
المراد بالدولة الاجتماعية في الأدبيات السياسية الحديثة: الدولة التي لا تكتفي بوظائفها السيادية والأمنية التقليدية، بل تتجاوز ذلك إلى تبنّي مسؤولية ضمان رفاه المواطنين، وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة، وتأمين حقوق الناس الأساسية مثل الحقّ في التعليم والصحّة والعمل، والسكن اللائق، والضمان الاجتماعي، والعيش الكريم في بيئة سليمة. ومن هذا المنظور، تلعب الدولة دوراً طليعياً في تنظيم العلاقات الاقتصادية، وتقليص الفوارق الطبقية والجهوية، من خلال اعتمادها سياسات رشيدة تهدف إلى إعادة توزيع الثروة، وتوفير خدمات القرب، وتشييد المرافق العمومية، وجعل الإدارة في خدمة المواطن. والناظر في سيرة الدور الاجتماعي للدولة في سياق تونسي، يتبيّن أنّه قد بلغ أوجه مع بدايات قيام دولة الاستقلال، غير أنّه آل إلى التراجع بالتدريج مع أواخر عهد الحبيب بورقيبة، مروراً بحكم زين العابدين بن علي، وصولاً إلى عشرية الثورة وانتهاءً بحكم قيس سعيّد. ولذلك تجلّيات عدّة، وأسباب وتداعيات شتّى.
كان الدور الاجتماعي للدولة أحد أعمدة العقد الاجتماعي بين المنظومة الحاكمة والمواطنين إبّان الاستقلال. وفي هذا السياق، أسّس الحبيب بورقيبة مفهوم “الدولة الراعية”، حين اعتبر أنّ بناء الدولة لا يقتصر على إقامة المؤسّسات السياسية، بل يمتدّ إلى ضمان التنمية ونشر التعليم، وتعميم الرعاية الصحّية. ومن ثمّ، ارتبطت الدولة في الوعي الجمعي التونسي بمفهوم “الحماية الاجتماعية” وبتحقيق العدالة، وهو ما منحها مشروعيةً تاريخيةً معتبرةً لدى الجمهور. غير أنّ هذا النموذج بدأ يتصدّع منذ مطلع الثمانينيّات، حين دخلت البلاد أزمةً اقتصاديةً خانقةً دفعت النظام إلى القبول بإملاءات صندوق النقد الدولي سنة 1986، والدخول في “برنامج الإصلاح الهيكلي” الذي مثّل نقطة تحوّل في مسار الدولة ودورها الاجتماعي. إذ أدّى ذلك التوجّه إلى تقليص الإنفاق العمومي، ورفع الدعم التدريجي عن المواد الأساسية. وبذلك، بدأت الدولة تتخلّى عن مسؤولياتها الاجتماعية لصالح منطق السوق، وتحوّلت من “دولة راعية” إلى “دولة ضابطة”، تكتفي بتأمين التوازنات المالية على حساب التوازنات الاجتماعية.
حاول النظام، في عهد زين العابدين بن علي (1987-2011)، الحفاظ ظاهرياً على صورة الدولة الاجتماعية التي ترعى مواطنيها وتؤمّن الخدمات الأساسية لهم، غير أنّ هذا الدور كان في جوهره مشروطاً وموجّهاً بما يخدم أهداف النظام السياسية. فقد تبنّى بن علي خطاب “التنمية المستدامة” و”التضامن الوطني”، ورفع شعارات مثل “تونس الغد” و”عهد الأمان الاجتماعي”، لكنّه في الواقع واصل تطبيق سياسات اقتصادية نيوليبرالية عمّقت الفوارق الطبقية والجهوية. ورغم تحقيق بعض المؤشّرات الإيجابية في مجالات التعليم والصحّة والبنية التحتية، فإنّ تلك المكاسب لم تكن سوى واجهة لتجميل نظام يقوم على الزبونية والولاء السياسي، إذ ارتبطت فرص التشغيل والاستفادة من الخدمات الاجتماعية غالباً بالانتماء الحزبي أو القرب من دوائر السلطة. كما شهدت تلك المرحلة انتشار الخصخصة، ما أدى تدريجياً إلى تراجع جودة الخدمات العمومية. وبذلك، تحوّل الدور الاجتماعي للدولة في عهد بن علي من وظيفة قائمة على العدالة والتكافؤ إلى أداة للضبط الاجتماعي، تُستخدم لضمان الولاء والاستقرار السياسي أكثر مما تُوجَّه لتحقيق المساواة والإنصاف بين المواطنين. ومع اتّساع الفجوة بين الجهات الساحلية والمناطق الداخلية، وبين الطبقات الميسورة والفئات الفقيرة، صار التفاوت الجهوي والاجتماعي أحد أبرز مظاهر تراجع الدور الاجتماعي للدولة، وأحد الأسباب العميقة لانفجار الحركات الاحتجاجية، بدءاً من انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 وصولاً إلى ثورة 17 ديسمبر/ كانون الأول – 14 يناير/ كانون الثاني 2011.
رغم تحقيق بعض المؤشّرات الإيجابية في مجالات التعليم والصحّة والبنية التحتية، فإنّ تلك المكاسب لم تكن سوى واجهة لتجميل نظام يقوم على الزبونية والولاء السياسي
عبّرت الثورة التونسية في أحد أبعادها عن رفض تراجع الدور الاجتماعي للدولة، وعن مطالبة الجماهير بإعادة تأسيس دولة عادلة تستجيب لحاجات المواطنين. غير أنّ مرحلة ما بعد الثورة لم تشهد استعادةً فعليةً لهذا الدور، بل تواصلت السياسات النيوليبرالية نفسها، التي كرّستها العقود السابقة بفعل الضغوط الدولية والبيروقراطية الإدارية والاحتجاجات المطلبية والنقابية المكثّفة والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وغياب رؤية وطنية واضحة لبديل تنموي واجتماعي جديد. فقد اكتفت الحكومات المتعاقبة بإدارة الأزمات من دون القدرة على وضع سياسة اجتماعية شاملة تعيد للدولة مكانتها ضامنةً للعدالة الاجتماعية.
في عهد الرئيس قيس سعيّد (منذ 2019)، عاد النقاش حول الدور الاجتماعي للدولة إلى الواجهة، خصوصاً بعد حركة 25 يوليو/ تموز (2021) التي اعتبرها أنصاره تصحيحاً لمسار الثورة. فقد قدّم سعيّد نفسه بوصفه نصيراً للفئات المهمّشة ومدافعاً عن “الشعب في مواجهة اللوبيات”، مؤكّداً ضرورة استعادة الدولة دورها الاجتماعي وتحقيق العدالة في توزيع الثروة بين الجهات. غير أنّ هذا الخطاب، رغم طابعه الاجتماعي، لم يُترجم إلى سياسات اقتصادية واجتماعية ناجعة. وفي ظلّ غياب برنامج تنموي واضح، ظلّ الدور الاجتماعي للدولة باهتاً ومحكوماً بالقيود المالية وتقاليد التكلّس الإداري. وبدت حكومات الرئيس المتعاقبة عاجزةً عن وضع حدّ لسطوة البيروقراطية، وارتفاع الأسعار الجنوني، وتدهور المقدرة الشرائية للمواطنين. ومع أهمّية بعض التدابير الرئاسية، كإطلاق مبادرات دعم للفقراء ومكافحة الاحتكار، وإحداث شركات أهلية، فإنها لم تغيّر واقع التفاوت الاجتماعي. وبقي الدور الاجتماعي للدولة في عهد سعيّد متأرجحاً بين خطاب شعبوي يَعِدُ بالعدالة وممارسة واقعية تُكرّس استمرار الأزمة الاجتماعية التي تعاني منها تونس منذ عقود، بحسب مراقبين.
لا تكتفي الدولة الاجتماعية بوظائفها السيادية، بل تضمن رفاه المواطنين وعدالتهم الاجتماعية
في مجال التشغيل، فقدت الدولة في العقد الماضي قدرتها على امتصاص البطالة عبر القطاع العمومي كما كانت تفعل في الماضي. ومع تراجع الاستثمارات العمومية، أُغلق أمام خرّيجي الجامعات أفق الاندماج المهني، ما ولّد شعوراً بالإقصاء والتهميش، خصوصاً في المناطق الداخلية. كما أدّى ضعف سياسات التشغيل إلى انتشار أشكال العمل الهشّ، وتوسع القطاع غير المنظم الذي بات يضمّ أكثر من نصف اليد العاملة في تونس.
وفي مجال التعليم، ورغم بقاء نسب التمدرس مرتفعة، فإنّ الدولة تبدو غير قادرة على تحقيق العدالة التعليمية بين الفئات والجهات. فقد شهد التعليم العمومي تدهوراً متواصلاً في البنية التحتية، والمناهج، ومستوى التأطير، بالتوازي مع توسّع التعليم الخاص الذي صار بديلاً من المنظومة التربوية العمومية بالنسبة إلى من يملك القدرة على دفع الدنانير الكثيرة. وبذلك، تحوّل التعليم، الذي كان وسيلةً للترقّي الاجتماعي في العقود الأولى للاستقلال، إلى مجال جديد لتكريس اللامساواة الطبقية.
أمّا في القطاع الصحّي، فقد تراجع مستوى الخدمات العمومية بشكل لافت، سواء في التجهيزات أو في الكفاءات البشرية أو في التمويل. وباتت المستشفيات العمومية تعاني من نقص الأدوية، وضعف الصيانة، وهجرة الكفاءات نحو الخارج أو نحو القطاع الخاص. ومع تدهور الخدمات، أصبح المواطن البسيط يجد صعوبات في تلقّي العلاج، ذلك أنّ التداوي في القطاع الخاص باهظ التكاليف، ما زاد من عمق الفوارق الطبقية. وتراخي بعض الأطراف المسؤولة في تنفيذ الوعد الرئاسي بإحداث المدينة الطبّية بالقيروان دليل على تراجع الدولة عن الاستثمار في الصحّة العمومية، وتعبير عن تحوّل في مفهوم الدولة نفسها، من دولة “الحق في الصحّة للجميع” إلى دولة “تأمين الاستشفاء لبعض الناس مقابل تكاليف باهظة”.
حين تفشل الدولة في تحقيق الرفاه العام، تفقد شرعيتها السياسية وعمقها الشعبي
لا يمكن فهم تراجع الدور الاجتماعي للدولة في تونس بمعزل عن التحوّلات البنيوية في النظام الاقتصادي العالمي، ولا عن طبيعة الخيارات التنموية الوطنية. فالانتقال إلى اقتصاد السوق، وتبنّي سياسات الانفتاح والتجارة الحرّة، وغياب سياسة صناعية وطنية، وإدارة تفاعلية متطوّرة، كلّها عوامل جعلت الدولة تفقد أدواتها في التوجيهين الاقتصادي والاجتماعي. كما ساهمت الأزمات المالية والديون المتراكمة في تضييق هامش الدولة الاجتماعي، إذ أصبحت التزاماتها تجاه الدائنين الدوليين أولويةً على حساب الإنفاق الاجتماعي. فالاقتراض المتكرّر من الجهات المانحة فرض على تونس سياسة تقشّف قاسية، تمثّلت في تجميد الأجور في القطاع العمومي، وتقليص الدعم، ورفع الأسعار. وتهدف هذه الإجراءات من الناحية الرسمية إلى تحقيق “الإصلاح المالي”، إلّا أنّها عمّقت في الواقع الأزمة الاجتماعية، ودفعت الطبقات الوسطى والفقيرة إلى حافة الانهيار.
في مستوى التداعيات، يُمكن الإشارة إلى أنّ تقصير أيّ منظومة حاكمة في تأمين دورها الاجتماعي والتنموي الشامل يؤدّي إلى أزمة في الشرعية السياسية. فالدولة التي لا تقدر على تحقيق الرفاه العام وأسباب العيش الكريم، تفقد على التدريج عمقها الشعبي، ويتحوّل شعور المواطنين إزاء مؤسساتها إلى اللامبالاة أو الإحساس بالإحباط، أو الانخراط في موجات احتجاجية غاضبة ضدّها، غير معلومة العواقب. ذلك أنّ شرعية الأنظمة السياسية الحديثة تنبني على قدرة الدولة على حماية مواطنيها ورعاية مصالحهم وتأمين حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والخدمية والسياسية لا محالة.
ختاماً، يتطلّب تفعيل الدور الاجتماعي للدولة في تونس إصلاحاً هيكلياً عميقاً قوامه تكريس ثقافة المواطنة، وإعمال جدلية الحقّ والواجب، واعتبار المسؤولية تكليفاً لا تشريفاً، وتحقيق التوازن بين مقتضيات الاستقرار الاقتصادي وتطلّعات الناس للعدالة والكرامة والرّفاه، على نحو يعيد بناء الثقة بين مؤسّسات الدولة والمواطنين على أساس الشفافية والمشاركة والإنصاف.
المصدر: العربي الجديد