
بينما احتفلت قنوات إعلام السلطة في العراق، منذ 9 نوفمبر/ تشرين الأول الجاري، بما تسميه العرس الانتخابي الذي ينتظر العراق، وباحترام الديمقراطية وخيار صناديق الاقتراع، وينبري أتباع أحزاب العملية السياسية بترديد ذلك في القنوات الإعلامية في مواجهة من يفكك هذه الادّعاءات، بينما يحدث هذا، تفضح الفيديوهات التي صُوّرت في أنحاء مدينة بغداد وفي البصرة والموصل ومدن أخرى من مدن العراق وشهادات العراقيين أنفسهم خلو مراكز الاقتراع من الناخبين وقلة أعداد المشاركين في عشرات المراكز، وهو ما أكده أيضاً مراسلو قنوات عربية حضرت لتغطية هذا الحدث. فيما نشرت مفوضية الانتخابات بعد التصويت نسبة لرقم المشاركة وهو 56%، فنّده العراقيون بطريقة حسابية معتمدين على أعداد المصوّتين والمحدثين لبطاقاتهم الانتخابية، ليجدوا أن النسبة 30% حسب المفوضية نفسها في بياناتها. وليس هذا الرقم ليفضح الشعب العراقي واحدة من أكاذيب العملية الانتخابية. كما لوحظ حصول الحزب الديمقراطي الكردستاني على أكثر من مليون صوت، وتساوي حصته من المقاعد مع كتل حصلت على النصف من هذه الأصوات أو أقل منها، من دون أن يُقدم تفسير رسمي من المفوضية لهذا الأمر.
لم تبد هذه الانتخابات، التي جرى الاحتفاء بها عرساً انتخابياً، أي اختلاف عن سابقاتها الخمس منذ غزو العراق، فرغم مرور أكثر من عقدين، وبدلاً من أن تتطور هذه العملية في اتجاه صحيح مقبول شعبياً، وإلى النضج الديمقراطي والوطني، وفسح مجال التنافس لأحزاب أخرى من خارج العملية السياسية، تعطي المجال لمشاركة شعبية أكبر، كي يشعر المواطن أنه يذهب فعلاً إلى انتخابات ديمقراطية، بل رسّخت من جديد، وبقوة قرار الحاكم المدني، بول بريمر، الذي جاء بصيغة حكم طائفية وعرقية يقسّم فيها الحكم بين الشيعة والسنّة والأكراد. لذا، شدّدت أحزاب العملية السياسية، مع السنوات، وفق ذلك، قبضتها على المشهد السياسي، حتى قيام ثورة تشرين 2019 التي تمكنت من كسر هذا النظام وإحداث شرخ للدخول، حيث نجح ثوارها عام 2021 من فرض قانون جديد للانتخابات، وتأسيس أحزاب مدنية شابة خاضت الانتخابات، ووصلت إلى البرلمان. وفي أول فرصة سنحت للأحزاب المهيمنة، كما انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أعادت هذه الانتخابات وفق قانون الانتخاب السابق المناسب لها ولسيطرتها الكاملة على المشهد السياسي لتمنع وصول دماء جديدة إلى العملية السياسية، ولتتخلص من إرث “تشرين” الذي هدّد وجودها، ونافسها في برنامج حقيقي للعراق، ولتأسيس وبناء دولة ديمقراطية التفّ حوله غالبية الشعب العراقي أول مرة منذ احتلال العراق، لكن السلطة، ومعها الأحزاب والمليشيات والمال، كانت بالمرصاد لهؤلاء الشباب والشابات، لمنعهم من تحقيق آمالهم في وطن مستقل مزدهر.
السلطة، ومعها الأحزاب والمليشيات والمال، كانت بالمرصاد للشباب والشابات، لمنعهم من تحقيق آمالهم في وطن مستقل مزدهر
من جديد سيطرت الكتلة الكبرى على مقادير البرلمان في أغلبية مريحة، 187 مقعداً، يعود مائة منها إلى مقلدي المرشد الإيراني على خامنئي، بحسب مصادر أميركية تراقب الانتخابات، في عملية إيرانية جديدة لسيطرة أكبر على البرلمان ولتفادي أي تفكك قادم، وربما حتمي لـ”الإطار التنسيقي” الذي بدأ يفقد بريقه الطائفي وشعبيته، ولمواجهة الأحداث المقبلة في المنطقة.
تتنافس الأحزاب في الديمقراطيات على أساس برامج كاملة تقدمها للشعب وفق مطالبه، لكن انتخابات العراق جرت من دون برامج، وهو ما يراه أعضاؤها طبيعياً جداً، ومن دون حياء من الشعب العراقي الذي سئم أكاذيب هذه الفئة بكل طوائفها، معللين ذلك من شاشات القنوات، بأن البلاد ما زالت في ديمقراطية ناشئة. وبدل تقديم برامج لإقناع العراقيين المقاطعين بالملايين للذهاب إلى الانتخابات، عادت أحزاب المنطقة الخضراء في 2025 إلى استخدام النبرة الطائفية والعشائرية والمصلحية التي تتوجه إلى أسوأ الغرائز الإنسانية، متعاملة مع الشعب العراقي بطريقة سيئة يرفضها، وهو الذي فهم اللعبة منذ وقت طويل، في انتظار أن يعاد بناء وطنه وتلبية حاجاته الأساسية من الماء والكهرباء والعمل والصحة المفقودة، إذ أطلق أحد العمائم الطائفية من زبائن دولة القانون من المنبر جملة تحريضية تستحق السجن “لا نريد رؤية عبد الزهرة يخدم عمر”، أو تصريح معمّم آخر قوله “يد صاحب العصر والزمان كانت حاضرة في أجواء الانتخابات”، بينما زايد محمد الحلبوسي بشعار “نحن أمة”، ومعه ثلة من تجار العملية السياسية السمان من نهب المال العام من دون حساب. ويصرّح آخر أن الشعب العراقي يُشترى “بعلبة طعام رخيصة”، متناسين أن هذا الشعب عزلهم ولم يعد يعبأ بهم ولا يحترمهم، حينما رفعوا ضدهم أجمل شعارات ثورة تشرين، بسبب تدميرهم البلاد والعباد.
تردّد أن هذه الانتخابات كانت الأكثر زبائنية من سابقاتها، وتراوح سعر الانتخاب من خمسين ألف دينار إلى 250 ألفاً، ووصل بعضها إلى مليون دينار. ونشرت مواقع التواصل الاجتماعي فضائح مرشّحين اشتروا أصواتاً ولم يدفعوا لمن انتخبهم، فتجمع هؤلاء للمطالبة بثمن التصويت أمام مكتبي النائبين، بهاء الأعرجي ومحسن علي أكبر نامندار المندلاوي.
عودة الوجوه التي جُرّبت منذ 22 عاماً، وفشلت في تلبية أبسط احتياجات الشعب العراقي الأساسية في الكهرباء والماء والصحة والعمل كارثة
رغم أن العملية الانتخابية، كما تقول المفوضية، قد جرت بسلاسة، فذلك حصل بسبب المقاطعة الواسعة، لكن الخروق عدّت بالمئات، وصوّر عراقيون فيديوهات عن التزوير في مراكز عديدة، ومن انتشار الكلام علناً لاستخدام المال العام فيها، الأمر الذي دعا رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، إلى الانسحاب من السباق الانتخابي، وتصريحه باستخدام المال بشكل استثنائي هذه المرّة. والغريب عدم وجود أي دور للمحكمة العليا لمحاسبة من اقترف هذه المخالفات، ولا أي دور لا للمفوضية ولا للمحكمة للنظر في قبول مرشّحين حكمت عليهم المحكمة سابقاً بالتزوير، كما في حالة محمد الحلبوسي الذي أقيل من رئاسة مجلس النواب بهذه التهمة. ويبدو أن تفاهماً جرى بينه وبين المالكي، ليعود إلى الترشّح مقابل إعطاء منصب لمقرب المالكي؟
لقد حكمت محكمة الجزاء الفرنسية، أخيراً، بحبس الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، بتهمة تمويل خارجي لحملته الانتخابية، وتهمة تلاعب ورشوة مع مقرّبين له في القضية نفسها، فأين المحكمة العليا العراقية من كل ما يحصل بشكل غير قانوني في الانتخابات، ولماذا لا يفعّل رئيسها فائق زيدان القوانين لاستدعاء الجناة، أم إنه يتحرك فقط للدفاع عن الإطار التنسيقي والمليشيات الولائية؟
عودة الوجوه التي جُرّبت منذ 22 عاماً، وفشلت في تلبية أبسط احتياجات الشعب العراقي الأساسية في الكهرباء والماء والصحة والعمل كارثة، لن تنقذ العراق من القهر والألم الذي يعيشه شعبه بسبب التدهور المستمر للبلد، مع استمرار الشحن والتقسيم الطائفي الذي يجذّر الفتنة، وينشر سياسات وممارسات متطرّفة بدائية متخلفة عفا عليها الزمن، ترفضها غالبية الشعب العراقي، بدليل المقاطعة الواسعة منذ عدة دورات انتخابية. عودة هذه المنظومة هو استمرار الطريق المسدود لسياسات تمنع نهوض العراق وإعادة بنائه، كما يطمح شعبه المعروف بالبناء والإبداع وتطلعه بمضاهاة التطور العالمي. لقد حُبس الشعب العراقي خلال عقدين من “الإطار التنسيقي” وأحزاب العملية السياسية الفاسدة في سجن دكتاتورية الطائفة الكبرى ووهم العقيدة الأصلح، متوهمين أنهم سيتمكّنون من تحقيق أهدافهم وكسر شوكة العراق وإخضاعه وإذلاله إلى الأبد لولاية الفقيه، لكن تاريخ العراق الحديث شاهد على عناد هذا الشعب الذي لن يتأخّر في محن كهذه من كسر سلاسل العبودية والقهر.
المصدر: العربي الجديد






