
في سياق الاتصالات التي أجراها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للتوصل إلى ما سمّيت “خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط” أعطى وعداً للقادة العرب، عندما قال: “لن يحدث الضم الإسرائيلي للضفة الغربية، لأنني أعطيت تعهداً للدول العربية بذلك”. هذا ما صرح به لمجلة تايم الأميركية، كذلك حذّر إسرائيل مؤكداً أنه إن فعلت ذلك، ستفقد كل دعمها من الولايات المتحدة. ومن الجيّد أن خطة ترامب أوقفت حرب الإبادة في قطاع غزّة، لكن هل يمكن تصديق وعد ترامب بعدم ضم الضفة الغربية سياسة لإدارة أميركية؟
لا يمكن تصديق التصريحات السياسية الأميركية تجاه الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وهذا لا يعود إلى سياسة ترامب وحدها، بل يعود إلى تاريخ الممارسات الأميركية تجاه هذا الصراع أيضاً. وإذا اتخذنا احتلال إسرائيل الأراضي العربية عام 1967 الحرب منطلقاً لفهم السياسة الأميركية، نرى أنها سياسةٌ انتقلت من معارضة الاحتلال إلى سياسة متكيّفة مع السياسات الإسرائيلية إلى سياسة داعمة لها بالمطلق.
اعتبرت الولايات المتحدة الأراضي المحتلة عام 1967 تخضع لقرار مجلس الأمن 242، الذي ينصّ على انسحاب إسرائيل منها. وعلى هذا الأساس، قامت مفاوضات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، التي أدّت إلى اتفاق، انسحبت بموجبه إسرائيل من كل الأراضي المصرية التي احتلتها إسرائيل. وبقي الموقف الأميركي على حاله، حتى عندما دعت الولايات المتحدة خلال ولاية الرئيس جورج بوش الأب إلى مؤتمر السلام في مدريد عام 1991، نصت رسالة الدعوة إليه على الآتي: “ترتكز على قراري مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242 و338. وهدف هذه العملية سلام حقيقي”. وإذا كان هذا الأساس الذي دارت على أساسه المفاوضات مع الدول العربية، إلا أنها لم تكن كذلك على المسار الفلسطيني. عارضت الولايات المتحدة حينها الاعتراف بمنظّمة التحرير الفلسطينية أو إشراكها في مؤتمر مدريد، ما جعل الوفد الفلسطيني جزءاً من وفد أردني ـ فلسطيني مشترك للتفاوض مع إسرائيل على “حكم ذاتي” للفلسطينيين. وقد علق الكاتب الأميركي، توماس فريدمان، حينها، قائلاً: “… إن مقاربة إدارة بوش كلها لصنع السلام تقوم كلياً على شروط يمليها رئيس الوزراء (الأسبق) إسحاق شامير”.
جاء التغيير الكبير مع ولاية ترامب الأولى، عندما اعتمدت إدارته الشعار الليكودي “السلام مقابل السلام”
رغم أن التسوية المطروحة قامت على أساس القرارين 242 و338، التي اختُصِرَت تحت عنوان “الأرض مقابل السلام”، فإن الولايات المتحدة أقرّت بحق الأطراف في طرح تفسيراتها القرارين، فكان تفسير شامير المقابل “السلام مقابل السلام”، والاستمرار في المفاوضات الثنائية إلى ما لا نهاية.
كانت إدارة الرئيس بيل كلينتون جائزة كبرى لإسرائيل، فقد كرّر كل من رئيس الوزراء في حينه، إسحاق رابين، ووزير خارجيته شمعون بيريز: “لم يكن هناك أي رئيس في الولايات المتحدة من قبل قدّم لإسرائيل ما قدمه كلينتون”. فمنذ البداية، عملت إدارة كلينتون على تأييد الأهداف الإسرائيلية، ودعمت المماطلة والتسويف اللذين اتبعتهما الحكومة الإسرائيلية، وقد عملت هذه السياسة على إيجاد حافزٍ قوي لدى الفلسطينيين لفتح قناة مفاوضات مع إسرائيل بعيداً عن الولايات المتحدة.
كذلك وظفت إدارة كلينتون حق النقض (الفيتو) الأميركي في مجلس الأمن لحماية السياسات الإسرائيلية. في ظل ولايته، استُخدِم الفيتو ضد كل مشاريع قرارات الإدانة التي استهدفت إسرائيل، سواء في ظل ولاية رابين وخليفته بيريز، أو في ظل ولاية نتنياهو الأولى، ومنعت إدانة مجلس الأمن إسرائيل في أمثلة عديدة، مثل مجزرة قانا في الجنوب اللبناني، كذلك منعت إدانة الاستيطان في الأراضي المحتلة والإجراءات ضد الحرم القدسي الشريف، عندما قرّرت حكومة نتنياهو فتح النفق تحت المسجد الأقصى.
بقي الانحياز الأميركي لإسرائيل على حاله، وزادت السياسات الاستيطانية المحمية من الولايات المتحدة
عملت إدارة كلينتون، بتنفيذ وزيرة الخارجية في ولايته، وكانت مندوبة الولايات المتحدة في الهيئة الأممية، مادلين أولبرايت، على إلغاء المرجعية الدولية للحل في الشرق الأوسط، معتبرة أن القرارات الدولية غير صالحة لأن تكون مرجعية المفاوضات، وأنها تخضع لتفسير الأطراف. حتى إن أولبرايت في أثناء عملها في الأمم المتحدة، بعثت رسالة إلى مندوبي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، طالبت فيها، بلهجة تحذيرية، المندوبين بعدم الإشارة إلى قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين، بما في ذلك القرارات التي تؤيد حقوق الشعب الفلسطيني وتطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وقد وصفت هذه القرارات بأنها “خلافية، وعديمة الفائدة، وتجاوزتها الأحداث”. وتغيير المصطلحات إحدى الوسائل التي اتبعتها إدارة كلينتون لانسجام الموقف الأميركي مع السياسات الإسرائيلية، فقد كانت الإدارات الأميركية تعتبر الاستيطان يتناقض مع الشرعية الدولية، وتحوّلت صياغة الموقف في زمن إدارتي ريغان وبوش الأب إلى أن الاستيطان “عقبة رئيسية أمام السلام”. أما في زمن كلينتون، فأصبحت الصيغة أن الاستيطان “مجرّد عامل تعقيد”. كذلك كانت الإدارات الأميركية تعتبر الأراضي الفلسطينية “أراضي محتلة” تنطبق عليها قرارات الشرعية الدولية، لكن هذه الصيغة عُدِّلَت في عهد كلينتون، لتصبح حسب التعبير الأميركي “أراضي متنازعاً عليها”، وقد عبّرت أولبرايت عن هذا الموقف بقولها إن الولايات المتحدة “لا تؤيد وصف الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 بأنها أراضٍ فلسطينية محتلة، لأن هذه اللغة تفسّر أنها تعني السيادة”. وقد كان ضغط إدارة كلينتون على الفلسطينيين لتقديم التنازلات هو ما دفع إلى فشل لقاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس وزراء دولة الاحتلال في حينه إيهود بارك عام 2000، ما أدّى إلى انفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي استمرت بعدها إسرائيل في فرض وقائع جديدة على الأرض، وفي مقدّمها الجدار العازل الذي بُنيَ في ولاية أرئيل شارون.
بقي الانحياز الأميركي لإسرائيل على حاله، وزادت السياسات الاستيطانية المحمية من الولايات المتحدة. وجاء التغيير الكبير مع ولاية ترامب الأولى، عندما اعتمدت إدارته الشعار الليكودي “السلام مقابل السلام”، وعلى أساسها جرى بناء الاتفاقات الإبراهيمية، بعيداً عن جوهر الصراع في المنطقة، وهو الاحتلال الإسرائيلي، كذلك وافقت على ضم إسرائيل الجولان.
الضفة ليست أقل من غزّة، تصرخ من أجل تدخل دولي مستعجل
وإذا عدنا إلى الوقائع الجديدة، صرّح ترامب بأن إسرائيل صغيرة ويفكّر كيف يوسعها، وقالت إسرائيل إنها ستضم الضفة الغربية رداً على اعترافات الدول الغربية بالدولة الفلسطينية. وبحسب ما قاله مسؤولان إسرائيليان لوكالة إكسيوس “أشار روبيو (وزير خارجية ترامب) في اجتماعات خاصة إلى أنه لا يعارض ضم الضفة الغربية، وأن إدارة ترامب لن تقف في طريقه”. وحتى بعد إعلان ترامب خطته، وقبل توجّهه إلى إسرائيل بعد وقف اطلاق النار، قال: “أعتقد أن الرئيس أكد أن هذا ليس أمراً يمكننا دعمه في الوقت الحالي”. موضحاً أن إقرار الضم أمام الكنيست “سيهدّد” وقف إطلاق النار، أي أن الضم لا يتعارض مع القانون الدولي، وهو إجراء يتناقض مع الشرعية الدولية، إنما هو يهدّد “وقف إطلاق النار” فقط!
لا معنى لوعد ترامب، لأنه كلام مرسل، سرعان ما سينساه، فهو رجل مزاجي، ولا يرتبط هذا الوعد بوقف الاستيطان، ووقف اعتداءات المستوطنين والجيش على الفلسطينيين. وكما كتب جدعون ليفي قبل أيام في “هآرتس”: “الضفة الغربية تُغيّر وجهها كل يوم. أرى ذلك في العيون المندهشة. يستطيع ترامب التفاخر بإيقافه الضم، لكن الضم ترسخ مثلما لم يترسخ من قبل. من مقر الهيئة الذي أقامه في “كريات غات” ربما يرى غزّة، لكنه لا يرى “كريات أربع”. الضفة ليست أقل من غزّة، تصرخ من أجل تدخل دولي مستعجل. وليكن هؤلاء جنوداً أميركيين، أوروبيين، إماراتيين، وحتى أتراكاً. على أحد ما أن يدافع عن السكان العاجزين. على أحد ما أن يُخلصهم من مخالب الجيش والمستوطنين”.
المصدر: العربي الجديد


