع والدفاع عن مركز المدينة.
قطع طريق M5 الدولي (حلب-دمشق): بدأت العمليات تتوجه نحو المواقع التي تسمح بالسيطرة النارية على هذا الشريان الحيوي، تمهيداً لقطعه بشكل كامل، وهو ما تحقّق لاحقاً في اليوم الثاني من العملية.
الـ24 ساعة الأولى من المعركة، أكّدت أنّ الطريق إلى السيطرة على مدينة حلب فُتح تماماً، وأن دفاعات النظام ضعيفة وجميع إمداداته باتت مقطوعة، وقواته في حالة تخبّط تبحث عن مخرج للفرار فقط، خاصّةً بعد أنّ تغيّر المشهد العسكري جذرياً، حيث لم يعد الهجوم مجرّد “ردع”، بل تحوّل إلى اختراق واسع قلب كلّ الموازين.
انعكاسات اليوم الأول.. بداية النهاية
بين فجر 27 تشرين الثاني 2024 وليله، بدا أن نظام الأسد دخل معركة لم يستعدّ لها، أمام خصمٍ أتقن التخطيط واستثمار عنصر المفاجأة، فخلال ساعات قليلة انهارت دفاعاته، وارتبكت قياداته، وتبدّلت خريطة السيطرة، بينما حقّقت “إدارة العمليات العسكرية” تقدّماً واسعاً وطرقت أبواب حلب في يوم واحد.
كانت الساعات الـ24 الأولى لحظة انعطاف حاسمة، انتقل فيها المشهد السوري من ركودٍ طويل إلى هزّة سياسية وعسكرية قلبت الموازين وفتحت العدّ التنازلي لنهاية حقبة “الأسد”، وهكذا تحوّل ذلك اليوم إلى مفصل تاريخي، استكملت نتائجه في اليوم الـ12 (8 كانون الأول 2024)، حيث سقط “الأسد” وتحرّرت سوريا.
المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى