بين وثائق الحرب وشعارات “وحدة الساحات”.. هل خذل “محور المقاومة”غزة؟

ماهر حسن شاويش

بعد مرور عامين على حرب غزة الأخيرة، نشر “مركز مئير أميت للمعلومات حول الاستخبارات والإرهاب” الإسرائيلي وثائق قال إنها عُثر عليها داخل القطاع.
الوثائق، بحسب المركز، تتضمّن مراسلات موقّعة باسم يحيى السنوار، بينه وبين الإيراني محمد سعيد إيزدي المعروف بـ”الحاج رمضان”، الذي قُتل لاحقًا في غارة إسرائيلية على طهران.

وتشير الوثائق إلى أن التخطيط لهجوم السابع من أكتوبر بدأ مباشرة بعد حرب “سيف القدس” (2021)، وأن السنوار طلب من الإيرانيين تمويلًا بقيمة نصف مليار دولار لدعم عملياته، وطرح سيناريوهين رئيسيين:

  1. هجوم مشترك تشارك فيه حماس وحزب الله وإيران، وقد رفضته طهران فورًا.
  2. هجوم من حماس مع “جبهة إسناد نشطة”، وافقت عليه إيران وقدّمت بموجبه التمويل.

هذه المعطيات تتقاطع مع ما كان يُروّج له قادة “محور المقاومة” في حينه حول خطة توحيد الجبهات أو “وحدة الساحات”، التي رفعت شعار “القدس مقابل حرب إقليمية”، واعتبرت أن المحور بات واقعًا عسكريًا وسياسيًا في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة.
لكن حين اندلعت الحرب فعلاً، بدا التناقض بين الشعار والميدان صارخًا.

عن الوثائق ومصدرها

مركز “مئير أميت” هو مؤسسة شبه رسمية تابعة لمنظومة الأمن الإسرائيلي، تنشر ما تسمح به الرقابة العسكرية بعد “تنظيفه” استخباريًا.
لذلك، فإن أي وثيقة تصدر عنه لا يمكن قراءتها بمعزل عن حرب السرديات، أكثر مما هي مادة بحثية خالصة.

ومع ذلك، ورغم الشك المنهجي بمصدرها، فإن مضمون الوثائق يستحق القراءة والتحليل النقدي، لأنها تفتح نافذة على طبيعة العلاقة بين حماس وإيران، وكيف تتقاطع المصالح وتتناقض الرؤى بين الطرفين.

في مضمون الوثائق

إذا صحّ ما ورد من مراسلات بين السنوار والحاج رمضان، فهي تشير إلى:
• أن فكرة العملية الواسعة ضد إسرائيل نوقشت فعلاً بعد “سيف القدس”.
• أن السنوار طلب دعمًا ماليًا وعسكريًا ضخمًا، وطرح فتح جبهة لبنان كشريك لا كمساند فقط.
• أن إيران رفضت الانخراط المباشر، لكنها وافقت على “جبهة إسناد نشطة”، أي على حرب بالوكالة أو “حرب ظلّ”.

ومع ذلك، تظل هذه الوثائق موضع شك مزدوج:

  1. لأنها خرجت من يد الاحتلال الذي له مصلحة في تصوير “تواطؤ إيران”.
  2. لأن جزءًا منها يبدو مصاغًا لتأجيج الخلاف بين حماس وإيران، أو بين الفلسطينيين والعرب.

سيناريوهات محتملة لقراءة مضمون الوثائق

من الممكن النظر إلى مضمون الوثائق وفق ثلاثة سيناريوهات رئيسية، لا على أنها حقائق قطعية:

  1. السيناريو الأول: أن الوثائق حقيقية إلى حد كبير، وتعكس نقاشات فعلية حول الهجوم، وهو ما يكشف عن طموح فلسطيني لدفع إيران إلى الانخراط المباشر، ومحاولة من السنوار لـ“توريطها” في مواجهة إقليمية.
  2. السيناريو الثاني: أن الوثائق مفبركة أو معدّلة جزئيًا، هدفها نزع الشرعية عن حماس بوصفها “أداة إيرانية” وتصوير الحرب كجزء من مشروع إيراني إقليمي.
  3. السيناريو الثالث: أنها خليط من معلومات صحيحة ومضافات دعائية، أي حرب سرديات بين تل أبيب وطهران، كل طرف يوظفها لتخدم روايته السياسية والإعلامية.

القراءة السياسية لما بين السطور

سواء كانت الوثائق صحيحة أو لا، فإنها حتى في ظاهرها تعكس المنطق الإيراني المعروف:
إيران تدعم لكنها لا تتورط، تموّل وتشجع لكنها تمسك نفسها عن المواجهة المباشرة.
هي تستخدم المقاومة الفلسطينية درعًا لمشروعها النووي والإقليمي، في حين كان السنوار، إذا صحّت الرسائل، يسعى لجرّها إلى مواجهة لا ترغب بها.

بكلمات أخرى: كل طرف يستخدم الآخر في حدود مصلحته.
السنوار يبحث عن رافعة إقليمية، وطهران تبحث عن ذراع ميدانية بلا كلفة سياسية مباشرة.

الأهمية التاريخية والسياسية

حتى لو كانت بعض الوثائق محرّفة أو انتقائية، فإن توقيت نشرها بعد عامين يخدم أهدافًا إسرائيلية واضحة:
• ضرب صورة حماس كمقاومة مستقلة، وتحويلها إلى “أداة إيرانية”.
• تحييد التعاطف الدولي مع غزة عبر الزعم بأن الحرب كانت “بإيعاز من طهران”.
• إحراج إيران أمام جمهورها العربي والإسلامي، وكشف حدود خطابها عن فلسطين.

ومن هنا، ينبغي التعامل مع هذه المواد بمنهج التحليل لا التصديق وقراءة السياق لا التسليم بالنتائج الجاهزة.

وحدة الساحات” بين الشعار والتجربة

منذ “سيف القدس” 2021، روّجت أطراف المحور لمعادلة “القدس تعني حربًا إقليمية”.
أي أن أي عدوان واسع على غزة أو القدس أو أي من جغرافيا المحور سيُشعل جبهات متعدّدة: لبنان، اليمن، العراق، سوريا وبالطبع فلسطين.
كانت الرسالة بسيطة وقوية:
المسّ بأي طرف يعني اشتعال المنطقة.

لكن الحرب الأخيرة (2023–2025) أثبتت أن هذه المعادلة بقيت شعارًا تعبويًا لا التزامًا استراتيجيًا، وأن “وحدة الساحات” تحوّلت إلى أداة تعبئة إعلامية أكثر منها خطة قتال حقيقية.

ما الذي حدث فعليًا في أثناء الحرب؟

  1. من لبنان:
    فتح حزب الله جبهة محدودة ومحسوبة بإيقاع مضبوط، بقرار سياسي إيراني واضح: لا حرب شاملة.
    الهدف لم يكن “نصرة غزة” بكل ما تعني النصرة بل إشغال إسرائيل ضمن الحدود المتفق عليها.
  2. من اليمن:
    إطلاق صواريخ ومسيرات رمزية للتأكيد على الانتماء للمحور، لا أكثر.
  3. من العراق وسوريا:
    مجموعات مرتبطة بإيران نفذت ضربات محدودة على قواعد أميركية، ثم توقفت بعد تفاهمات غير معلنة.
  4. من إيران نفسها:
    اكتفت بخطاب ناري ومؤتمرات دعم، من دون تدخل ميداني مباشر، وانخراطها كان رد فعل على استهدافها المباشر في الداخل الإيراني أو ضرب مصالحها ومنشآتها الخاصة في الخارج.

النتيجة الواقعية

لم يَقف “المحور” مع غزة حتى بخطابه أحيانًا خاصةً عند التنصل من معرفته بملابسات طوفان الأقصى وحيثيات التوقيت، لكنه خذلها أيضًا بالفعل الميداني المطلوب الذي يرتقي إلى مستوى الشعار المطروح.
غزة تُركت تقاتل وحدها تحت القصف لأشهر طويلة استمرّت لسنتين.
في حين بقيت الجبهات الأخرى تحسب خطواتها بدقة سياسية.
قالت الأطراف: “نحن معكم”، لكنها أضافت في السر: “لسنا مستعدين للحرب الشاملة.”

لماذا لم يتحرك المحور؟

  1. القرار في يد طهران، التي لا تريد مواجهة مع واشنطن وهي تسعى لتفاهمات نووية واقتصادية.
  2. لبنان منهك اقتصاديًا، وحرب شاملة تعني انهيارًا كاملاً.
  3. اليمن والعراق غارقان في أزماتهما الداخلية وكذلك سوريا.
  4. فلسفة المحور تقوم على الردع لا الهجوم، وعلى إبقاء الجبهات ساخنة لا مشتعلة.

هذه ليست تبريرات، بل تشخيص واقعي لبيئة القرار الإيراني الإقليمي.

الخلاصة

الوثائق – سواء كانت صحيحة أو مصطنعة – تكشف شبكة مصالح معقدة بين إيران وحماس،تقوم على الاستخدام المتبادل أكثر من التحالف العضوي.
إيران تموّل لتحصّن مشروعها، والسنوار ممثلاً عن حماس خطّط ليجرّها إلى معركة فرضها الواقع، لكن في النهاية، كلٌّ منهما بقي ضمن حساباته الخاصة.

أما “المحور”، فقد اكتفى بالخطابات والتصريحات.
لم يقف مع غزة كما يجب، وكذا خذلها بالصمت تارة والحسابات تارة أخرى.
اختار “التوازن” بدل “الالتزام”، وتركها تواجه مصيرها تحت شعار “الصبر الاستراتيجي”.

وهكذا انكشفت معادلة “القدس مقابل الحرب الإقليمية” عن فراغ عملي، وسقطت شعارات وحدة الساحات، وبقيت غزة وحدها تدفع الثمن الكامل بالدم والأنقاض.

خاتمة: نحو مراجعة شجاعة

ما كشفته الحرب والوثائق معًا ليس سقوطًا لمحور أو فصيـل، بل اختبارًا للحقيقة:
أن المقاومة كي تستمر تحتاج إلى تحالفات صادقة لا إلى شعارات عابرة، وأن النقد لا يُضعف المقاومة بل ينقذها من الخطاب الذي خذلها.

إن بناء إطار وطني مستقل للمقاومة الفلسطينية لا يتناقض مع أي دعم، بل يضمن ألا تبقى غزة لا بل فلسطين كلها ورقة في توازنات الآخرين.

فغزة قاتلت وحدها نيابة عن الجميع، ولعلّ المراجعة الجريئة تكون أول الوفاء لتضحيتها.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى