
شهدت سوريا خلال الأسابيع الأخيرة واحدة من أكثر اللحظات وجعًا منذ سقوط النظام السابق في عام 2024. حين نشرت بعض المنصات الاخبارية السورية وصفحات ناشطين وناشطات على وسائل التواصل الاجتماعي صورا لسجلات طبية قيل إنها مسرّبة من مشفى المجتهد بدمشق، تضم قوائم بأسماء معتقلين ومعتقلات ومفقودين ومفقودات قضوا في سجون النظام السابق، عمّ البلاد شعور متناقض بين الأمل والصدمة. أملٌ بمعرفة مصير الأحبّة بعد سنوات من الغياب، وصدمةٌ من الطريقة التي طُرحت بها الوثائق، بلا إطار قانوني أو مراعاة لكرامة الضحايا أو لعائلاتهن وعائلاتهم.
لكن ما جعل المشهد أكثر قسوة لم يكن فقط ما نشرته المنصات الإعلامية، بل غياب ردّ فعل مسؤول من الحكومة الجديدة التي ورثت دولة مدمّرة وذاكرة مثقلة بالدم، واختارت – حتى الآن – الصمت على جرح لا يمكن تجاهله. فمن تسريبات الناشطين إلى السلطة الجديدة، بدا المشهد السوري وكأنه يعيد إنتاج المأساة نفسها: الكشف بلا مساءلة، والتوثيق بلا حماية، والذاكرة بلا عدالة.
التسريبات الاعلامية.. من النية الى الكارثة
النية المعلنة من تسريب الوثائق كانت “إكرامًا للضحايا” و“حق العائلات في المعرفة”. لكن النتيجة كانت انفجارًا في الألم الجماعي، إذ وجد آلاف السوريين والسوريات أنفسهم يغوصون في قوائم الموت، يقلبون الأوراق الرقمية كما لو أنهم يبحثون عن أحبّتهم بين القبور. لقد تحوّل النشر إلى صدمة ثانية بعد سنوات من الصمت والانتظار، حيث تلقّى كثيرون خبر وفاة من يحبون عبر شاشة هاتف، بلا سياق رسمي, وبلا دعم نفسي، وبلا كلمة عزاء.
في لحظة واحدة، أصبح كل بيت سوري يعيش الحداد من جديد، دون أن يعرف ما إذا كانت الوثائق حقيقية أم مجتزأة أم مزيّفة جزئيًا. النية قد تكون نبيلة، لكن الطريقة كانت كارثية. فنشر بيانات شخصية بهذا الشكل العلني – من دون تحقق أو إذن أو إشراف حقوقي – هو انتهاك جديد للكرامة الإنسانية، حتى وإن كان بدافع التعاطف. الضحايا ليسوا مجرد أسماء على دفاتر، بل قصص وأحلام ووجوه، ولكل منهم ولكل منهن حق في أن يُذكَر أو تُذكَر بطريقة تحفظ إنسانيته وإنسانيتها
البعد الحقوقي: التوثيق بلا معايير خطر على العدالة
القانون الدولي الإنساني يفرض قواعد صارمة في التعامل مع بيانات المفقودين والمفقودات، منها حفظها في قواعد مؤمنة والتواصل مع العائلات بشكل مباشر قبل أي إعلان علني. أما نشرها بشكل مفتوح فهو يعرّض العائلات للضرر النفسي، ويضعف القيمة القانونية للوثائق التي يمكن أن تُستخدم لاحقًا كأدلة في محاكم العدالة الانتقالية. بذلك يتحوّل النشر العشوائي إلى فوضى توثيقية تضرّ بقضية العدالة أكثر مما تخدمها. فالعدالة لا تُبنى على الألم المكشوف، بل على الحقيقة المنظّمة والمسؤولة. وهنا تتقاطع المسؤوليات: مسؤولية الإعلام الذي نشر دون ضوابط، ومسؤولية الدولة التي صمتت بينما تُنتهك ذاكرة ضحاياها أمام أعينها.
سقوط النظام لا يعني سقوط المسؤولية
في عام 2024، سقط النظام الذي حوّل البلاد إلى مقبرة جماعية. لكن سقوطه لم يُنهِ المعاناة، ولم يُغلق الملفات، بل كشف مدى عمقها. فكل وثيقة تُنشر اليوم، وكل اسم يظهر على ورقة قديمة، هو شاهد على جريمة، وعلى فشل مستمر في تحقيق العدالة حتى بعد التغيير السياسي. الحكومة الجديدة ورثت هذا الإرث، ومعه التزام قانوني وأخلاقي لا يمكن تجاهله. هي مسؤولة عن حماية الأدلة، فتح الأرشيف الوطني، محاسبة المتورطين في الجرائم، وتقديم الحقيقة لعائلات المفقودين والمفقودات بكرامة واحترام.
أيّ تأخير في هذه الخطوات هو شكل من أشكال التواطؤ بالصمت. فالسلطة التي تتجاهل الماضي لا تختلف كثيرًا عن التي صنعته حتى وإن تغيّر خطابها أو علمها أو وجوهها
الحكومة الجديدة.. بين الخوف من الحقيقة والخوف من المسؤولية
منذ نشر الوثائق، لم تصدر عن الحكومة أي مبادرة رسمية للتحقق منها أو تنظيم طريقة التعامل معها. لا لجنة مستقلة، ولا بيان توضيحي، ولا خطة وطنية لملف المفقودين. وكأنّ الدولة قررت أن تترك الشعب يواجه ذاكرته وحده، بينما تراقب من بعيد. هذا الصمت ليس حيادًا. إنه موقف سياسي يعكس تردد السلطة الجديدة في مواجهة جرائم الماضي، خوفًا من تفجير ألغام سياسية أو كشف أسماء شخصيات ما زالت فاعلة داخل مؤسساتها. لكن الخوف من الحقيقة هو نقيض الدولة الديمقراطية التي وعدت بها الثورة. ولا يمكن بناء نظام جديد على أساس المواربة والتبرير والسكوت. إذا كانت الحكومة جادة في القطع مع ممارسات النظام السابق، فعليها أن تُثبت ذلك بالفعل لا بالبيانات. وعليها أن تعلن بوضوح أنها ستفتح كل الأرشيفات الطبية والأمنية والقضائية أمام لجان مستقلة، وأنها ستحاسب كل من شارك أو تستر أو استفاد من منظومة القمع القديمة. من دون هذه الخطوات، فإن “سقوط النظام” سيبقى سقوطًا في الشكل لا في الجوهر.
الإعلام بين البطولة والفوضى
الصحافة السورية، المعارضة منها والجديدة، تواجه اليوم امتحانًا عسيرًا. فمن جهة، هي مطالبة بكشف الحقيقة، ومن جهة أخرى بتحمل مسؤولية الطريقة التي تكشف بها هذه الحقيقة. السبق الصحفي لا يُبرر تعريض آلاف العائلات لصدمات جديدة، ولا يبرر تجاوز المعايير الحقوقية والمهنية. الإعلام الحرّ لا يعني نشر كل شيء فورًا، بل اختيار الطريقة التي تحمي الإنسان قبل أن تُرضي القارئ. لكن مهما يكن من أمر الإعلام، فالمسؤولية الأولى تبقى على عاتق الدولة، التي يجب أن تضع إطارًا قانونيًا لحماية البيانات الحساسة، وتشجّع التعاون بين الصحافة والعدالة، لا ترك الأمور للفوضى الإلكترونية والتسريبات العشوائية.
صوت الضحايا يجب أن يُسمع
قضية المفقودين والمفقودات ليست قضية رقمية أو إعلامية، بل قضية ضمير وذاكرة وعدالة. كل اسم في تلك الدفاتر هو إنسانة أو إنسان عاش الخوف والتعذيب والاختفاء. كل عائلة تبحث اليوم عن أثرٍ أو صورة أو جثمان لا تحتاج إلى شفَقة، بل إلى حقيقة رسمية ومسار عدالة صادق.
لذلك فإن أول واجب على الحكومة الجديدة يكمن في تسهيل عمل الهيئة الوطنية للمفقودين والمفقودات بصورة مستقلة وشفافة، وان تعمل بالتعاون مع المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، وتُصدر تقارير دورية علنية، لا بيانات غامضة. هذه الهيئة يجب أن تمتلك صلاحيات حقيقية في التحقيق، والملاحقة القضائية، والوصول إلى السجلات الرسمية، لا أن تكون هيئة رمزية تُستخدم لتلميع الصورة السياسية.
لا عدالة بلا محاسبة
كل انتقال سياسي بلا محاسبة هو انتقال شكلي. العدالة الانتقالية ليست ترفًا، بل شرط وجود الدولة الجديدة. ومن دونها، لن يصدق أحد أنّ ما حدث في 2024 كان ثورة حقيقية على الظلم، بل سيبدو كاستبدال وجوه بوجوه. إنّ الحكومة التي لا تُحاسب المجرمين والمجرمات لا تبني مستقبلًا، بل تُعيد الماضي بأسماء جديدة. السكوت عن الجرائم هو استمرار لها، والتهرّب من مسؤولية التوثيق هو شكل آخر من الإنكار. العدالة لا تُؤجّل، ومن يؤجّلها يشارك في قتلها.
سوريا اليوم أمام مفترق حاسم: إما أن تواجه ماضيها بشجاعة وعدالة ومحاسبة، أو أن تغرق مجددًا في دورة جديدة من الإنكار والدم. إنّ حادثة نشر الوثائق يجب ألا تبقى مجرد جدل عابر، بل إشارة إنذار وطنية تدفع الجميع — الإعلام والمنظمات، والسلطة، والمجتمع — إلى إدراك أن الحقيقة تحتاج إلى حماية، لا إلى استعراض. فمن دون إطار أخلاقي ومؤسساتي منظم، ستبقى الذاكرة السورية مكشوفة للعبث.
لقد سقط النظام، لكن العدالة لم تولد بعد. ولن تولد ما لم تتحمل الحكومة الجديدة مسؤوليتها الكاملة في كشف مصير المفقودات والمفقودين، ومحاسبة من أمر ومن نفّذ ومن صمت. فالعدالة ليست وثائق تُنشر على الإنترنت، بل فعل سياسي وأخلاقي يضع كرامة الإنسان في قلب الدولة الجديدة. كل تأخير في هذه المهمة هو خيانة لذاكرة الضحايا، وكل تردد في المحاسبة هو امتداد للظلم القديم بثوب جديد. ومن التسريبات التي نشرتها مواقع إخبارية وصفحات ناشطين إلى قصور الحكومة، تبقى الرسالة واحدة: الكرامة لا تُستعاد بالكلمات، بل بالفعل. والحقيقة لا تكتمل إلا عندما يقف الجلاد أمام العدالة، وتُعاد للضحايا أسماؤهن وأسماؤهم، وأرواحهن وأرواحهم راحة لم يعرفوها في حياتهم ولا في موتهم.
المصدر: تلفزيون سوريا






