تبين لوحة الصراع في سوريا وحولها، أن بعض قوى الصراع، تتقاسم التأثير الأكبر، وتتشارك بنسب مختلفة في رسم صورة البلاد، ما سيؤول إليه وضعها، ليس وصولاً إلى الاتفاق على حل القضية السورية فقط، بل أيضاً في تحديد الدور الذي سيقوم به كل طرف في فترة ما بعد الحل.
ومن البديهي، أن يكون نظام الأسد أول الأطراف، رغم أنه أضعفها على الإطلاق؛ إذ ما زال قائماً، ويحتفظ بـ«شرعية» دولية، تجعله ممثلاً حصرياً للبلاد التي دمرها، وقتل وهجّر أكثر من نصف سكانها، وما زال مستمراً في تمسكه بأهدافه المرسومة للصراع، وبالحل العسكري – الأمني طريقاً لاستمرار النظام وبقاء رأسه في السلطة، وعودة السوريين إلى حظيرته، أياً ما يكون الثمن، بما فيه التفريط في استقلال البلاد، ومنح ثرواتها لحلفائه من الإيرانيين والروس وغيرهم، وقتل السوريين وتشريدهم وجعل نصفهم لاجئين، حتى صارت غالبيتهم غير قادرة على تأمين الغذاء والدواء والسكن بمن فيهم الجزء الأكبر من بطانته، وهو يراهن على عامل الوقت لاستعادة سيطرته، والعودة إلى المجتمع الدولي، وقد امتحن جدواها طوال سنوات، ووافق عليها باقي الأطراف، أو سكتوا عنها تأييداً ضمنياً أو عجزاً غير معلن عن فعل شيء آخر.
ثاني أطراف الصراع، حلفاء الأسد من الإيرانيين الذين يطبقون سياسة القبضة الناعمة لتأمين سيطرة عميقة على سوريا مع الأسد وبعده بمشاركتهم في الحرب على كل الجبهات لتأمين النظام واستعادة سيطرته على الأرض، مستخدمين أذرعهم من ميليشيات «حزب الله» اللبناني، وبعض الحشد الشيعي العراقي، وقوات من «الحرس الثوري»، وغيرهم من قوى تساهم في تعزيز وجود الإيرانيين داخل النظام والمجتمع، عبر التسلل إلى صفوف النخبة الحاكمة والمقربين منها، وتعزيز مواقع أنصارهم في المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية، وتقوية حضورهم في الأنشطة الاقتصادية، وكله يتم بالتوازي مع اختراق المجتمع السوري عبر تنظيم ميليشيات سورية بمرجعية إيرانية، وتدعيم بنية سكانية شيعية عبر تشييع سوريين، أو جلب مجموعات شيعية من بلدان منها إيران وأفغانستان والعراق بهدف إحداث تغيير ديموغرافي، حيث أمكن من البلاد، وسط تركيز على مفاصل خط السير الدولي الذي يصل البوكمال على حدود العراق مع الساحل السوري، وخط يصل إلى العاصمة دمشق، التي يتمركز ضمنها وفي محيطها وجود إيران الأهم في سوريا.
وتمد إيران سياسة قبضتها الناعمة إلى علاقاتها مع القوى الأخرى، وهو أمر ينطبق بصورة متقاربة على حلفائها وخصومها في آنٍ معاً. ففي العلاقة مع الروس، ورغم أنها علاقة تنافسية بوجه عام، فإن إيران تتجنب الصدام مع السياسة الروسية، وهي نادراً ما أبدت اعتراضات أو دخلت في مواجهات سياسية وعسكرية مع الروس، وتخلت أحياناً عن مكاسب أو استثمارات حصلت عليها، ورغب الروسي في وضع يده عليها، كما حصل في موضوع الفوسفات… وفي علاقتها مع الأتراك، تقوم بعزل علاقاتها الثنائية عن خلافاتها معهم في الملف السوري، ويمتد التساهل الإيراني في سوريا، ليشمل إسرائيل والولايات المتحدة، حيث تتجنب إيران، الرد على عمليات إسرائيل ضد قواتها وضد «حزب الله»، وقد جاهرت طوال العقود الماضية بشعارات معاداة إسرائيل والشيطان الأميركي الأكبر.
والطرف الثالث في الصراع السوري، تجسده روسيا حليف النظام وإيران، وشريك إيران وتركيا في إعلان موسكو 2016 واتفاق آستانة 2017، الذين أقاموا تقاربات في سياسات الثلاثة لجهة تعاملهم مع التنظيمات المسلحة في مناطق شمال غربي سوريا، بما يعكس التحول في مكانة روسيا بين قوى الصراع السوري بعد تدخلها العسكري أواخر 2015، فصارت في مرتبة الفاعل الملك، بما تمثله من مكانة دولية وقدرات، يدعمها وجود عسكري متعدد المهام في سوريا، هدفه خدمة الاستراتيجية الروسية في شرق المتوسط، والسيطرة على سوريا ومواردها، وتحويلها إلى قاعدة لوجودها، وورقة ضغط ومساومة في علاقاتها الدولية، وكلها أمور دفعت روسيا إلى تقوية سيطرتها في سوريا على كل المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وخلقت بنيات وعلاقات داخل السلطة والمجتمع، تساعدها في تثبيت وجودها في عهد بشار وبعده.
ومنذ تدخلها العسكري 2015، تبنت روسيا سياسات نظام الأسد أو سكتت راضية عنه، وخاضت معارك استعادة السيطرة على مناطق المعارضة، وهزيمة الجماعات المسلحة فيها، واتخذت سياسات مزدوجة مع الأطراف الأخرى، غلبت عليها المسايرة، كما هو الحال مع إسرائيل والولايات المتحدة، والنوسان بين المسايرة وتوجيه الضغوط والرسائل إلى الحليفين الإيراني والتركي للبقاء قريباً من خط سياسة موسكو في سوريا. وكان لهذه السياسة أكبر الأثر في معادلة معقدة رسمتها روسيا حول علاقاتها مع إيران، جوهرها قبول متبادل بدور كل طرف للآخر، بما فيه قبول صمت روسيا على قيام حليفها الإسرائيلي بهجمات، تقترب من حرب على إيران وأدواتها في سوريا.
وإذا كانت تركيا تمثل الطرف الرابع في الصراع السوري، فإن همها الرئيسي لم يعد مجرد تثبيت وجودها في بلد هو أكثر جيرانها حساسية، فهذا تجاوزته من خلال ثلاث عمليات شنتها في السنوات الأربع الماضية، عززت بها وجودها العسكري والسياسي، ونقلت هدفها نحو توسعه في حاضر ومستقبل سوريا، وهي في ذلك لا تحاكي الإيرانيين الذين يحالفون نظاماً مصيره الرحيل، بل تقارب هموم أكثرية السوريين، وتغازل أهدافهم في رحيل النظام، من دون أن يتعارض الأمر مع مصالحها الأساسية، وخصوصاً عداءها مع أكراد سوريين، لا ترى فيهم إلا امتداداً لأكراد تركيا وحزبهم حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي تصفه بالإرهاب، وهي تركز في سياق هذا الهدف على إحياء ما تعتقد أنه امتداد لها من تركمان سوريا.
تتجنب تركيا في سياساتها السورية اتباع سياسات صدامية مع حاضرين مختلفين في الصراع السوري، كإيران حليفة النظام والحاضرة بقوة إلى جانبه مع روسيا، وإسرائيل التي تسجل حضوراً غير مباشر، إلا فيما يتعلق بموضوع إيران ووجودها وحلفائها بالقرب من خط وقف إطلاق النار على الجبهة مع سوريا، لكنها في السياسة مع روسيا تبدي حرصاً مستمراً على التقارب والتفاهم رغم ما بين الطرفين من تباعد في الموقف من القضية السورية وملفاتها، وهي حريصة كل الحرص، رغم ما يظهر من تشنجات في العلاقة مع الولايات المتحدة حول الموقف من سوريا، على أن تحصل على موافقة أميركية على الخطوات التركية هناك، والأخيرة لا تتأخر في ذلك، وقد حظيت عمليات تركيا الثلاث في سوريا بموافقة أميركية.
ولا يحتاج إلى تأكيد قول، بأن أهم الأطراف الفاعلة في تقاسم الأدوار والسياسات، هي الولايات المتحدة، التي تمارس دوراً مزدوجاً؛ فهي من حيث المبدأ مثل بقية الأطراف لها وجود عسكري رمزي يمثله جنود وقواعد في عدة مناطق مدعوم بقواعد نشطة في بلدان الجوار وقريباً منها، يضاف لما سبق، وجود حلفاء هم قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل ميليشيا الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري (PYD) نواتها الصلبة، والموصوفة بأنها الأقوى بين الميليشيات السورية، والمستعدة إلى أن تسير مع واشنطن حتى النهاية.
الأهم فيما تقوم به واشنطن، أنها تضع نفسها في مكانة عراب، يشرف على كل المتدخلين، يدقق في استراتيجياتهم وسياساتهم، فيعلن الرضا أو الغضب حيالها علناً أو بطريقة مواربة، وإذا تطلب الأمر منه مبادرة إزاء طرف من الأطراف، فإنه يبادر، كما تم في هجماته على أهداف لنظام الأسد، أو في هجومه الصاعق على مجموعة المرتزقة الروسية «فاغنر» قرب دير الزور، غير أن اعتراضاته واحتجاجاته على سياسات ومواقف بعض الأطراف، لا تجعله يذهب إلى الحسم ضدهم، الأمر الذي ساهم في بقاء واستمرار سياساتهم في سوريا، التي تعارض واشنطن بعضها، لكن بصورة غير جدية..
وهذه إشارة خاصة إلى إيران، التي تدخلت واستمر تدخلها طوال أكثر من 9 سنوات مضت، من دون أن تقوم واشنطن بأي عمل جدي سوى التصريحات، والعقوبات، التي صارت إيران تتعيش عليها.
خلاصة أدوار وسياسات الأطراف المتدخلة في سوريا، أنها تتواصل بمستويات معينة من التوافق والرضا والسكوت لتنفيذ استراتيجياتها، وتطبق سياسات تتوافق معها بالقوة الفجة وبالقوة الناعمة أحياناً، وتذهب إلى تفاهمات واتفاقات، وتمارس سياسة الصبر وتقطيع الوقت في أحيان أخرى.
ولأن واشنطن كانت أحد هذه الأطراف، فإنها تزيد إلى ذلك رعايتها للحالة العامة والقيام بضبطها.
ويتحمل السوريون نتائج كل ما يترتب على ما تقدم، ويدفعون فواتيره، من دون أن تتحقق لهم مصلحة حتى لو كانت رؤية ثقب في نهاية النفق، يوحي بأن حلاً لقضيتهم يمكن أن يتم في وقت قريب.
المصدر: الشرق الأوسط