حركة جيل زيد في المغرب… السياق ورهان الإصلاح

عبد الصمد بن شريف

عرف المجتمع المغربي منذ الاستقلال احتجاجات وانتفاضات عديدة، أشدّها قسوة وحدّة، تلك المرتبطة بسنوات الجمر والرصاص. وغالباً ما وقفت وراءها قوى سياسية ونقابية، أو حركات شبابية كانت مرتبطة تنظيمياً أو فكرياً بمرجعيات وإيديولوجيات يسارية. واتّسمت مختلف تلك الاحتجاجات برفعها لمطالب وشعارات سياسية في المحلّ الأول، مثل دمقرطة النظام وتقاسم السلطة والتداول عليها، وتوسيع هامش الحريات الفردية والجماعية وحرّية الصحافة والحريات النقابية والحق في الإضراب، إلى جانب المطالبة بقوانين وتشريعات مرنة وواضحة لضمان تنظيم انتخابات نزيهة وديمقراطية، وكان لافتاً أنّ مؤسّسات الوساطة من أحزاب ونقابات كانت الفاعل المركزي في مجمل الحركات الاحتجاجية التي غالباً ما كانت تسفر عن اعتقالات بالجملة وأحكام قاسية، وحتّى سقوط ضحايا، كما حدث في الإضراب العام الذي دعت إليه المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في 20 يونيو/ حزيران1981، وأيضاً خلال احتجاجات عرفتها مجموعة من المدن المغربية في يناير/ كانون الثاني 1984.

وحتّى عندما انطلقت حركة 20 فبراير (2011) في سياق ما عُرف بثورات الربيع العربي، فإنها وإن تميّزت بأنها دينامية شبابية، وأن قاعدتها الأساسية كانت من الشباب، فإنها لم تعزل نفسها عن عدة أحزاب ومنظّمات ومرجعيات يسارية وإسلامية، بل اعتبرت هؤلاء حلفاء وسنداً لها، لضمان الزخم النضالي والنفس الاحتجاجي الطويل. من منطلق أنّ سقف الشعارات التي رفعتها والمطالب التي خرجت من أجلها كان عالياً بالنظر إلى طبيعتها السياسية والدستورية والمؤسّساتية. وبالتالي؛ كان تحقيقها على أرض الواقع يتطلب حشد مختلف القوى والحركات التي كانت تسعى إلى التغيير والإصلاح والقطع مع الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي أنتجت اختلالات بنيوية، في القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة، وكرّست الفوارق الاجتماعية والمجالية والإحباط في صفوف الشباب، بسبب ارتفاع نسبة البطالة وانسداد الآفاق أمامهم.

وإذا كان لكلّ مرحلة تاريخية منطقها، ولكلّ سياق سياسي واجتماعي محدّداته، ولكلّ جيل خطابه وأساليب تواصله وطرق تعبئته وآليات تصريف مطالبه، فإنّ جيل زيد 212 في المغرب الذي انخرط في حركة احتجاجية منذ أواخر الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) إفراز موضوعي لظرفية تاريخية أبرز ما يميّزها الثورة التكنولوجية العالمية الشاملة، التي وصلت إلى درجة متقدّمة من الرقمنة والأتمتة، وفرضت نفسها معياراً أساسيّاً للحصول على العضوية في العالم المعاصر.

يعيش المجتمع المغربي تحوّلات عميقة جعلت الأفراد لا يخضعون بشكل مطلق للمسلمات التقليدية التي كانت توجّه سلوكهم وتفكيرهم

ويبدو، من زاوية النظر السوسيولوجية، أنّ المجتمع المغربي بات يعيش تحوّلات عميقة جعلت الأفراد لا يخضعون بشكل مطلق للمسلمات التقليدية التي كانت توجّه سلوكهم وتفكيرهم، سواء تعلق الأمر بالإعلام الكلاسيكي أو المؤسّسات الدينية أو مؤسّسات الوساطة والتنشئة، وتدل هذه التحوّلات على انبثاق دينامية جديدة، إذ عمد الأفراد إلى توسيع مساحات التفكير بمنأى عن الأنساق التقليدية فيما يشبه تمرّداً عليها، وتخلّصاً من سلطتها وتحرّراً من وصايتها.

وهكذا يمكن تصنيف هذا النوع من الديناميات ضمن المجتمعات الحية القادرة على مساءلة نماذجها التنموية والثقافية دائماً، بدل الاكتفاء بالقبول بها واقعاً ثابتاً. وتبعاً لذلك؛ حركة جيل زيد 212 المغربية تعبير عن الحرمان والإحباط الذي بات يشعر به الشباب سليل العالم الافتراضي، الذي كوّن مجموعة من الصور والتمثلات والمشاعر في منصّات التواصل الاجتماعي ونسج عبرها علاقات عابرة للحدود، وتمكّن من التنقل من هذه التجربة إلى تلك، والاطلاع على نماذج وتجارب سياسية واقتصادية، بعضهم ربما ولدوا ولديهم وعي شقيّ وحالة من الانفصام؛ بسبب الفجوة العميقة التي تفصل بين ما يحبل به الواقع الذي ينتمون إليه من مظاهر وظواهر وأزمات وتحدّيات وأعطاب ونكسات وانكسارات وخيبات أمل، وبين الفردوس الافتراضي الذي يشعرون فيه بالطمأنينة والارتياح واتّساع الآفاق وتعدّد الفرص.

سحبت حركة جيل زيد في المغرب ثقتها من الحكومة ومكوناتها الحزبية، لأنها في نظرها عاجزة على تلبية مطالبها، ولجأت إلى شخص الملك، باعتباره الوحيد الذي تثق فيه

وما يلاحظ أيضاً أن الكيفية التي اتبعها جيل زيد لبناء الاحتجاجات وصياغة مطالبه وشعاراته وتعبئة المحتجّين والتنسيق بينهم تختلف جذرياً عن أنماط التعبئة التقليدية، فهي من جهة التزمت بشعارات ومطالب براغماتية وعملية تهم مباشرة كل الشرائح الاجتماعية، كإصلاح قطاعَي الصحة والتربية والتعليم ومحاربة الفساد، ما يعني أنها حركة لا تنطوي على مشروع سياسي، ولا تحدوها هواجس أكبر من إمكاناتها وتتفوّق على درجة وعيها، وحتّى جرعة الحماس والاندفاع التي رافقت الحركة في بداية انطلاقها سرعان ما جرت عقلنتها، كما أدركت أن أفضل أسلوبٍ لتجنّب التشظّي والإنهاك والحيلولة دون وقوع نزيف من الانسحابات لأسباب مختلفة، يمرّ عبر توسيع قاعدتها بالانفتاح على طاقات وتجارب ربما لمست فيها نوعاً من التقاطع مع قناعاتها ومواقفها، وقيمة مضافة لديناميتها، خصوصاً في ظلّ الحرص على عدم الكشف عن هوية من يفترض فيهم أنهم قادة حراك جيل زيد 212.

مؤكّد أن دينامية جيل زيد لم تأخذ طابعَ حركة جماهيرية بقواعد عريضة، ولم تتحوّل إلى فعل احتجاجي مؤطّر ومنظّم وله خريطة طريق وسقف مطالب معيّن. مع ذلك؛ ورغم ما اعتراها من وهن، وما تعرّضت له من شيطنة واختراقات قصد تفكيكها وإضعافها، بما في ذلك محاسبتها على مواقف وتصريحات إعلاميين ونشطاء سياسيين استضافتهم في منصّتها “ديسكورد”، مع ذلك فرضت نفسها فاعلاً مؤثّراً في الساحة الوطنية، واستطاعت أن تستقطب مؤثرين من مشارب مختلفة، كما أنها كسبت تعاطفاً شعبياً كبيراً، خصوصاً وأنها رفعت شعارات ومطالب تقضّ مضاجع فئات واسعة من المجتمع المغربي التي أصيبت قدرتها الشرائية في مقتل، بسبب ارتفاع الأسعار وتردّي الخدمات الصحية وتراجع مستوى التعليم وتفشّي الفساد.

وإذا كانت هذه الحركة، بحكم تركيبتها، وطبيعة تكوينها وانفتاحها على فضاءات ومرجعيات كونية، أخذت مسافة تجاه الوسطاء التقليديين، خصوصاً الأحزاب والنقابات والجمعيات، لاقتناعها بأن هؤلاء الوسطاء لم تعد لهم الفعالية والمصداقية والجاذبية نفسها، فقد لوحظ أن أحزاباً ونقابات تبنّت مطالبها وزكّتها. وأصدرت بيانات دعم ومساندة لنضالها، وندّدت بالعنف الذي طاول نشطاءها في المسيرات التي نظمتها في بداية انطلاقها، واستنكرت الاعتقالات والأحكام التي صدرت في حق عدد من الشباب في مدن مختلفة. ويمكن القول، بناء على ما حصل، إنّ حركة جيل زيد أنعشت الوسطاء التقليديين وحرّكت جمودهم، ودفعتهم إلى التعاطي مع قضايا جوهرية كانوا يمارسون بشأنها نوعاً من التّجاهل، وباتوا يتسابقون إلى استديوهات التلفزات والإذاعات لتبرئة الذمة، والتعبير عن انخراطهم في دينامية شباب جيل زيد، ودعم مطالبهم ما دامت لم تتجاوز السقف الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي.

رغم إشارات ومواقف من أحزاب عدّة، مشاركة في الحكومة أو معارضة، حدّدت حركة جيل زيد خطابها منذ البداية

ورغم كلّ هذه الإشارات والمواقف من أحزاب عدّة، مشاركة في الحكومة أو معارضة، حدّدت حركة جيل زيد خطابها منذ البداية. لذلك وجهت رسالة إلى الملك محمد السادس متضمنة المطالب التي خرجت للاحتجاج بسببها، لكن معظمها لم تجرِ صياغته بناء على وعي عميق بالظرفيات والسياقات ومقتضيات الدستور، وقراءة دقيقة وعميقة لموازين القوى، ما جعل كثيرين من فقهاء القانون الدستوري يعتبرون مسألة إقالة حكومة عزيز أخنوش وحلّ الأحزاب المتورّطة في الفساد وعقد جلسة وطنية علنية برئاسة الملك لمساءلة الحكومة مطالب غير واقعية، بل رومانسية وحالمة.

الخلاصة الأساسية التي يمكن الخروج بها في هذا السياق أنّ حركة جيل زيد سحبت ثقتها من الحكومة ومكوناتها الحزبية، لأنها في نظرها عاجزة على تلبية مطالبها، فكان اللجوء إلى شخص الملك، باعتباره الوحيد الذي تثق فيه الحركة، وهو القادر على اتخاذ ما يلزم من قرارات وتدابير، علماً أن الملك في المخيال الجماعي للمغاربة يحضر باعتباره رمزاً للخلاص والمنقذ من الأزمات التي قد تهدّد المجتمع، فهو الذي حسم في مختلف القضايا الخلافية “مدونة الأسرة والأمازيغية والاستجابة لعدد من مطالب حركة 20 فبراير و… إلخ”. وهذا التمثّل الرمزي والدال كان أيضاً حاضراً بوضوح في احتجاجات حركة جيل زيد، وحتى لو لم يتفاعل الملك بشكل مباشر مع مطالب الحركة، فإنّ المجلس الوزاري الذي ترأسه توّج بإجراءات عملية وصفت بأنها جواب صريح على مطالب الشباب، التي حوّلها الملك إلى أولويات استراتيجية تتبناها الدولة، وتعتبرها بمثابة عقد اجتماعي جديد، ولا سيّما أن المجلس الوزاري رصد حوالى 15 مليار دولار ميزانية خاصة بالصحة والتعليم، كما قرّر توظيف ما يناهز 27 ألف شخص في هذين القطاعَين الحيويَين. وهكذا يمكن أن نستنتج أنّ حركة جيل زيد أعادت إلى الواجهة ملفات حساسة واستراتيجية، وحرّكت البرك الآسنة عبر إطلاق النقاش بشأن الأولويات، وأجبرت الإعلام العمومي الذي توجّس منها وتجاهلها في البداية على الانفتاح، ولو مؤقتاً، كما أظهرت أن التجاوب الإيجابي من الملك مع مطالبها لم يقتصر على احتواء الغضب الاجتماعي، بل تجاوزه إلى طرح أسئلة جوهرية في مسألة الثقة في المؤسّسات، بالإضافة إلى وضع مؤسّسات الوساطة تحت المجهر لمساءلة وظائفها وأدوارها.

 

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى