نايجل فاراج زعيماً لـ”بريطانيا الصغرى”

طارق النعيمات

تضع استطلاعات الرأي أخيراً زعيم حزب الإصلاح اليميني (الشعبوي)، نايجل فاراج، في صدارة المتنافسين على حصد أكبر عددٍ من مقاعد مجلس العموم البريطاني. أمرٌ كان يبدو نكتةً ثقيلة قبل سنوات قليلة، يومَ كان فاراج يتنقّل بين حانات المملكة المتحدة مُبشِّراً باستعادة “المجد البريطاني”، ووقف الهجرة، وقطع الصلة نهائيّاً ببروكسل، وبتدخّلات الاتحاد الأوروبي المزعومة. آنذاك رأى كثيرون أن تلك مجرّد أحلامٍ لرجلٍ أخفق سبع مرّات في دخول البرلمان، وتقلّب في قيادة أحزابٍ هامشية. لكنّ تتابع الوقائع أظهر أنّ فاراج لم يكن “مزحة”، بل هو وافدٌ سياسي ثقيل، حتى صار (وفق توقّعات حديثة) مرشّحاً محتملاً لطرق باب 10 داونينغ ستريت، لقيادة ما يراه هو “بريطانيا العظمى”، ويراه خصومه مشروع “بريطانيا الصغرى”.

ووفق استطلاعٍ حديث لـ”يوغوف”، قد يحصد “الإصلاح” نحو 311 مقعداً (أقلّ بـ15 مقعداً من الأغلبية المطلقة)، وهي نتيجة تضع فاراج عمليّاً على عتبة الحكم. وتشير التقديرات إلى احتمال انتزاع الحزب قرابة 231 مقعداً من حزب العمّال الحاكم، فيما يتعرّض المحافظون لانزياحٍ متواصلٍ نحو يمينٍ شعبوي، بما يسمح لـ”الإصلاح” باقتناص مقاعدَ إضافيةٍ من قاعدتهم التقليدية إلى حدٍّ قد يهبط بالمحافظين إلى ذيل الأحزاب التقليدية بنحو 78 مقعداً خلف “الديمقراطيين الأحرار”، وهي هزيمةٌ ستكون تاريخيةً لحزب تشرشل وثاتشر، إذا صدقت الاستطلاعات.

ظهر صوتُ فاراج مبكّراً حين انتُخِب نائباً في البرلمان الأوروبي عام 1999، ثمّ قاد حزب استقلال المملكة المتحدة (يوكيب) إلى فوزٍ تاريخي في انتخابات البرلمان الأوروبي 2014، متقدِّماً على المحافظين والعمّال للمرّة الأولى في التاريخ الحديث. وقد ترافق ذلك مع تصاعد النزعات الانفصالية عن الاتحاد الأوروبي داخل المحافظين، وازداد الضغط على رئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون، ليتعهّد باستفتاء الخروج عام 2016. ظنّ كاميرون أنّ معسكر الخروج سيُهزَم ويصمت، لكنّ النتيجة جاءت معاكسةً بفارقٍ ضئيل، لتدخل بريطانيا أكبر أزماتها السياسية منذ الحرب العالمية الثانية. كان فاراج أحد أبرز وجوه حملة الخروج، ثم أسّس حزب بريكست، وتصدّر به انتخابات أوروبا 2019، قبل إعادة تشكيله باسم “الإصلاح”. ومنذ ذلك الحين، استفاد فاراج من تخبُّط الأحزاب عقب “بريكست”، ومن تراجع مستوى المعيشة وارتفاع الغلاء والضرائب، ومن آثار جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، ومن تراجُع ترتيب الاقتصاد البريطاني عالمياً مع نموٍّ شبه معدوم، فبدت خطابات الأحزاب التقليدية أبعد فأبعد من تقديم حلولٍ عملية مُقنِعة.

تفادي المآل الشعبوي يقتضي مراجعةً للنموذج النيوليبرالي وبناءَ بديلٍ يركّز على العدالة الاجتماعية

لاحقت فاراج وحزبه انتقاداتٌ وشبهاتٌ متعدّدة. فقد أُثيرت تساؤلات عن شبكة التمويل المحيطة بحملة الخروج، خصوصاً صِلات المموّل البارز آرون بانكس بروسيا، من دون أن تفضي تلك الشبهات إلى إدانةٍ جنائية لفاراج. كذلك اعترف ناثان غيل، القائد السابق لـ”الإصلاح” في ويلز، وعضو البرلمان الأوروبي سابقاً، بثماني تُهَمِ رِشى مرتبطةٍ بتلقّي أموالٍ مقابل مواقف مؤيِّدة لروسيا في 2018–2019، ما أثار أسئلةً أوسعَ عن تدقيق المرشّحين وآليات الحوكمة داخل حزبٍ ينمو بسرعة. وقبل ذلك، تفجّرت قضية إغلاق حساب فاراج لدى بنك ناتويست، التي استثمرها لتغذية سردية “النبذ والمؤامرة من المؤسّسة الحاكمة”، مع أنّ المراجعات القانونية أشارت إلى تعقيداتٍ إجرائية أكثر منها مؤامرةً سياسية صِرفة.

فما الذي حدث لبريطانيا إذاً؟ وكيف وصلت (وهي التي طالما تباهت بعقلانيةٍ سياسيةٍ عابرةٍ للطبقات) إلى حافة شعبويةٍ تُقارِب “ترامبيّة” أميركا و”لوبانيّة” فرنسا؟… ليست ظاهرةُ فاراج بعيدةً عن مدٍّ يمينيٍّ أوروبي أوسع، إذ تتقدّم قضايا الهُويَّة والثقافة والهجرة والسكن والغلاء لتُصبح محرّكاتٍ رئيسة للتصويت والاصطفاف السياسي، وتتغذّى نزعةُ “مناهضة المؤسّسة”، والاعتقادُ بأن “نخباً نيوليبرالية فاسدة” فرضت كلفة العولمة على الطبقات العاملة. يمتدّ هذا النمط عبر “الثلاثيّ الأوروبي” (برلين – لندن – باريس)، وتدعمه موجةٌ شعبويةٌ اكتسحت المركز السياسي في واشنطن.

لن يتبقَّى من حلمِ “عودة المجد الإمبراطوريّ” إلّا بقايا “بريطانيا الصغرى”

يستثمر اليمين هذا المشهد مستفيداً من تشرذم معسكري اليسار والوسط (بين اشتراكيين ديمقراطيين ويسار راديكالي)، فتتوزّع الأصوات، وتتلاشى القدرة على تشكيل بديلٍ مستقرّ، فيما يتقدّم خطابٌ بسيطٌ يَعدُ بحلولٍ فورية لملفّاتٍ مُركّبة. خلال العقدين الماضيين، تقاربَت برامج الأحزاب التقليدية تحت مظلّة النيوليبرالية، فتراجعت جدوى “الاختيار” الانتخابي في نظر كثيرين، واشتدّ إحساس الظلم التوزيعي مع تآكل شبكات الدعم الاجتماعي. هنا يقدّم اليمين وصفاتٍ سهلة (وليست بالضرورة قابلةً للتطبيق) تخاطب المشاعر أكثر من الحقائق، وتستثمر نزعاتٍ معادية للأجانب والمهاجرين.

لم يَعُدِ اليمينُ الشعبوي وافداً هامشيّاً، بل إنّه يقتربُ من السلطة ويُطبّع ثقافةَ الشكّ بالمؤسّسات والديمقراطية. والخطر لا يقتصر على الفوز الانتخابي، بل يمتدّ إلى إعادة تعريف “المقبول” سياسيّاً، إذ يصبح الطعنُ في قواعد النظام الديمقراطي أمراً عاديّاً، وتُطرَح العودةُ إلى قوميّاتٍ سلطويّة بوصفها خياراً “معقولاً”. وتفادي هذا المآل يقتضي مراجعةً جادّةً للنموذج النيوليبراليّ سياسيّاً واقتصادياً، وبناءَ بديلٍ يركّز على العدالة الاجتماعيّة وتمكين الناس من الثروة والسلطة عبر توزيعٍ أكثرَ إنصافاً؛ كذلك يقتضي توحيدَ قوى اليسار واليمين المعتدل، وانخراطَ المهاجرين (ولا سيّما الأجيال المولودة في أوروبا) في الدفاع عن حقوقهم، وعن مؤسّسات الحكم، وإلّا فالمستقبلُ الأوروبيّ مُهدَّدٌ بعودة أشباح القوميّة العنصريّة على نحوٍ يذكّر بتجارب ثلاثينيّات القرن الماضي وما جرّته من ويلاتٍ على أوروبا نفسِها وعلى العالم.

سيكون فاراجُ سعيداً بـ”إحياء” مجدِ الإمبراطوريّة البريطانيّة العتيدة، غير أنّ تلك الأحلام لن تكون في الحقيقة إلّا “جزيرةً معزولةً” تتنازعها نزعاتٌ انفصاليّةٌ في اسكتلندا وأيرلندا الشماليّة، ولن يتبقَّى من حلمِ “عودة المجد الإمبراطوريّ” إلّا بقايا “بريطانيا الصغرى”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى