ترامب وسلام الطاووس

دلال البزري

                            

استفاق ترامب يوماً ولم يجد أحداً من حوله يمجّده. شعر بالوحدة، بالبرود، فسحب مرآته بلهفة، وطرح عليها السؤال إيّاه: “يا مراية… يا مراية… من يكون أعظم منّي في هذا الكوكب؟”. تجيبه المِرآة الناصحة: “لا أحد، يا مولاي. فرضتَ السلام في ستّ بقع من هذا الكوكب. وها أنت مكتوبٌ لك أن تفرضه في غزّة”. المِرآة تعرف نفَس صاحبها، وتضربه على الوتر الحساس. “سلام”… يعني جائزة نوبل للسلام! هيا يا دونالد. موعد الإعلان عنها اقترب. حضِّر خطّتكَ. والحظّ يساعد ترامب في “الخطّة”؛ الضغط على إسرائيل كبير: اعترافات بالجملة بالدولة الفلسطينية، رأي عام عالمي مناهض لها، شبيبة أميركية تميل للمرّة الأولى نحو الفلسطينيين، وكذلك عدد من النواب من الحزب الديمقراطي. ثمّ، ربّما الأهم: تجاوز نتنياهو الحدود كلّها وضربه قطر، ما ينال من مصالح ترامب، من حلفائه، من هيبته بصفته “ملك أميركا والعالم”، فيُستفَزَّ ويطلق ذاك التصريح الغريب، قبل أربعة أيام فقط من إعلانه خطّته لـ”السلام”، ويقول: “لن أسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية. لا، لن أسمح… لن يحدث… تحدّثتُ مع بنيامين نتنياهو عن ذلك، وحان الوقت للتوقّف الآن”. وبفضل هذه “الثغرة” الإسرائيلية، يتمكّن ترامب من “الضغط” على نتنياهو، بتشجيع من الجمهور الإسرائيلي المتظاهر يومياً، من أجل تحرير المحتجزين لدى حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إذ ترتفع الأصوات والصور والشعارات التي تستنجد بترامب لمساعدتها في ذلك، واعتباره “بطل سلام”. وصفتا “بطل” و”سلام” عنده مثل نداء حوريات البحر.

يُعدُّ ترامب إذن “خطّة السلام”. يعلنها، ويعلن زيارةً مقبلة للشرق الأوسط لإبرامها. في هذه الأثناء، يبتسم له الحظّ نصف ابتسامة، يعتبرها هو ابتسامةً “شرّيرةً”. “نوبل” تعلن فوز إنسان غيره بجائزة “السلام”. يأمر البيت الأبيض بالاستياء المُهذَّب، وتعلن المتكلّمة باسمه أن “منح الجائزة لغير ترامب يدلّ على أن خلفها أسباباً سياسيةً أكثر منها لاعتبارات “السلام”. فيما هو يعلن بكثير من التصميم: “حسناً… لم أنلها هذا العام، سأنالها العام المقبل”. ربّما شعر بالاقتراب من “الهدف”. فالفائزة ماريا كورينا ماتشادو، معارضة للحكم الفنزويلي، تتعاون مع الإدارة الأميركية، وتشيد بترامب الذي “دعمها”.

الخطّة بحدّ ذاتها تبدأ بوقف إطلاق النار، وليست واضحةً إلا في نقطة واحدة منها: تحرير المحتجزين الإسرائيليين الذين هم في قبضة “حماس”، الأموات منهم والأحياء، مقابل تحرير “عدد” من السجناء الفلسطينيين، الجدد والقدماء، أحياءً وأمواتاً. الباقي كلّه غامض: الدولة الفلسطينية، والضفة الغربية التي كانت قبل يومين من إعلان الخطّة موضع استنكار ترامب، وتتعرّض منذ بدء تطبيق “خطّة السلام” هذه لعمليات اقتحام وقتل وسرقة واعتداءات، ونقطة حوكمة غزّة العالقة بين أكثر من عشرة أطراف بمَن فيهم “فتح” و”حماس”، ومساعدات إعادة الإعمار الخاضعة لتجاذبات، التي لا تتدخّل فيها إسرائيل بقرش واحد.

إسرائيل تكسب بوقف إطلاق النار استعادة المحتجزين وما تبقّى من الجثث

وفي مهرجان زيارة ترامب الشرق الأوسط لإعلان “الخطّة”، لا نرى سواه. يخطب في الكنيست، يتجاوز الوقت المخصّص له، يتدخّل في القضاء الإسرائيلي، ويطالب بالعفو عن نتنياهو من تهم الفساد “التافهة” في نظره. يصف الرجل بـ”أكبر صديق للبيت الأبيض”. يهنّئه على قيادة الحرب، يعتبره منتصراً، ويقول له: “أنت أعظم قائد لزمن الحرب”، و”شريك أساس في استقرار وسلام المنطقة”، ولا يفكّرنَّ أحد منكم في أن نتنياهو مطلوب بمذكّرة توقيف دولية، تلاحقه من كل صوب اتهامات بارتكاب الفظائع في غزّة… هل يرمي ترامب بذلك إلى ردّ الجميل من مغرور إلى مغرور؟ أم تهدئة خاطر نتنياهو وخاطر الجمهور الإسرائيلي على “ضغطه” بالخطّة؟ وعندما ينتقل إلى شرم الشيخ، يوزّع إشادات وإرشادات وضمانات هنا وهناك، كلّها سريعة، ويعلن “الفجرَ التاريخي للشرق الأوسط الجديد”، “شرق أوسط مزدهر وآمن”، “بداية التغيير الكبير نحو الأفضل”.

إعادة الكلمات إلى معانيها تقتضي أن نصف “خطّة السلام” نكبة جديدة للفلسطينيين

حسن الآن. إسرائيل تكسب بوقف إطلاق النار استعادة المحتجزين وما تبقّى من الجثث. نتنياهو يذعن لـ”توجيهات” ترامب، الذي يكبح جنونه بالحرب (هل من المبكّر في هذه الحالة التكلّم عن تراجع “السيادة الإسرائيلية” أمام الداعم الأميركي؟). الفلسطينيون، الغزّيون، ماذا كسبوا؟… وقف إطلاق نار نسبي جدّاً. أي أن إسرائيل تستمرّ في قتل الغزّيين، وبكل أنواع الأسلحة، ولكن في نطاق أضيق قليلاً من السابق. يومياً يسقط منهم ما لا يقلّ عن عشرة شهداء، كما في مجزرة حيّ الزيتون منذ أيام. الخراب الذي عادوا إليه بعدما دمّرت إسرائيل بيوتهم وأحياءهم ومياههم وكهرباءهم. أمواتهم الذين لم ينتشلوهم من بين الركام، فيما جثّة إسرائيلية أو اثنتين أو ثلاث تكاد “تعرقل” وقف إطلاق النار. السجناء الفلسطينيون الباقون في السجون الإسرائيلية (عددهم حالياً تسعة آلاف)، والكثير من السادية الثأرية التي تنضح من حال السجناء المُحرَّرين. معبر رفح الذي يُغلق ثم ُيعاد فتحه بقرار إسرائيلي، فتخضع له المساعدات الداخلة إلى غزّة، فتختلّ العودة إلى الحياة، المتعثّرة أصلاً بألف صخرة وصخرة. منع الفرحة ومنع الحزن. منع الحداد على الشهداء. منع المراسم الدينية عليهم. احتلال إسرائيل لما يضاهي 60% من غزّة. ثمّ أخيراً مشروع “ريفييرا العميق”، ولصاحبه نفسه، دونالد ترامب. هل نذكره؟ مشروع الاستيلاء على غزّة وبناء الفنادق والمطاعم والمسابح، وتحويلها “منتجعاً شرقَ أوسطي دافئاً” يدرّ المليارات. لم يعد يتكلّم عنه، ولكنّه لم يتراجع عنه أيضاً. خلال زيارته الاحتفالية إلى شرم الشيخ، سأله صحافي عن مشروع “ريفييرا”، فأجابه بأنه لا يعلم شيئاً عن المشروع، ولا يتذكّر أنه “تراجع عنه”. يعامل مشروعه بأريحية من أولى المهمة إلى أقرب الناس إليه، أي صهره جاريد كوشنر، عبقريّ الصفقات العقارية.

مع ترامب، اعتدنا تسمية الأشياء بغير أسمائها. فتلبيةً لرغبته المتواصلة بالتفخيم، يحتاج ترامب، إذا أراد فعلاً نيل جائزة نوبل للسلام، أن يؤمّن مشاهد “السلام”، وهو في صلبها. أن يعيد ويزيد في إنجازاته “السلمية” في العالم. ترك نتنياهو يقتل ويدمّر، وأحياناً استعجله: “اقضِ عليهم نهائياً”. وفي لحظة ركّب في رأسه عنوان “السلام” خريطةَ طريق لإنقاذ نتنياهو من جنون العظمة الذي استولى عليه، فضرب بيد من حديد، وأعدّ خطته لـ”السلام” من إحدى وعشرين نقطة… والبقية نعرفها. لكن إعادة الكلمات إلى معانيها تقتضي أن نصف “خطّة السلام” هذه وتنفيذها بأنها “نكبة” جديدة للفلسطينيين، أين منها نكبتهم الأولى!

هذا كلّه لا يهمّ ترامب الآن. إنه مشغول بمشروع سلام بين روسيا وأوكرانيا. ولن يتلهّى في التفاصيل بين إسرائيل وغزّة، إلا من طرف شفتيه. فهو أمّن مشاهد فخمة، و”خالدةً”، عن إرادته لـ”السلام”، في مشروعه “السلمي السابع”، من بين النجاحات المبهرة التي حقّقها بين ما يضاهي نصف الكرة الأرضية وبين نصفها الآخر… يكفيه المشهد. يذكّر مرآته به ليل نهار، ويبتهل إليها، هي الأصدق من بين كل مدّاحيه المنافقين.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى