يعتقد البعض أن الأخلاق ليس لها علاقة بالاقتصاد، لكن حقيقة الأمر أن هناك علاقة وثيقة بينهما، بل الاقتصاد قائم على الأخلاق، إذ لولا الفضائل الاخلاقية في التعاملات الاقتصادية لما تمت أي عملية اقتصادية بيسر وسهولة، وربما لم تقم بالأصل، ليس هذا فحسب بل إن الاقتصاد هو بحد ذاته فضيلة حسب علم الأخلاق. فما بالك اليوم في ظل الاقتصاد القائم على تحقيق الربح بصرف النظر عن الآثار المترتبة عليه؟
هناك دلائل تشير لفشل الاقتصاد القائم في استيعاب البشر وانصافهم بل العكس هو الحاصل حيث يزداد التفاوت والفقر، لان الاقتصاد القائم أسهم في حصر ثروات العالم أجمع بأيدي قلة قليلة من البشر، لا تزيد نسبتها عن 1% من سكان الارض يتحكمون بما تبقى من البشرية، من خلال امتلاكهم للثروات الهائلة في ارجاء المعمورة كلها. وان 18،5 مليون شخص يملكون 47% من الثروات الموزعة بين مداخيل وحسابات في المصارف واسهم في البورصة. وخلق عدم المساواة”. وما الأزمات التي تضرب العالم إلا نتيجة لقصور النظام الاقتصادي القائم، وأبرزها أزمة 2008، وكان سببها توسع المقرضين بالقروض عالية المخاطر رغبة بتحقيق الارباح الكبيرة، والتي أدت بالنتيجة إلى ركود الاقتصاد العالمي، علماً أنهم خرجوا علينا بنظريات عدة ومفاهيم بميدان الاقتصاد فمنهم من ينادي إلى الاقتصاد الاجتماعي والبعض يؤمن بالاقتصاد الانساني ولا يمكن أن نتناسى الاقتصاد الاسلامي الذي تتبناه دول عدة.
إذا تعمقنا بالواقع سنجد ان الصدق والاخلاص والاتقان والانصاف والامانة والعفو والسماح والإيفاء بالعهد وغيرها، كلها فضائل اخلاقية تسهم في زيادة كفاءة اداء الوحدة الاقتصادية على مستوى الاقتصاد الجزئي، لان قيام الوحدة الاقتصادية على أساس الفضائل الاخلاقية ستسهم في ارتفاع مستوى الثقة على مختلف الجوانب.
ان زرع الثقة وتجذرها في الوحدة الاقتصادية من جانب وما بين الوحدات الاقتصادية من جانب آخر وما بين الوحدات الاقتصادية والمجتمع من جانب ثالث، سيؤدي الى شيوع الثقة على مستوى الاقتصاد برمته ومن ثم ارتفاع اداءه فيحتل مراتب متقدمة على مستوى العالم، وهذا ما يجذب انتباه واهتمام المجتمع الدولي وعندما يكتشف هذا الأخير، ان ارتفاع اداء هذا الاقتصاد جاء كنتيجة لارتفاع مستوى الثقة بناءً على تبني الوحدات الاقتصادية فيه للفضائل الاخلاقية في تعاملاتها مع مختلف الجهات، وهذا ما سوف يدفع إلى تصدير التجربة للمجتمع الدولي لتبني الفضائل الاخلاقية في كل تعاملاته والاقتصادية خصوصاً ومع مختلف الجهات من اجل ايجاد عنصر الثقة وارتفاع مستوى اداءه واحتلاله مراتب متقدمة عالمياً على مستوى الاقتصاد.
وبهذا الخصوص، أي كيف تسهم الفضائل الاخلاقية في تحقيق الرخاء الاقتصادي بواسطة الثقة كنموذج، يشير (فوكوياما) عالم وفيلسوف واقتصادي سياسي ياباني ان صلاح أحوال أي أمة والحفاظ على قدرتها التنافسية في السوق الاقتصادية يبقيان مشروطان بتوافر سمة ثقافية واحدة وراسخة ألا وهي الثقة ومدى انتشارها وتأصيلها في المجتمع.
اليوم العالم يعاني من أزمة ثقة كنتيجة للاختلال الاخلاقي بفعل غياب أو ضعف الفضائل الاخلاقية لان هذه الأخيرة هي التي تسهم في توطيد الثقة، ويذكر أمين معلوف في مقدمة كتابه “اختلال العالم” ” ان العالم يعاني اختلالاً كبيراً، وفي عدة ميادين معاً، اختلالاً فكرياً، اختلالاً مالياً، اختلالاً مناخياً، اختلالاً جيوسياسياً، اختلالاً أخلاقياً” وثبت ان كل هذه الاختلالات باستثناء الاخير، هي اختلالات عرضية أي إنها ناشئة بالأصل من الاختلال الأخير، أي الاختلال الاخلاقي، إذ إن هناك تقدم هائل لكن بنفس الوقت هناك تراجع إنساني هائل أيضاً، وذلك بفعل ضياع الاولويات، واصبح الانسان في مرحلة ثانية وربما أستخدم كوسيلة لتحقيق أولويات أخرى سواء كانت سياسية او دينية او اقتصادية او اجتماعية أو غيرها، والتي كان من المفترض أن تسهم كل هذه الأولويات في اسعاد الإنسان وليس العكس أي عدم استخدام التضحية بسعادة الانسان كوسيلة لتحقيق تلك الأولويات، فاحتلال الانسان مرتبة ثانية لصالح الاولويات الاخرى يكشف عن اختلال واضح في غياب الفضائل الاخلاقية في كل تلك الميادين وهذا ما أسهم في نشوء أزمة ثقة عالمياً.
وعليه، فالأخلاق تشكل القاعدة الأساس التي تبنى عليها الثقة والاقتصاد والحضارات والمجتمعات والأمم، “الاخلاق لا تمثل قضية فردية فقط، الحضارات تبنى على الاخلاق، الامم تبنى على الاخلاق، المجموعات تبنى على الاخلاق، وانما الامم الاخلاقُ ما بقيت… فإن هم ُذهبت اخلاقهمُ ذهبوا.
سنرى بالأسطر القادمة كيف ازدهرت الحركة التجارية في بلاد العرب قبل الإسلام بعد تحقيق المكاسب والثروات، مما شجع على تنمية المال واستثماره فيها، وقد عبر عن ذلك كعب ابن لؤي في قوله: ((صلوا ارحامكم واحفظوا اصهاركم واوفوا بعهودكم وثمروا اموالكم فأنها قوام مروءتكم وتصونوها عما يجب عليكم)).
إذا عدنا بالتاريخ وبحثنا كيف اشتهرت مكة بمكانتها التجارية في الجزيرة العربية فقد حباها الله سبحانه وتعالى بالموقع الفريد عند ملتقى طرق التجارة الداخلية والخارجية وبالبيت العتيق قبلة الحجيج من ارجاء المعمورة، فضلا عن قيام زعماء قريش بتنظيم التجارة وترتيب قوافلها وتأمينها بعقد العقود وتوثيق المواثيق مع العشائر الضاربة على طرقها ، فعظمت تجارتها وصارت مضرب الامثال ، وبذاك الزمان كان اساس التعامل يعتمد على قيم وخلقيات علماً أننا لم ندخل بعد مرحلة نزول الرسالة وبث القيم وتكملة تلك الخلقيات بمفاهيم عززت للجزيرة العربية مكانتها وساعد على ترسيخ مفاهيم جديدة بالعلاقات التجارية والمعاهدات التي يمكن أن نسميها اقتصادية لذاك العصر .
كان هناك تنظيم محكم للقوافل وللمساهمين في تمويلها، فكان قائد القافلة يخرج تاجراً الى بلاد الشام بماله واموال رجال قريش، وكانت العشائر تخرج لتوديع القافلة، واستقبالها فرحين مستبشرين بعودتها، وبمجرد وصول القافلة، كان رئيسها يجتمع ويقوم بتوزيع الأرباح وإعطاء كل ذي حق حقه منها، فهذا يدل على أنه هناك خلقيات تسود التعامل.
أكبر مثال لنا سوق عكاظ التي اشتهرت بإقامة المنتديات الاجتماعية والأدبية الى جانب التبادل السلعي والبيع والشراء، فقد كان بها القضاة، والمحكمون لجودة الشعر، وكانت الديات تحمل اليها لتدفع على اعين الناس،
لم تقتصر سوق عكاظ على النشاط التجاري لقبيلة قريش وحلفائها بل كان يفد اليها بطون وعشائر هوازن وغطفان وخزاعة وعضل والمصطلق، فضلا عن القوافل التجارية المرسلة من قبل ملوك اليمن وامراء الحيرة والغساسنة ، وكان لكل قبيلة منزل بالسوق وراية وكانت مسئولية الامن وارشاد القبائل الى مواضعها تقع على عاتق قيس عيلان وبطونها وهذا يذكرنا اليوم بالمعارض الدولية التي تقام لتسويق منتجات وسلع كل دولة وشركاتها مما يدل على مفهوم العلاقات الدولية بميادين عدة منها الاقتصاد والتجارة والادب والثقافة وتبادل الخبرات والعلوم والمعرفة وهذا أكبر دليل على أن مكة كانت ملتقى القوافل الآتية من بصرى حضرموت وبلاد الشام (التي كانت تحت سيطرة الروم ) وبلاد فارس ، هذه الاسواق أو المعارض الدولية لن تقام إذا لم يكن هناك مفاهيم وقيم وقوانين تسود تلك الاسواق .
سؤال يطرح نفسه، كيف كانت تتم علمية الدفع لثمن تلك البضائع بذاك العصر وهنا يظهر لنا جليا مفهوم المعاملات الاقتصادية، حيث لم يكن يوجد مفهوم الاعتمادات ولا العملة الموحدة حيث شاع بالمدن استعمال النقود المعدنية من الدنانير والدرهام بينما اعتمد عرب البادية مفهوم المقايضة في كل معاملاتهم.
استخدمت الحنطة ثمنا لبعض السلع المتداولة مثلها في ذلك مثل النقود في الحجاز كما استخدمت الذرة لنفس الغرض في الجنوب، وكانت الدنانير والدراهم تقيم بالحبوب فكان الدينار بخمس وستين حبة.
ارتبطت المعاملات المالية بالصيرفة، ففي المراكز التجارية والأسواق ظهرت طائفة من المتخصصين في وزن النقود وفرزها، وكان اليعاقبة في بلاد مذحج باليمن ونجران واهل ثقيف بالطائف يقومون بأعمال الصيرفة، وكان الصيارفة في مكة وضواحيها يزنون السبائك والنقود الفارسية والحميرية، ويعدون الدنانير الرومية، كما كان هناك طائفة بيثرب يحترفون الصيرفة ويعتبرونها نوعا من الاعمال التجارية فيتعاملون بالذهب والفضة واستبدال مثيلاتها وكسورها بها وتحويلها الى النقود المساعدة عند الحاجة اليها وهذه الاساليب هي منظومة اقتصادية بحد ذاتها لذاك العصر .
الاسلوب الذي اتبعته شعوب تلك المنطقة قبل الاسلام يثبت لنا أنه هناك مفاهيم لأصول التعامل التجاري وفقاً لعادات وقوانين تصونها القبائل وتشرف على تطبيقها أسياد مكة إلى أن جاء الاسلام ليبلور تلك المفاهيم والقيم ويحرم البعض ويعزز الأخر حتى سادت قيم جديدة سرعت من تطور المنطقة وشعوبها وانتشرت بأنحاء العالم الذي دخله الاسلام من بلاد الاندلس لأراضي الصين ، أما إذا قارنا الأمور مع مفاهيم ذاك الزمان ، سنجد الكثير قد تغير وهذا التغير ليس بتغير النظرية وقوانين التعامل بل هو ناتج تراجع بالقيم الخلقية بأصول التعامل إن كان فرداً لفرد أو دولة لدولة ، وما أحوجنا إلى إعادة النظر بخلقيات تعاملاتنا حتى نستطيع أن نبني حضارة المستقبل .